السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
كلنا يستطيع الحديث عن مكارم الأخلاق, وعن فضل إغاثة الملهوف والإعانة على نوائب الحق، وغيرها؛ وكلنا يستطيع إلقاء اللوم على غيره من حكام وعلماء ومنظمات ودول, ويسلط أنظاره على تقصير غيره في إغاثة إخوانهم في شتى أصقاع الأرض؛ لكن القلة القليلة هم الذين ينظرون بالدرجة الأولى إلى أنفسهم, وإلى الذي ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاْ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأنتُمْ مُسلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً) [النساء:1]. (يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَولاً سَدِيداً * يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَيَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيِمَاً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: لما أتى الروح الأمين جبريل -عليه السلام- إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء، ونبأه -كما هو معلوم من الحادثة الشهيرة-، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فزعًا من الغار ووصل إلى داره وإذا باستقباله زوجه الطاهرة خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "زملوني زملوني!"، فزملته ودثرته وغطته -رضي الله عنها- حتى ذهب عنه الروع.
ثم حدثها بخبره مع جبريل -عليه السلام- فقالت -رضي الله تعالى عنها-: "أبشر! فوالله لا يخزيك الله أبدًا! والله! إنك لتصل الرحم، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتُؤَدِّي الأَمَانَةَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وتغيث الملهوف، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: تأملوا كيف أن خديجة -رضي الله عنها- استدلت بأن الله -تعالى- لا يخزي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه كان يفعل أمورًا هي من مكارم الأخلاق، ومن بذل المعروف، مع أن ذلك كان قبل الإسلام، لقد ذكّرته بأنه يصل الرحم، ويصدق الحديث، ويؤدي الأمانة، ثم إنه يحمل الكلَّ -وهو الضعيف-، ويكرم الضيف، ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الحق.
إن غالب هذه الأفعال التي امتدحت بها خديجة -رضي الله عنها- زوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي من الأفعال التي يبذلها الإنسان مما ينتفع به غيره، وهي أمور كانت ممدوحة في الجاهلية؛ لأنها من مكارم الأخلاق، وشيم العروبة، وجاء الإسلام بالتأكيد عليها وتعزيزها، وترتيب الأجر والثواب الجزيل لفاعلها.
إن من يتأمل في هذه الصفات التي أوردتها خديجة -رضي الله عنها- وينظر في واقعنا اليوم فسيجد نماذج مشرفة -ولله الحمد-، لكنه -في المقابل- سيجد نماذج يندى لها الجبين.
إن الناس معادن، وفي الشدائد تظهر المعادن.
في سنة ثمانيَ عشرةَ من الهجرة حدثت مجاعة شديدة بالمدينة، وكانت الريح تسفي ترابًا كالرماد، فسمي عام الرمادة، وجعلت الوحوش تأوي إلى الإنس من شدة الجوع، وكانت الناس تموت من عدم الطعام، فآلى الخليفة آنذاك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ألا يذوق سمنًا ولا لبنًا ولا لحمًا حتى يحيا الناس.
فجمع المسلمين -وفيهم العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم-، واستسقى بهم فسقوا، وكتب إلى أمراء الأمصار: "أغيثوا أهل المدينة ومَن حولها"، فكان أولَ من قدم إليه أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- بأربعة آلاف راحلة من طعام، وكتب إليه أمير مصر عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "إنه سيصلك غوث لا انقطاع له".
إن من يتأمل في هذا الموقف العظيم، وفي سرعة الاستجابة من الصحابة -رضي الله عنهم- لمصاب إخوانهم - لَيعلم علم اليقين مقدار ما نحن فيه من التقصير، ومن يتأمل في نصوص الشريعة يعلم أكثر وأكثر أننا وصلنا إلى مرحلة متقدمة في الخذلان.
ألم نسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" رواه البخاري ومسلم.
تأمل فيما مضى ثم انظر إلى قضايا المسلمين من حولك، انظر على سبيل المثال أحوال إخوانك المستضعفين في سوريا، وفكّر: هل قامت أمة الإسلام بواجبها نحوهم؟ أم أن الواقع هو الخذلان؟!.
أتعلمون خطورة الخذلان؟ اسمع إلى ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلمٍ يخذُلُ امرأً مسلمًا في موضعٍ تُنتهكُ فيه حُرمتُه، ويُنتَقصُ فيه من عِرضِه، إلَّا خذله اللهُ في موطنٍ يُحِبُّ فيه نُصرتَه؛ وما من امرئٍ ينصُرُ مسلمًا في موضعٍ يُنتَقصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهكُ فيه من حُرمتِه، إلَّا نصره اللهُ في موطنٍ يُحبُّ فيه نُصرتَه".
والله! إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى، ووالله! إن لم نتدارك وضعنا بنصرة إخواننا فسيحيق بنا هذا الوعيد لا محالة، والأيام دول، والتاريخ لا يكذب، ووعد الله لا يتخلف.
لما فتحت مدائن قبرص ، وقع الناس في السبي يقتسمونه، ويفرقون بينهم، ويبكي بعضهم إلى بعض، فبكى أبو الدرداء ثم تنحى فجلس، واحتبى بحمائل سيفه، فقيل: أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، وأذل فيه الكفر وأهله؟! فضرب على منكبه ثم قال: ويحك! ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره! بينما هي أمة قاهرة ظاهرة على الناس لهم الملك إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، وجعل الجنة لمن أطاعه واتقاه، وجعل النار لمن تعدى حدوده وعصاه.
والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، إن ما نشاهده حولنا من تناصر أهل الباطل وتحزبهم -وبشكل علني- على قتل إخواننا المسلمين المستضعفين في سوريا لهو أمر متوقع وليس بمستغرب عليهم؛ فإن الله -تعالى- أخبر عن المنافقين فقال: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [التوبة:67-68]، فإذا كان هذا حال المنافقين؛ فإن الكافرين من باب أولى.
لقد صدق فينا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولَيَنْزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول اللهِ! وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
لقد صدقت نبوءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فها هي الأمم قد تداعت وتكالبت على أمة الإسلام، وهي من أكثر الأمم عددًا، لكن هذا العدد غثاء كغثاء السيل، ولقد أصبحت أمة الإسلام حِمىً مستباحًا يرتع فيه كل راتع، دون خوف أو خشية منها، فقد نزعت من قلوب الأعداء مهابتها، ودب في قلوب الأمم الوهن وهو حب الدنيا، والتعلق بها، وكراهية الموت.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إنني عندما أذكر لكم ما سبق فإني لا أريد أن أزيد غمكم على إخوانكم غمًا، وحزنكم عليهم حزنًا، لكني فقط أريد أن أذكركم بواجب النصرة لهم، بالأفعال لا بالأقوال.
قبيح بالإنسان أن تمر به المجازر التي تحصل لإخوانه وهو لاهٍ في شهواته وملذاته، بعيد كل البعد عن هموم إخوانه وما يحصل لهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
قبيح بالإنسان المسلم أن لا يتابع أحوال إخوانه وما يجري لهم، ويغفل أو يتغافل عن المذابح التي تدور في بلاد الشام.
قبيح بالإنسان المسلم أن يبخل على إخوانه بأقل القليل، يبخل حتى بدعوةٍ لإخوانه، فقد يمر عليه الشهر والشهران ولم يدع لإخوانه، وبعد ذلك يزعم أنه يحمل همهم، وأبخل الناس من بخل بالدعاء.
قبيح بالإنسان المسلم أن يبخل بريالات يقدمها لإطعام جائع، أو كسوة عارٍ، أو سد فاقة محتاج، بينما يصرف على لبس أو وجبة طعام مئات الريالات.
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
عن خزيم بن فاتك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف"، وجاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أي الصدقة أعظم أجرًا؟ فقال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى".
كلنا يستطيع الحديث عن مكارم الأخلاق، وعن فضل إغاثة الملهوف والإعانة على نوائب الحق، وغيرها؛ وكلنا يستطيع إلقاء اللوم على غيره من حكام وعلماء ومنظمات ودول، ويسلط أنظاره على تقصير غيره في إغاثة إخوانهم في شتى أصقاع الأرض؛ لكن القلة القليلة هم الذين ينظرون بالدرجة الأولى إلى أنفسهم، وإلى الذي قدموه لإخوانهم.
إذا اجتمع الخلق يوم القيامة بين يدي الله فثق تمامًا أن الله -تعالى- لن يسألك عن أعمال غيرك، لكنه سيسألك عن عملك أنت، أنت وحدك، وستقف بين يدي ربك لتحاسب عن عملك وحدك.
إنها صحيفة عملك؛ فاملأها بما شئت.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن:16-17].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام؛ فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.