السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
وينبغي أن تكون القبور محترمة لا تُهان، ولا تُوطأ، ولا يُجلس عليها، ولا يُتكأ، ولم يكن من هديه -عليه الصلاة والسلام- ولا سنته تعلية القبور، ولا تشييدها، ولا البناء عليها، وكل هذه بدعٌ منكرة مخالفة لهديه -عليه الصلاة والسلام-...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أوجد الكون ودبَّره، وخلق الإنسان من نطفة فقدره، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ. والشكر لربنا على جميل لطفه، وجزيل ثوابه، وواسع فضله، عَظُم حِلْمُه فستر، واستغفره المذنبون فغفر، وبسط يده بالعطاء فأكثر، قصَدَتْه الخلائق بحاجاتها فأعطاها، وتوجهت إليه القلوب بلهفاتها فهداها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرفعُ عباد الله قدراً، وأكثرهم لمولاه شكراً، وأعظمهم لربه ذكراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله- فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة.
عباد الله: تأملوا في هذه الحياة، مُدْبِرٌ مُقْبِلُها، ومائلٌ مُعْتَدِلُها، كثيرةٌ عللها، إن أضحكت بزخرفها قليلاً فلقد أبكت بأكدارها طويلاً، تفكروا في حال مَن جَمَعَها ثم مُنِعَها، انتقلت إلى غيره، وحَمَل إثمها ومغرمها، فيا لحسرة من فرط في جنب الله! ويا لندامة من اجترأ على محارم الله! أقوام غافلون، جاءتهم المواعظ فاستقلوها، وتوالت عليهم النصائح فرفضوها، توالت عليهم نعم الله فما شكروها، ثم جاءهم ريب المنون، فأصبحوا بأعمالهم مرتهَنين، وعلى ما قدمت أيديهم نادمين: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207].
أيها الإخوة: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن للميت على من حوله حقوقًا يأثم الخلق إن لم يقوموا بها، ومن ذلك أنه يُستحب المسارعة إلى تجهيز الميت إذا تيقن موته، وذلك بتغسيله وتكفينه، والصلاة عليه؛ استعدادًا لدفنه، ويجب الإسراع بدفنه.
وكان ابن آدم في بداية الخليقة يجهل سنة الدفن، حتى فعل الغراب الذي بعثه الله ليواري سوأة أخيه، كما هو مذكور في قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ) أي: ليرى قابيل (كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ)، قال قابيل: (وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي) [المائدة:31]. ومن يومها صار فعل الغراب -وهو الدفن- سنة باقية في الخلق، وفرضاً على جميع الناس على الكفاية إلى يوم الدين.
وأخص الناس بدفن الميت: الأقربون، ثم الذين يلونهم، ثم الجيران، ثم سائر المسلمين. وروى أبو داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت، فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله" [أبو داود:3159، وضعفه الألباني]. وعلى ذلك فجسد الميت لا بد وأن يوارى التراب، وبقدر المستطاع من المسارعة في ذلك، مهما عظم قدر الميت أو حقر، صغر أو كبر، خامل الذكر كان، أو نابه الشأن.
عباد الله: الدفن في القبر من إكرام الله لابن آدم، قال -جلَّ شأنه-: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [عبس:21] وينبغي أن ويوسع القبر، ويعمَّق ويُلحَّد، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: جَاءَتِ الأَنْصَارُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالُوا: أَصَابَنَا قَرْحٌ وَجَهْدٌ فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا قَالَ: "احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَاجْعَلُوا الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ فِي الْقَبْرِ". قِيلَ: فَأَيُّهُمْ يُقَدَّمُ؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ قُرْآنًا". [أبو داود:3217، وصححه الألباني].
ومن السنة أن يُدخل الميت القبر من قبل رجليه، يقول ابن سيرين: كنت مع أنس -رضي الله عنه- في جنازة فأمر بالميت فَسُلَّ من قِبْلَ رجله في القبر، ويوضع على جنبه الأيمن، ووجهه نحو القبلة، ثم يُسدَّ اللحد ويدفن، ويرفع القبر عن الأرض قليلاً ويجعل مسنّمًا، فإذا فرغوا من الدفن استحب أن يدعوا للميت ويستغفروا له، وقد جاء أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر أصحابه أن يسألوا له التثبيت، ويقول: فيما صح من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" [أبو داود:3221، وصححه الألباني]. فيقولون: "اللهم ثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أو اللهم ثبته عند اللقاء، وما أشبه ذلك"، فدل على أنه ينتفع بذلك.
كذلك ما ورد من الدعاء للأموات عند زيارة المقابر، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يسلموا عليهم؛ والسلام دعاء، فعلَّم أم المؤمنين عائشة بالدعاء للموتى، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله: كيف أقول إذا دخلت المقابر؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمتأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون" [مسلم:974].
أيها الإخوة: ومن الخير للعبد أن يختار البقعة الطيبة ليدفن فيها، وأن يوصي بذلك، قال علماؤنا: ويستحب لك- رحمك الله- أن تقصد بميتك قبور الصالحين، ومدافن أهل الخير فتدفنه معهم، وتنزله بإزائهم، وتسكنه في جوارهم، وأن تجتنب به قبور من سواهم، ممن يخاف التأذي بمجاورته، والتألم بمشاهدة حاله؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها" [الترمذي:3917، وصححه الألباني في صحيح الجامع:6015 ]، وعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ -صلى الله عليه وسلم-" [البخاري:1890].
وكان سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد قد عهدا أن يحملا من العقيق إلى البقيع مقبرة المدينة، فيدفنا بها -والله أعلم- لفضل علموه هناك، قال: فإن فضل المدينة غير منكور ولا مجهول، ولو لم يكن إلا مجاورة الصالحين، والفضلاء من الشهداء وغيرها لكفى.
عباد الله: ومكان دفن العبد مقدور ومحدد، لا يتجاوزه، قال تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) [آل عمران:154] فيخرج الإنسان إلى موته وقبره حتف أنفه، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، ومن العجيب أن يُدفن العبد في الأرض التي خلق منها، عن أبي عزة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض، جعل له إليها حاجة"، أو قال: "بها حاجة" [الترمذي:2147، وصححه الألباني].
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بالمدينة، فرأى جماعة يحفرون قبرا، فسأل عنه، فقالوا: حبشيا قدم فمات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا إله إلا الله سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها" [شعب الإيمان للبيهقي:9425، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة:4/473]، وعن ابن مسعود، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا كان أجل أحدكم بأرض، أنبت الله له إليها حاجة، فإذا بلغ أقصى أثره توفاه، فتقول الأرض يوم القيامة: يا رب هذا ما استودعتني" [ابن ماجه:4263، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة:1222].
قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: فائدة هذه المسألة، تنبيه العبد على التيقظ للموت، والاستعداد له بحسن الطاعة والخروج عن المظلمة، وقضاء الدين، وإتيان الوصية بماله أو عليه في الحضر، فضلاً عن أوان الخروج عن وطنه إلى سفر، فإنه لا يدري أين كتبت منيته من بقاع الأرض، وأنشد بعضهم:
مشيناها خطى كتبت علينا | ومن كتبت عليه خطى مشاها |
وأرزاق لنا متفرقات | فمن لم تأته منا أتاها |
ومن كتبت منيته بأرض | فليس يموت في أرض سواها |
وقد روي في الآثار القديمة: أن سليمان- عليه السلام -كان عنده رجل يقول: يا نبي الله: إن لي حاجة بأرض الهند فأسألك أن تأمر الريح أن يحملني إليها في هذه الساعة، فنظر سليمان إلى ملك الموت -عليه السلام- فرآه يبتسم، فقال: ممَ تتبسم؟ قال: تعجباً إني أمرت بقبض روح هذا الرجل في بقية هذه الساعة بالهند، وأنا أراه عندك، فروي أن الريح حملته في تلك الساعة إلى الهند، فقبض روحه بها والله أعلم.
عباد الله: اختلف العلماء في بسط الثوب على القبر عند الدفن، فكان عبد الله بن يزيد، وشريح، وأحمد بن حنبل يكرهون مد الثوب على الرجل، وكان أحمد وإسحاق يختاران أن يفعل ذلك بقبر المرأة، وكذلك قال أصحاب الرأي، ولا يضر عندهم أن يفعلوا ذلك بقبر الرجل، وقال أبو ثور: لا بأس بذلك في قبر الرجل والمرأة، وكذلك قال الإمام الشافعي، وستر المرأة عند ذلك آكد من ستر الرجل، ذكره ابن المنذر. وقال القرطبي-رحمه الله-: ويستر الرجل والمرأة؛ للعلة التي جاءت في حديث أنس، اقتداء بفعله- عليه السلام- في ستر سعد بن معاذ والله أعلم.
أيها الإخوة: وينبغي أن تكون القبور محترمة لا تُهان، ولا تُوطأ، ولا يُجلس عليها، ولا يُتكأ، ولم يكن من هديه -عليه الصلاة والسلام- ولا سنته تعلية القبور، ولا تشييدها، ولا البناء عليها، وكل هذه بدعٌ منكرة مخالفة لهديه -عليه الصلاة والسلام-.
عباد الله: والأفضل للميت أن يلحد له، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللحد لنا والشق لغيرنا" [أبو داود:3208، وصححه الألباني]، واللحد: هو أن يحفر للميت في جانب القبر، إن كان الأرض صلبة، وهو أفضل من الشق؛ فإنه الذي اختاره الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، روى ابن ماجه عن ابن عباس قال: "لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعثوا إلى أبي عبيدة، وكان يضرح كضريح أهل مكة، وبعثوا إلى أبي طلحة، وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد فبعثوا إليهما رسولين، قالوا: اللهم خِرْ لرسولك، فوجدوا أبا طلحة فجيء به، ولم يوجد أبو عبيدة، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم". [جزء من حديث طويل انظر ضعيف ابن ماجه للألباني:321].
وعند وضع الميت في قبره وردت أدعية وأقوال مأثورة في الدعاء للميت، فعن سعيد بن المسيب قال: حضرت ابن عمر في جنازة، فلما وضعها في اللحد قال: "بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله"، فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد، قال: "اللهم أجرها من الشيطان، ومن عذاب القبر، اللهم جاف الأرض عن جنبيها، وصعد روحها، ولقها منك رضوانا"، قلت: يا ابن عمر! أشيء سمعته من رسول الله أم قلته برأيك؟ قال: "إني إذا لقادر على القول، بل شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". [ضعيف ابن ماجه للألباني: 305].
وعن عمرو بن مرة قال: "كانوا يستحبون إذا وضع الميت في اللحد أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان" [فتح الباري لابن حجر:2/371 وقال إسناده جيد]، وروي عن سفيان الثوري أنه قال: "إذا سئل الميت: من ربك؟ تراءى له الشيطان في صورة فيشير إلى نفسه: إني أنا ربك"، قال أبو عبد الله: "فهذه فتنة عظيمة، ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو بالثبات"، فيقول: "اللهم ثبته عند السؤال" فلو لم يكن للشيطان هناك سبيل، ما كان ليدعو له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجبره من الشيطان.
عباد الله: ومن السنة الوقوف والانتظار عند القبر قليلاً بعد الدفن والدعاء بالتثبيت له، فعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له بالتثبيت فإنه الآن يسأل" [أبو داود:3221، وصححه الألباني]. وعن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، الحديث.. وفيه: "فإذا دفنتموني فشنوا على التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي- عز وجل-". [مسلم:121]. وأخرجه ابن المبارك من حديث ابن لهيعة وقال فيه: "وشدوا على إزاري، فإني مخاصم، وشنوا على التراب شناً، فإن جنبي الأيمن ليس أحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجراً، وإذا واريتموني فاقعدوا عند قبري قدر نحر جزور وتقطعيها استأنس بكم".
قال الآجري في كتاب النصيحة: "يستحب الوقوف بعد الدفن قليلاً، والدعاء للميت مستقبل وجهه بالثبات، فيقال: اللهم هذا عبدك وأنت أعلم به منا ولا نعلم منه إلا خيراً، وقد أجلسته لتسأله، اللهم فثبته بالقول الثابت في الآخرة، كما ثبته في الحياة الدنيا، اللهم ارحمه، وألحقنه بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا تضلنا بعده، ولا تحرمنا أجره".
نسأل الله حسن الخاتمة، وبرد العيش بعد الموت، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه، واعتبروا بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب.
أيها الإخوة: إن الوقوف على القبر وسؤال التثبيت في وقت دفنه، مدد للميت بعد الصلاة؛ لأن الصلاة بجماعة المؤمنين، كالعسكر له قد اجتمعوا بباب الملك يشفعون له، والوقوف على القبر لسؤال التثبيت، مدد للعسكر، وتلك ساعة شغل للميت؛ ولأنه يستقبله هول المطلع وسؤال وفتنة القبر.
واعلموا أن الضجيج بذكر الله -سبحانه وتعالى-، أو بغير ذلك حول الجنائز، والبناء على المقابر، والاجتماع في الجبانات والمساجد للقراءة، وغيرها لأجل الموتى، وكذلك الاجتماع إلى أهل الميت، وضيعة الطعام، والمبيت عندهم كل ذلك من أمر الجاهلية، ونحو منه الطعام الذي يصنعه أهل الميت اليوم في يوم السابع، فيجتمع له الناس؛ يريدون بذلك القربة للميت والترحم عليه، وهذا محدث لم يكن فيما تقدم، ولا هو مما يحمده العلماء.
وليس ينبغي للمسلمين أن يقتدوا بأهل الكفر، وينهى كل إنسان أهله عن الحضور لمثل هذا وشبهه من لطم الخدود، ونشر الشعور، وشق الجيوب، واستماع النوح، وكذلك الطعام الذي يصنعه أهل الميت، كما ذكرنا، فيجتمع عليه النساء والرجال، قال أحمد بن حنبل: "هو من فعل الجاهلية"، قيل له: أليس قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً؟" [صحيح الجامع:1015] فقال: "لم يكونوا هم اتخذوا إنما اتخذ لهم".
وروى ابن ماجه في سننه عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: "كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة" [ابن ماجه:1318، وصححه الألباني]، وذكر الخرائطي عن هلال بن خباب، قال: "الطعام على الميت من أمر الجاهلية"، وخرج الآجري عن أبي موسى قال: "ماتت أخت لعبد الله بن عمر، فقلت لامرأتي: اذهبي فعزيهم وبيتي عندهم، فقد كان بيننا وبين آل عمر الذي كان، فجاءت فقال: ألم أمرك أن تبيتي عندهم؟ فقالت: أردت أن أبيت، فجاء ابن عمر فأخرجنا وقال: اخرجن لا تبيتن أختي بالعذاب"، وعن أبي البختري قال: "بيتوتة الناس عند أهل الميت ليست إلا من أمر الجاهلية".
وهذه الأمور كلها قد صارت عند الناس الآن سنة وتركها بدعة، فانقلب الحال وتغيرت الأحوال، قال ابن عباس- رضي الله عنه-: "لا يأتي على الناس عام إلا أماتوا فيه سنة وأحيوا فيه بدعة"، حتى تموت السنن وتحيا البدع، ولن يعمل بالسنن وينكر البدع إلا من هون الله عليه إسخاط الناس بمخالفتهم فيما أرادوا، ونهيهم عما اعتادوا، ومن يسر لذلك أحسن الله تعويضه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لن تدع شيئا لله -عز وجل- إلا بذلك الله به ما هو خير لك منه" [السلسلة الصحيحة للألباني:2/734].
ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" [البخاري:1294]، وفي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد وأبي بردة بن أبي موسى قالا: "أغمي على أبي موسى، وأقبلت امرأته تصيح برنة، قالا: ثم أفاق، قال: ألم تعلمي، وكان يحدثها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق" [مسلم:104].
عباد الله: ومما ينبغي الانتباه له أن تلقين الميت بعد موته عند القبر شهادة الإخلاص أمر محدث، ومن البدع المحدثة والحديث الوارد فيه ضعيف لا يحتج به.
عباد الله: وهناك أشياء تتبع الميت حتى قبره ومنها ما يبقى معه ومنها ما يرجع عنه، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله" [مسلم:2960] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد موته، علما علمه و نشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله، في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته" [صحيح الترغيب للألباني:275].
فتذكروا -رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة؟!.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا.