البحث

عبارات مقترحة:

السيد

كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...

الجبار

الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...

حسرات

العربية

المؤلف عبد الملك البحري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. التأمل في تسمية يوم القيامة بـــ (يوم الحسرة) .
  2. صور لبعض مشاهد الحسرة في يوم الحسرة .
  3. أمورٌ التفريطُ فيها باعث للتحسر يوم الحسرة .
  4. التحذير من طرق تؤدي للحسرة يوم الحسرة .

اقتباس

أريد انتقل بكم من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة في هذه الدقائق المعدودات، أريدكم أن تغيبوا شعوريا عن كل ما هو لكم وبين أيديكم ومن خلفكم، تصوروا القيامة بأهوالها، تخيلوا البعث بكرباته وشدائده، حتى نقف مع بعض...

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: عباد الله، أيها المؤمنون، الحياة كلها فرصة وغنيمة إذا اشتَغَلْتَ في طاعة الله سبحانه، وهي غبن وحسرة وندامة إذا ضُيعت في معصية الله، وما الناس إلا مغتنم للحياة، أو مغبون فيها.

فهنيئا للمغتنمين، حين يقال لهم في جنات رب العالمين: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:24].

وتبَّاً للمضيعين المغبونين حين يقال لهم وهم في قعر الجحيم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37].

جعلني الله وإياكم من المغتنمين للأعمار، وأعاذني وإياكم من عذاب النار.

عباد الله: لأجل هذا كان ليوم الفزع الأكبر اسم عجيب غريب يستحق منا تأملات ووقفات، إنه يوم الحسرة، هكذا سماه الله تعالى في سورة مريم، قال جل ذكره: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [مريم:39].

لا أدري عبد الله، هل استوقفك هذا الاسم يوما؟ هل سالت المدامع يوما له، أو فاضت له العبرات؟.

أيها المؤمنون: والله وبالله وتالله! لَتَرَوُنَّ الحسرة يوم الدين، ولتبصرنّ مشاهدها عين اليقين، أي والله! لترون ما أخبركم به القرآن، فريق يصيح: يا ويلتى! وآخر يصرخ: يا حسرتى! وثالث يأكل يديه قائلا: يا ليتني!.

كل ذلك صور لبعض مشاهد الحسرة في يوم الحسرة، حسرة، بل حسرات وبكاء وندامات وصراخ وتأوهات من الغافلين والغافلات والعابثين والعابثات، يوم (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) [المعارج:11-14].

عباد الله: أريد انتقل بكم من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة في هذه الدقائق المعدودات، أريدكم أن تغيبوا شعوريا عن كل ما هو لكم وبين أيديكم ومن خلفكم، تصوروا القيامة بأهوالها، تخيلوا البعث بكرباته وشدائده، حتى نقف مع بعض مشاهد الحسرة في يوم الحسرة، وما أدراكم ما يوم الحسرة؟! يوم " يُجاءُ بالموتِ كأنَّه كبشٌ أمْلحَ... فيُؤمرُ به فيُذبحُ، ويُقالُ: يا أهلَ الجنةِ خلودٌ ولا موتَ، ويا أهلَ النارِ خلودٌ ولا موتَ" رواه مسلم.

فإليكم بعض الحسرات: الحسرة على أعمال صالحة شابتها الشوائب، وكدرتها محبطات الأعمال من سمعة وعجب ورياء، حين يقع ما قاله رب السماء: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان:23].

وقال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور:39].

أرأيتم لو أن أحدنا سافر من بلد إلى آخر وفي جيبه مال كثير يؤهله أن يشتري به أرضا وبيتا، ثم فقد هذه الفلوس واكتشف أنها سرقت منه؛ كيف سيكون حاله؟.

أو: لو أن شخصا اغترب في دولة من الدول سنين طويلة، ثم عاد يحمل الملايين يؤمل بها إقامة مشاريع استثمارية وشراء بيت وأرض وعقار له ولأولاده؛ ولكنه حين وصل بلده إذا بالملايين كلها مزيفة! والله! لربما قتلته الحسرة أو انتحر أو أصيب بالجنون. وهكذا.

هؤلاء يقدمون أعمالا صالحة؛ لكنها لم تخل من سمعة وحب شهرة ورياء، فيتفاجؤون بها تقودهم إلى النار بعد أن كانوا يؤملون دخول دار الأبرار!.

أحدهم كان عالما حافظا للقرآن، وآخر كان متصدقا منفقا، وثالث كان مجاهدا، لم تزل الشوائب والمحبطات تنخر في جسد أعمالهم تلك حتى جعلتهم أول وقود النار، كما ورد ذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة!.

ثانيا الحسرة على التفريط في طاعة الله وتصرم العمر القصير في اللهث والجري وراء الدنيا حرامها وحلالها، والغفلة عن الآخرة وأهوالها.

اسمع -رحمك الله- إلى حديث القرآن عن هذا النوع من الحسرة: قال جل شانه: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56].

وا ضيعة العمر! أرايتهم كيف يطالبون الرجعة إلى الدنيا ويتمنون العودة؟! وقد ذكر في أكثر من موضع في القرآن في آيات تخلع القلوب وترجف لها الأفئدة وتقشعر الجلود، لا سيما وأن الله لا يذكر طلبهم للعودة إلى الدنيا إلا ضمن مشاهد مفزعة مرعبة من مشاهد القيامة، إما وهم واقفون على شفير جهنم يستعدون للرمي والإلقاء، كما قال -سبحانه-: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام:27].

وقال: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام:27-28].

وإما يطلبون العودة بعد صراخ تشيب له الرؤوس، كما قال -سبحانه-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37].

فالمشكلة الكبرى في الجواب الذي يجابون به، جواب يزيدهم حسرة إلى حسرتهم! (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)

ومرة يطلبون العودة ووجوههم تُشوَى وتُقَلّب وتلفحها النار فتسودّ، (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنون:104-107].

ثالثا: الحسرة على التفريط في النفس والأهل والمال، أن يقيهم من عذاب جهنم، يوم تخسرهم مع نفسك بعد أن فتنت بهم، فذلك الخزي والعار، والحسرة والنار.

وما أظنك -عبد الله- قد تأملت هذا المشهد بقلبك كثيرا، وإلا لما ضيعت أبناءك وأهملت تربيتهم، وضيعت زوجتك وأقاربك ولم تعلمهم الدين.

يقول الله: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:15].

الله يريد منا إنقاذ أنفسنا وأهلينا من النار، ونحن نتقحم فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].

بعضٌ على بعضٍ يُجَرِّدُ سيفَه

والسهمُ مِنِّي نحو صدري يرسو

رابعا : الحسرة على أعمال صالحة كان الأمل عليها بعد الله، ولكنها ذهبت لغيرك وانتفع بها وبقيت أنت مفلسا! كيف ذلك؟ يا ترى كيف تصلي وتصوم وتحج وتزكي ثم يحولها إلى صحيفة غيرك، والله يقول: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) [فصلت:46]؟ فكيف ذهبت إلى غيرك؟.

أنت السبب! ظلمتهم، سببتهم، ولغت في أعراضهم، لطمت هذا وشتمت هذا وغالطت هذا، فأخذت من ماله وامتنعت من التوقيع على المعاملة حتى يدفع حق القات، فأخذتها منه ظلما وجلست في المجالس تفري أعراض الناس وتغتابهم وتتكلم فيهم، فعوضهم الله يوم القيامة من حسناتك؛ فيا عظم الحسرة عليك!.

قال -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار".

خامسا : حسرة جلساء أهل السوء الذين كانوا يقودونهم إلى الرذيلة ويصدونهم عن الفضيلة، إنها-ورب الكعبة!- لحسرة عظيمة يعبرون عنها بعض الأيدي! (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَني اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [الفرقان:27].

فلان الذي علمك السيجارة، فلان الذي دلك على مجالس البلوت والورق والسهرات والضياع، فلان الذي أبعدك عن المسجد، فلان الذي دلك على القنوات الفاجرة والمواقع الإباحية على الشبكة العنكبوتية، فلان هذا؛ لأجل صحبته، تأكل يديك يوم الحسرة، وعلى الملأ تصيح (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) [الفرقان:28].

ولو جلسنا نعدد حسرات يوم القيامة لطال بنا المقام؛ ولكن يمكن سرد بعضها سردا.

فهناك حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق، فهذا قلد حزبه، وهذا شيخه، وهذا سادة قبيلته، وهذا رئيسه ومسؤوله، تقليدا بالباطل، أطاعوهم في معصية الله. قال الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة:165].

وهناك حسرة أهل النار حين يناديهم أهل الجنة: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف:44].

وهناك حسرة أجلّ حين ينادون مالكا: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف:77].

ومنتهى الحسرة... حين ينادون ربهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنون:107].

عباد الله: هذه بعض مشاهد الحسرة والندامة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فهل تراك نجوت بعملك من هذه المشاهد؟ أم أنك متصف بصفات أهلها؟.

رياءٌ وسمعةٌ وشهرة وحبُّ ثناء طريق إلى الحسرةِ، التفريط في طاعة الله، وتصرم الأعمار في اللهث وراء الدنيا، كمن يفرط في هذه العطلة فلا يستغل وقت فراغه في طاعة الله، طريق أيضا إلى الحسرة؛ عدم تربية الأولاد والزوجة والأهل طريق إلى الحسرة؛ ظلم الناس في مال أو دم أو عرض، طريق إلى الحسرة، مجالسة السيئين طريق إلى الحسرة.

فان كنت تخاف الحسرة فقد بينا لك طريقها فاحذرها -رحمك الله- واستثمر حياتك في إقامة مشاريع عملاقة تنجيك من النار، وتبوئك مقاعد الصديقين والأخيار.

ومن تلك المشاريع طلب العلم وحفظ القرآن، "فَلَأن يغدوَ أحدُكم كلَّ يومٍ إلى المسجدِ فيتعلَّمَ آيتينِ من كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ خيرٌ لَه من ناقتينِ وإن ثلاثٌ فثلاثٌ مثلُ أعدادِهنَّ منَ الإبلِ".