الحيي
كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...
العربية
المؤلف | أحمد حسين الفقيهي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن الناظر في واقع الناس اليوم يرى كيف أن الدنيا قد ألقت بظلالها على حياتهم، فعصفت بكثير من الأخلاق والقيم، وأنست كثيراً من الحقوق والمثل، فتباعدت القلوب، وتنافرت النفوس، حتى رأينا من عق أباه وقطع أخاه، وهجر جاره، ورأينا كذلك جارين في حي واحد، بل في بناية واحدة يتجاوران سنوات عديدة، لا يدخل أحدهم منزل جاره ..
عباد الله، شيّد رجل من المسلمين داراً كبيرة فسيحة، فجملها وأبهاها وحسنها، وبعد برهة من الزمن تعكرت حياته في تلك الدار، فعاف حسنها، وكره سكناها، وتمنى كل خلاص منها، فلما عرضها للبيع بأرخص الأثمان، وأبخس الأسعار، وتمت البيعة بسعر زهيد، لامه الناس والعذّال فأجابهم بقوله:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي * وما علموا جاراً هناك ينغص
فقلت لهم: كفـوا الملام فإنهـا * بجيرانها تغلو الديار وترخص
أيها المسلمون، لقد أوصى الإسلام بالجار وأعلى من قدره، فللجار في ديننا حرمة مصونة، وحقوق مرعية، حيث قرن المولى سبحانه وتعالى الإحسان إلى الجار بعبادته وتوحيده؛ فقال عز من قائل: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) [النساء:36].
هذه -عباد الله- وصية الله عز وجل في كتابه، أما وصية رسوله صلى الله عليه وسلم فقد جاءت في صورة جليلة، وتعبير مستفيض يجلي مكانة وحق الجار في الإسلام؛ أخرج الإمام أحمد في مسنده عن رجل من الأنصار قال: خرجت مع أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذ به قائم، وإذا رجل مقبل عليه، فظننت أن له حاجة، فجلست، فو الله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أرثي له من طول القيام، ثم انصرف، فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي إليك من طول القيام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدري من هذا"؟ قلت: لا، قال صلى الله عليه وسلم: "جبريل مازال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
عباد الله، الجار هو من جاورك في دارك سواء أكان مسلماً أو كافراً، براً أو فاجراً، صديقاً أو عدواً، محسناً أو مسيئاً، قريباً أو بعيداً، وليس للجار ضابط من عدد أو غيره، والمرجع في ذلك إلى عرف الناس، فكل من عده الناس جاراً لك فهو جار تجب له حقوق الجوار.
والجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد، فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فهو الجار المسلم القريب، له حق الإسلام وحق القرابة وحق الجوار، والجار الذي له حقان هو الجار المسلم، له حق الإسلام وحق الجوار، والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار فقط.
أيها المسلمون، لقد كان السلف الصالح والكرام من الناس يعرفون قدر الجوار، ولا يؤثرون بالجار الصالح مالاً ولا عرضاً من الدنيا؛ فهذا محمد بن الجهم يعرض داره للبيع بألف درهم، وقيل بمائة ألف درهم، فلما حضر الراغبون في شراء داره، قال لهم: قد اتفقنا على ثمن الدار، فبكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقيل له وهل الجوار يباع؟ قال وكيف لا يباع جوار من إذا قعدت سأل عنك، وإن رآك رحب بك، وإن غبت حفظك، وإن شهدت قربك، وإن سألته قضى حاجتك، وإن لم تسأله ابتدأك، وإن نابتك نائبة فرج عنك؟
فبلغ ذلك سعيد بن العاص فوجه إليه بمائة ألف درهم، وقال له: أمسك عليك دارك.
والجـار لا تذكـر كريمـة بيتـه * واغضب لابن الجار إن هو أُغضبا
كن لينا للجار واحفظ حقه * كرما ولا تك للمجاور عقربا
احفظ أمانته وكن عزا له * أبدا وعما ساءه متجنبا
عباد الله، إن حقوق الجار كثيرة ومتعددة، وهي دائرة على ثلاثة حقوق كبرى، أحدها: كف الأذى عن الجار، والثاني: الإحسان إليه، والثالث: الصبر على الأذى منه.
فأما الإحسان إلى الجار فهو من أفضل الأعمال والقربات، كيف لا وهو سبب من أسباب نيل محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: " إن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم " رواه الطبراني وحسن إسناده الألباني رحمه الله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد مسلم يموت فيشهد له ثلاثة أبيات من جيرانه الأدنين بخير، إلا قال الله عز وجل: قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا، وغفرت له ما اعلم". أخرجه الإمام أحمد بسند حسن.
أيها المسلمون، إن الإحسان إلى الجيران يشمل كافة وجوه الإحسان، ولو كان شيئاً يسيراً أو حقيراًً، لما له من أثر في تقريب النفوس وإزالة الأحقاد؛ جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاه .." وفرسن الشاه: هو حافرها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أي لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئاً ولو أنها تهدي ما لا ينتفع به في الغالب.
ويقول أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك " رواه مسلم، فكان أبو ذر رضي الله عنه إذا طبخ لحماً أكثر ماءه، وأهدى إلى جيرانه، وقال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف.
ويقول مجاهد: " كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وغلام له يسلخ شاة، فقال يا غلام: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مراراً، فقال له: كم تقول هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يوصينا بالجار حتى ظننا أنه سيورثه" رواه أبو داود والترمذي.
عباد الله إن أولى الجيران بالرعاية والإحسان أقربهم باباً إلينا؛ جاء في البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك بابا"، أخرجه البخاري.
والحكمة من ذلك -كما يقول ابن حجر رحمه الله-: لأن الجار الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية ونحوها، فيتشوف لها، بخلاف الأبعد؛ ولأن الأقرب أسرع إجابة لما قد يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة.
أيها المسلمون، إن الله تعالى حرم إيذاء الجار في ماله أو عرضه أو دمه، ولقد أقسم نبينا ثلاثاً مبيناً عظم ذنب أذية الجار؛ فقال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"، وفي رواية لمسلم: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه".
وفي الحديث الآخر ضاعف المصطفى صلى الله عليه وسلم جريمة الزنا والسرقة في حق الجار إلى عشرة أضعاف؛ لأن الجار قد أمنه جاره، فخان الأمانة، وانتهك حرمته، وكان حقاً عليه أن يحفظ جاره في ماله وعرضه؛ عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تقولون في الزنا"؟ قالوا: حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لأن يزني الرجل بعشرة نسوة، أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره"، ثم قال: "ما تقولون في السرقة"؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره " رواه أحمد وصححه الألباني.
عباد الله، إن حسن الجوار باب من أبواب الجنة، وسوؤه باب من أبواب النار؛ ولذا نبه المصطفى صلى الله عليه وسلم على عظم خطر إيذاء الجار، وأثره في إذهاب ثواب الأعمال الصالحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها -باللسان- قال: "هي في النار"، قال: يا رسول الله! فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط -الأقط هو اللبن المجفف، وهو من الشيء الزهيد- ولا تؤذي جيرانها، قال: "هي في الجنة" رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.
فما نفع تلك المرأة كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها؛ لأنها تؤذي جيرانها، وهذه نفعها الإحسان وعدم إيذاء الجار.
أيها المسلمون، لقد ضرب لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه عند البخاري في الأدب المفرد، ضرب لنا أروع الأمثلة في كف الأذى عن الجار وحسن الجوار؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها ذات ليلة صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرصاً من شعير، تقول عائشة فأقبلت شاة لجارنا داجنة -يعني لا تجد حرجاً من الدخول في البيوت- فدخلت ثم عمدت إلى القرص فأخذته، ثم أدبرت به، فبادرتها الباب، فقال صلى الله عليه وسلم: "خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته". فانظروا عباد الله إلى تربيته صلى الله عليه وسلم لأهل بيته, وحثه لهم على حسن التعامل مع الجار وكف الأذى عنه حتى في شاته التي تتعدى على طعام الآخرين.
عباد الله: ليس من حسن الجوار بين الجيران أن يرد الجار على جاره الأذى بمثله، والإساءة بأختها، جاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال له: إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيق علي فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: "إن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه"، وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: "ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى".
أقول لجاري إذ أتاني معاتـــباً * مدلاً بحق أو مدلاً بباطــــل
إذا لم يصل خيري وأنت مجاوري * إليك فما شري إليك بواصل
عبد الله، إذا ابتليت بجار سوء يؤذيك فعليك بالصبر؛ فإنه مفتاح الفرج، وعلى الأخيار السعي في الإصلاح بين المتنازعين؛ لأن الجار أولى بالعفو عن خطئه، والتغاضي عن زلته، خصوصاً إذا كان ذا فضل وإحسان، وتذكر أيها الجار أن صبرك على جارك الذي يؤذيك مما يحبه الله سبحانه وتعالى؛ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب ثلاثة، ويبغض ثلاثة، وذكر من الثلاثة الذين يحبهم .. والرجل يكون له الجار يؤذيه جاره، فيصبر على أذاه، حتى يفرق بينهما موت أو ظعن" أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني.
عبد الله، إن عجزت عن الصبر على إيذاء جارك، وعن ملاقاة الإساءة منه بالإحسان، فعليك بوصية محمد صلى الله عليه وسلم في التعامل مع مثل هؤلاء الجيران الذين يؤذونك؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب فاصبر"، فأتاه مرتين أو ثلاثاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب فاطرح متاعك في الطريق"، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه، فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه، فعل الله به وفعل.
وفي لفظ آخر فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقيت من الناس، قال صلى الله عليه وسلم: "وما لقيت"؟، فقال الرجل: يلعنونني، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد لعنك الله قبل الناس"، فقال: إني لا أعود، ثم ذهب إلى جاره، فقال له: ارجع لا ترى مني شيئاً تكرهه، فجاء الشاكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الحبيب عليه الصلاة والسلام: "ارفع متاعك فقد كفيت" أخرجه أبو داود والحاكم وصححه وأقره الذهبي رحم الله الجميع.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
عباد الله، إن الناظر في واقع الناس اليوم يرى كيف أن الدنيا قد ألقت بظلالها على حياتهم، فعصفت بكثير من الأخلاق والقيم، وأنست كثيراً من الحقوق والمثل، فتباعدت القلوب، وتنافرت النفوس، حتى رأينا من عق أباه وقطع أخاه، وهجر جاره، ورأينا كذلك جارين في حي واحد، بل في بناية واحدة يتجاوران سنوات عديدة، لا يدخل أحدهم منزل جاره، ولا يتفقّد أحواله خلال هذه المدة، وقد يسافر الجار أو يمرض أو يحزن أو يفرح، وجاره لم يشعر بذلك، ولم يشاركه في أفراحه وأتراحه، بل قد ترى الشقاق والنزاع محتدمًا بين الجيران، والعداء ظاهرًا بينهم بالقول أو الفعل، فأضيعت -وللأسف- الحقوق، وقام بين الناس سوق القطيعة والعقوق إلا من رحم الله تعالى، ولا بد لتدارك ذلك -عباد الله- من وقفة نراجع فيها أنفسنا، ونصحح فيها أحوالنا، ونعمل من خلالها على تلمس حاجات جيراننا، والإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم.
مر الإمام مالك بن أنس رحمه الله على امرأة وهي تنشد تقول:
أنت خلي وأنت حرمة جاري * وحقيق علي حفظ الجوار
إن للجار إن تغيب عيــــنا * حافظا للمغيب والأســرار
ما أبالي إن كان للبـاب ستــر * مسبل أم بقى بغير ستــــار
فقال مالك: علموا أهلكم هذا و أمثاله.
عبدالله، إن جملة ما يحق لجارك عليك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وإن مرض عدته، وإن مات شيعته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبنيان، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقثار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له, فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده؛ وجماع حقوق الجار على جاره قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره " أو قال: " لأخيه ما يحب لنفسه" رواه مسلم.
فاتقوا الله عباد الله, وأحسنوا إلى جيرانكم يحسن الله إليكم، واصبروا على هفوات الجار يتجاوز الله عن هفواتكم، ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] .