العربية
المؤلف | حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن للنصر أسبابًا وللخُذلان أسبابًا، وإن الواجِب على المُسلمين جميعًا أن يأخُذوا بأسباب النصر وعوامل التمكين ومُقوِّمات العِزَّة في كل زمانٍ ومكانٍ، فذلك فرضٌ إلهيٌّ، وأصلُ ذلك ورُكنُه الأساس تحقيقُ توحيد الله -جل وعلا-، والبُعد عن الشِّرك ووسائلِه وطُرقه وذرائِعه. كلُّ ذلك وفقًا للالتزام الكامل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ التوحيد وأهلِه، ومُذِلِّ الشرك وحِزبِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في رُبوبيَّته وأُلوهيَّته وأسمائِه وصفاتِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفوتُه من خلقِه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ.
أما بعد:
فيا أيها المُسلمون: اتقوا الله -جل وعلا-؛ فبِتقواه تصلُحُ الأحوال، وتسعَد النفوسُ وتزكُو دُنيا وأُخرى.
إخوة الإسلام: إن للنصر أسبابًا وللخُذلان أسبابًا، وإن الواجِب على المُسلمين جميعًا أن يأخُذوا بأسباب النصر وعوامل التمكين ومُقوِّمات العِزَّة في كل زمانٍ ومكانٍ، فذلك فرضٌ إلهيٌّ، وأصلُ ذلك ورُكنُه الأساس تحقيقُ توحيد الله -جل وعلا-، والبُعد عن الشِّرك ووسائلِه وطُرقه وذرائِعه. كلُّ ذلك وفقًا للالتزام الكامل بأوامر الله -جل وعلا- وأوامر رسولِه -صلى الله عليه وسلم-.
يقول -جل وعلا-: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
ونصرُ الله يكونُ من المؤمنين بالقيام بتوحيده والعمل بشريعته، ونصر دينِه والقيام بحُقوقه -سبحانه-؛ فبهذا الأصل مهما بلغَ مكرُ الأعداء، وعظُمَت قوَّتُهم، فهم أمام قوَّة المُسلمين حينئذٍ لا شيءَ يُذكَر؛ لأن الله -جل وعلا- معهم بمعيَّتِه الخاصَّة التي تقتضِي التأييدَ والتمكينَ والنُّصرة، ومن كان الله معه فهو منصورٌ مكينٌ، عزيزٌ متين: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120].
العملُ بالإسلام بصدقٍ وإخلاصٍ في جميع الأمور هو العسكرُ الذي لا يُغلَبُ في كل زمانٍ ومكانٍ، تحكيمُ شريعة الله -جل وعلا-، والالتِزامُ بسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- هو الجُندُ الذي لا يُخذَل، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "احفَظ اللهَ يحفَظك، احفَظ اللهَ تجِده تُجاهَك".
فمتى حكَّمَت أمةُ الإسلام دينَ ربِّها الذي جاء به نبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم- على وفقِ منهَج الصحابة -رضي الله عنهم-، حينئذٍ يعمُّ رخاؤُها، ويستقرُّ أمنُها، وتعلُو مكانتُها، وتعظُمُ شوكتُها، كما كان عليه المُسلمون في الأزمان السالِفة؛ فإن وعد الله حقٌّ لا يُخلَف: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 62، 63]. فمن وفَّى وفَّى الله -جل وعلا- معه.
إخوة الإسلام: متى كان الهمُّ الأكبرُ لأمة المُسلمين هو هذا الدين، متى قدَّموه في كل شيءٍ ولم يتقدَّموه، متى جعَلوه القائِدَ في حياتِهم، والدستورَ في جميع توجُّهاتهم وشُؤونِهم، صادِقين مُخلِصين، حينئذٍ تتحقَّقُ العزَّةُ والغلَبَةُ لهم: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40، 41].
إن من الأسَف، إن من المُحزِن، إن من المُخزِي أننا نجِدُ أن أمَّتَنا في مواضِع النصر وفي مواضِع التخاذُل لا يُقيمُ بعضُهم لشرع الله مكانًا، ولا نجِدُ مُناداةً من شُعوب المُسلمين بتحكيم شرع الله فيهم.
إن العزَّة -أيها المؤمنون- في هذه الحياة، العزَّة والقوَّة البشريَّة الحقيقيَّة لا تكونُ إلا لمن التزمَ بالقُرآن الكريم، وتقيَّدَ بسُنَّة النبي الكريم -عليه أفضل الصلاة والتسليم-، يقول ربُّنا -جل وعلا-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو يتحدَّثُ كلامًا من مُنطلَق الوحي، وتصوُّرٍ لأحوال المُسلمين في عهدِه لما كان زمنُ التَّتَر، وما تولَّد منهم على المُسلمين من المِحَن، قال: "وكلُّ من عرفَ سِيَرَ الناس ومُلوكِهم رأى كلَّ من كان أنصرَ لدين الله وأعظمَ جهادًا لأعدائِه، وأقومَ بطاعة الله ورسولِه، فهو أعظمُ نُصرةً وطاعةً وحُرمةً من عهدِ أميرِ المُؤمنين عُمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- إلى الآن". انتهى كلامُه.
ألا وإن من تعظيم أوامر الله -يا أمة الإسلام-: إعداد العدَّة الحسيَّة والأسباب الماديَّة؛ فأنتم أمةٌ تخدمُ دينَها ولا تركَنُ إلى هذه الدنيا، ومن مُقتضَيَات ذلك إعداد العدَّة الحسيَّة بما تقتضِيه ظروفُ كل عصرٍ وحالِ كل زمانٍ، فذلك واجبٌ من واجِبات الشرع على الحاكِم والمحكوم.
فرضٌ على حُكَّام ومُجتمعات الأمة أن يُعِدُّوا ما استطاعوا؛ يقول -جل وعلا-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60].
وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسَّر القوَّةَ بالرَّمي. وفي أحاديث كثيرة حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعلُّم الرَّمي، إشارةً إلى وجوب إعداد العدَّة.
فيا عُلماء الإسلام، يا دُعاة الدين، يا حُكَّام الإسلام: لتكُن الجُهود مُنصبَّةً على الدعوة أولاً إلى الاعتِصام بالوحي المُطهَّر، والشرع المُنزَّل، والعناية التامَّة بالتوحيد والسنَّة. ليكُن ذلك أصلَنا وشِعارَنا، وعليه مدارُ مسالكِنا وأعمالِنا.
إخوة الإسلام: إن أعظمَ أسباب هزيمة الأمة ووُقوع الذلِّ بها: هو البُعدُ عن شرع الله، التهاوُن في الالتزِام بأوامر الله، أليس من المُخزِي أنك تجِدُ بُلدانًا كثيرةً من عهودٍ مُتطاوِلةٍ وهم يحكُمون بغير القُرآن، وبغير سُنَّة النبي الكريم؟!
الله -جل وعلا- يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، أليس هو خالِقُنا ويعلمُ مصالِحَنا وأسبابَ ضعفِنا؟! فهو القائِلُ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء: 79].
إن فُشُوَّ المُنكرات في مُجتمعاتِ المسلمين، وكثرةَ القبائِح والمُوبِقات أمرٌ لا يُنكِرُه إلا مُكابِر، وذلك نذيرُ شُؤمٍ عليهم جميعًا، ربُّنا -جل وعلا- يقول: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناسَ إذا رأَوا المُنكرَ فلم يُغيِّرُوه أوشكَ الله أن يعمَّهم بعِقابِه". رواه أحمد بإسنادٍ صحيحٍ.
وفي الحديث الآخر في حديث أم سلمة: أنهلك وفينا الصالِحون؟! قال: "نعم، إذا كثُر الخبَث".
وهل نحن إلا أمةٌ نقتدِي برسُولنا -صلى الله عليه وسلم-؟! وإلا فلا خيرَ فينا.
إذا كان الله -جل وعلا- يقول للصحابة وهم في غزوة أُحُد، ويُذكِّرُهم بما أصابَهم، وهم من رضِيَ الله عنهم، وهم من لا يُدانِيهم في الفضلِ أحدٌ بعد الأنبياء، يقول الله -جل وعلا- عنهم فيما أصابَهم في معركة أُحُد بعد النصر، مُبيِّنًا أن ذلك بسبب مُخالفَة الرُّماة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فكيف بنا اليوم وقد عمَّ الشرُّ، وكثُرَت المُخالَفات؛ بل وحكَّمَت غالبُ دول الإسلام قانونًا وضعيًّا وتركَت الشرعَ المُطهَّر، فحينئذٍ لا غرْوَ أن يُصيبَنا الذلَّ والهوانَ بمقدارَ ما خالَفنا أوامرَ الله.
اقرؤوا هذه الآية، وتمعَّنوا فيها وتدبَّروا تجِدوا أن مِصداقَها في واقِعنا: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) [البقرة: 85].
ونبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- يقول في الآثار السيِّئة لمن خالفَ أمرَ الإسلام، وركنَ إلى هذه الدنيا، وقدَّم حُبَّها على حُبِّ الآخرة: "إذا تبايَعتُم بالعِينة، وأخذتُم أذنابَ البقر، ورضِيتُم بالزَّرع، وتركتُم الجهادَ سلَّط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزِعُه حتى ترجِعوا إلى دينِكم". رواه أبو داود، وصحَّحه أهل العلم.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، عودوا إلى دينِكم، تمسَّكوا بإسلامِكم، أقيموا شريعةَ ربِّكم؛ تحصُلُ لكم العزَّةُ والتمكينُ والفلاحُ والنصرُ.
أقول هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وصحبِه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أُوصيكُم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-؛ فهي وصيةُ الله للأولين والآخرين.
أيها المسلمون: إن من أسباب الفشَل الواقِع اليوم في المُسلمين، وإن من أعظَم عناصِر الضعفِ هو ما يُوجَد من تفرُّق كلمة المُسلمين عن الاجتِماع على البرِّ والتقوى، واختِلافُ صفِّهم على الاتِّفاق على السنَّة والهُدى.
كما قال بعضُ السَّلَف: "أليس لنا كتابٌ واحدٌ، ونبيٌّ واحدٌ، وهدفُنا واحدٌ، فلماذا الاختلاف؟!".
لماذا يرفعُ بعضُنا على بعضٍ السِّلاح؟! لماذا نُظهِرُ الخِزيَ والعارَ والذلَّ أمام العالَم؟! الله -جل وعلا- يقول: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46] أي: قوَّتُكم (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
ألا فلتتَّفِق كلمةُ المُسلمين، ألا فلنتَّقِ الله في مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- فنحن أمَّتُه، لتتَّفِقَ كلمتُنا على سُنَّته وعلى مصالِح ما جاء به من دينٍ مع مصالِح دُنيانا، لتجتمِعَ جهودُنا على تحقيق المنافع المُتنوِّعة، والأهداف المنشودة.
لا نجعل من اختِلاف الرأي في مسائل لا تُخالِفُ أصولَ الدين سببًا للتفرُّق والتمزُّق والتشتُّت والتشرذُم، فالله -جل وعلا- أوجبَ علينا أمرًا إن خالَفناه فالعاقبةُ السيِّئةُ لمن خالَفَ هذا الأمرَ، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
ثم إن الله أوجبَ علينا واجبًا عظيمًا، وفرضًا أكيدًا، ألا وهو: دعمُ إخواننا في كل مكانٍ، دعمُهم بكل ما نستطيع، لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا وسعَها، ولكن المُسلم مُطالَبٌ أن يصدُق مع الله -جل وعلا-، وأن يُنفِّذَ أوامرَه، وأن يكون له مُخلِصًا، فحينئذٍ (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [محمد: 21].
إن من أفضل الأعمال: الصلاةَ والسلام على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.