المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | حسن السبيكي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
آية كريمة من كتاب الله -تعالى- ترتج لها قلوب المؤمنين الخاشعين لرب العالمين، الذين يعلمون حقيقة دنياهم، ويدركون هول ما ينتظرهم لما بعد الموت، ويفقهون طبيعة العلاقة القائمة بين الدنيا والآخرة، وما يلزم من التوفيق بينهما، على اعتبار أن الآخرة إنما تبنى في مزرعة الدنيا، فإما أن يربحوا الآخرة باغتنام فرصة الحياة الدنيا في الطاعات وفعل الخيرات، وإما...
الخطبة الأولى
يقول الله - تعالى -: (كًلً نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185].
آية كريمة من كتاب الله - تعالى- ترتج لها قلوب المؤمنين الخاشعين لرب العالمين، الذين يعلمون حقيقة دنياهم، ويدركون هول ما ينتظرهم لما بعد الموت، ويفقهون طبيعة العلاقة القائمة بين الدنيا والآخرة، وما يلزم من التوفيق بينهما، على اعتبار أن الآخرة إنما تبنى في مزرعة الدنيا، فإما أن يربحوا الآخرة باغتنام فرصة الحياة الدنيا في الطاعات وفعل الخيرات، وإما هو الخسران المبين، دنيا وآخرة، لمن شغلتهم دنياهم عن الله فعبدوها من دونه استكبارا أو استهتارا.
المؤمن يعلم علم اليقين أن الأعمار فانية، وأن الخاتمة موت محتوم لا يسلم منه أحد: (كًلً نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ).
لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من كأس المنون الدائرة على الجميع، إنما الفارق في المصير الأخير.
والمؤمن يعلم أن أعمال العباد في الدنيا محصية مسطورة، ومتبوعة بالحساب والجزاء يوم القيامة، خيرا أو شرا: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
لذلك يهتم ويحسب الحساب لعاقبة المصير الخطير يوم القيامة، ويا له من مصير، فريق في الجنة وفريق في السعير.
وحينها، فإن الفائز السعيد هو من نجا من عذاب يوم الوعيد، وكان من أهل الفوز بالجنة: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ).
فماذا تساوي الدنيا التي كان الناس يتنافسون فيها ويكيد بعضهم لبعض من أجلها؟
ما هي إلا متاع الغرور لمن كانوا بها مغترين مفتونين، وعن الآخرة غافلين: (وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).
صورة قوية لمشهد حي كأنه رأي العين، فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته.
فكما للمعصية جاذبية في متاهة الدنيا الفاتنة الفانية، كذلك للنار جاذبية يوم القيامة! والنفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية! لتكون زحزحتها عن النار عند العبور الحتمي عليها، ولا مسلك إلى الجنة إلا على الصراط الممتد على متن جهنم: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[مريم: 71- 72].
إن المؤمنين هم وحدهم يفقهون حقيقة دنياهم الفانية، وآخرتهم الباقية بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله، فيحسبون الحساب الأكيد ليوم الوعيد، ويتزودون له بخير الزاد من أجل أن يكونوا من أهل الجنة، أهل الفوز الأبدي: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)[الحشر: 20].
وإذا كان كل من يؤمنون بيوم القيامة، يتشوقون إلى الجنة ويرجونها، ويسألها من يسألها إلحاحا في الدعاء، فهل كل الناس يعملون من أجلها ويجدون ويتنافسون، كما يجدون ويتنافسون في متاع الدنيا الفاني؟.
فمن أجل الدنيا للدنيا يسهر أكثر الناس ويفكرون ويخططون ويتعبون ويضحون ويكيد بعضهم لبعض أو يبيد بعضهم بعضا.
يفرحون لنيلها ويتحسرون لضياع متاعها، لكن أين من يعمل للآخرة بمثل ذلك من الطموح والعزم والحزم والجد والتضحيات، إلا قلة من العقلاء الموقنين بما ينتظرهم لما بعد الموت ويرجون النعيم الأبقى في الجنة، يعملون لها بما هم مأمورون به في دنياهم، ولا يفرحون إلا لما نالهم من فضل الله -تعالى- في الطاعات والقربات: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
فالجنة سلعة الله الغالية، فيها من النعيم المقيم مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومهما اتسعت طاقات الخيال في تصور نعيمها، فإنه أوسع وأسمى، لا تحيط به الأوصاف، إلا ما أخبر به الله -عز وجل- ورسوله مما أعد - سبحانه - لعباده المتقين: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17].
وإذا كان العمل للجنة مطلوبا بالتأكيد، وذلك أساس التدين كله: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) [التوبة: 105].
فلا معنى لرجائها بغير عمل، والله - تعالى- يقول: (وَتِلْكَ الْجَنَّة الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72].
لكنها مع شرط العمل، لا تنال إلا بفضل الله -تعالى- ورحمته وإحسانه، حتى لا يغتر العاملون بأعمالهم وينسون فضل الله عليهم وهو الذي لولا توفيقه إياهم لصالح الأعمال في طاعته ما اهتدوا إليها ولا تيسرت لهم.
فمهما كانت أعمال الطاعات، فلا ينبغي الاعتقاد بأنها وحدها تفضي بصاحبها حتما إلى الجنة، وإلا فإن أعمال طاعاتنا كلها لا تساوي من النعيم المقيم شبر مكان ولا دقيقة زمان.
حسبنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل العابدين وإمام المتقين، وأكرم الخلق على الله أجمعين، وقد كانت حياته كلها طاعة وعبادة وذكرا، ودعوة وجهادا وتضحيات من أجل دين الله -تعالى-، وهو الذي يقوم بين يدي الله ليلا حتى تتفطر قدماه، وتشفق عليه زوجه عائشة، فتقول: هون عليك، أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول:" أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!" [رواه الشيخان].
ومع كمال عبوديته وعبادته - عليه الصلاة والسلام -، ما كان يطمع في الجنة بعمله، وإنما يرجوها بفضل الله ورحمة، وفي ذلك يقول - عليه الصلاة والسلام -: "لنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ" قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ منه وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ"[الشيخان].
ولو كانت الجنة بالمقايضة مباشرة، لما استطاع أحد بطاعات العمر كلها ولو طال، أن يفي بواجب الشكر لنعمة واحدة من نعم الله التي لا تحصى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [النحل: 18].
فكيف لو قيل للعاملين المتكلين على أعمالهم وحدها في غرور: عبدتموني مائة عام وقد رزقتكم مائة عام، وكان لكم مني الوجود والعقل، والسمع والبصر والكلام و.. فلا حديث عن الجنة؟
فالطريق إلى الجنة إذن يمر عبر رضا الله تبارك وتعالى، ونيل عفوه ورحمته.
فمن نال من الله -تعالى- الرضا بعد العمل فهو من أهل الجنة، ولا ينال رضاه إلا من طريق طاعته وطاعة رسوله، بالاستجابة له سمعا وطاعة كما أمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[الأنفال: 24].
وهو الطريق الذي بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلا مَنْ أَبَى، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى"[صحيح البخاري].
ومعلوم أن طاعة الله - جل وعلا - هي في طاعة رسوله والاقتداء به؛ لأنه المبلغ عن ربه وصاحب الأسوة الحسنة للمؤمنين بالمنهج الرباني الوحيد الذي ارتضاه الله ويرضاه في الإيمان والعبادة والأخلاق: (من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [النساء: 80].
ومسلك هذه الطاعة وبرهانها في التقوى والاستقامة على صراط الله المستقيم إيمانا وعملا؛ كما هو أمر الله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) [هود: 112] وهو السبيل الوحيد الذي وجهته إلى الله -تعالى-، لا يتعدد ولا يتغير، ولا اعوجاج فيه ولا التواء؛ لأن عليه سكة قطار التوحيد، قاطرته الرائدة "لا إله إلا الله" تمتد انطلاقته من لدن آدم -عليه السلام- إلى قيام الساعة، ويتعاقب عليه الأنبياء والمرسلون إلى أن انتهت قيادته الأخيرة إلى محمد خاتم النبيين، وكانت عربته المميزة والممتازة لأمته، أمة الخيرية.
قطار من ركبه في كل زمان ومكان نجا من الكفر والضلال وكان من الفائزين بالهداية في الدنيا، والرضا والرضوان يوم القيامة، ومن تخلف عنه فهو من الهالكين.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه عن تشخيص نبوي مبين: "خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا ثُمَّ قَالَ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ. ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ].
وإذا علمنا حقيقة طريق الجنة، وأن الآجال محدودة، والأعمار معدودة، فأولى لنا أن نسارع ونبادر إلى نيل عفو الله ومغفرته ورضاه الذي هو مفتاح الجنة، كما يحضنا ربنا على ذلك ويرغبنا: (سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 133- 136].
تلك صفات أهل المغفرة والرضا الذين يفوزون بنعيم الجنة، وذلك أجر العاملين المسارعين والمبادرين الآجال والموانع بالطاعات والقربات: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء)[آل عمران: 134] ابتغاء وجهه الكريم، إنفاق المال وصالح الأعمال، والذين يكظمون الغيظ بحلمهم فلا ينفذونه وهم قادرون، عملا بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "ليس الشديد بالصرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"[متفق عليه].
والذين هم أهل العفو والصفح في معاملة الناس ولو نالهم منهم الظلم؛ لأنهم يرجون بذلك عفو الله: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم) [النور: 22].
وهم أهل محبة الله لأنهم محسنون: إحسان الإيمان والتوحيد، وإحسان العبادة والأخلاق والمعاملة، كما يحسنون بالبذل والعطاء: "والله كتب الإحسان على كل شيء".
(والذين إذا فعلوا فاحشة) بجهالة أو ظلموا أنفسهم بالمعاصي، عجلوا بالتوبة النصوح والإنابة والاستغفار والإصلاح ولا يصرون غافلين ولا مستكبرين، فيتوب الله عليهم، وقد يبدل سيئاتهم حسنات: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 70].
فلنبادر -أيها المؤمنون- إلى العمل بكل ما يرضي الله -تعالى- عازمين صادقين، مقتدين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غير متقاعسين ولا مسوفين، فإن إحسان الظن بالله وحده، والاتكال على عفوه ورحمته بغير عمل جهل واستخفاف وركون إلى الأمل العقيم وليس ذلك من خصال المؤمنين: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3].
أما أهل الرضا والرضوان ونعيم الجنان، فهم على الإيمان والاستقامة، يتلقون من ربهم هذه البشارات العظيمة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت: 30- 32].
الخطبة الثانية
في سنن الترمذي، حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دعوة إلى المسارعة والمبادرة إلى أعمال الطاعات لنيل رضا الله - تعالى -، قبل حضور الموانع القاهرة، فيكون الندم على ضياع فرص العمل الدنيوية، يقول المصطفى: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ"[رواه الترمذي وقال حديثٌ حسن].
فبادر أخي المسلم إلى اغتنام فرص العمل طلبا لنعيم الجنة قبل أن تحول بينك وبين ذلك الموانع والحواجز.
بادر قبل أن يداهمك الغنى فيشغلك المال والمتاع عن ربك ويفتنك عن الطاعات: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6-7].
وسارع قبل أن يفاجئك الفقر بهموم الاحتياج فيفتنك البؤس، وقلة ذات اليد عن القربات وفعل الخيرات، و"كاد الفقر أن يكون كفرا".
وبادر قبل أن يقعدك المرض، فيفسد عليك طاقات الاقتدار على الطاعة والعمل، فالصحة والعافية والوقت المتاح من أعظم النعم كما في الحديث النبوي: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"[البخاري].
واغتنم حيوية شبابك وهمة كهولتك قبل أن يعتريك العجز بالشيخوخة والهرم، فتقول ياليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب، بعد أن لم يعد يواتيك جسدك في خريف العمر لتدارك ما فات.
واغتنم فرصة العمر كله قبل أن يفاجئك الأجل بالموت، فينقطع عملك، وأنت تقرأ قول الله تعالى: (وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 10- 11].
واعمل وتوكل وأنت تستعيذ من فتنة الدجال، ومن كل فتنة قبله، وهو من علامات الساعة الكبرى التي لا يبقى بعدها مجال للعمل: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) [الروم: 55].
أيها المؤمنون: افقهوا حقيقة وجودكم في فرصة الحياة الدنيا، واعلموا إنه ليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها | إلا التي كان قبل الموت يبنيها |
فان بناها بخير طاب مسكنه | وإن بناها بشر خاب بانيها |
واذكروا قول الله - تعالى- واعتبروا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر: 18-20].
جعلني الله وإياكم من العاملين لنيل رضا الله ورضوانه، صادقين مخلصين.
آمين.