البحث

عبارات مقترحة:

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

المقتدر

كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

من هدايات السنة النبوية (15) إن الدين يسر

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. الاهتداء بالسنة النبوية سبيل الموفقين .
  2. دين الإسلام دين يسر .
  3. من مظاهر يسر الإسلام في العقائد والعبادات .
  4. من مظاهر اليسر في المعاملات .
  5. من صور المشادة في الدين .
  6. وجوب فقه الدعوة النبوية إلى الإيغال في الدين برفقٍ .
  7. مفاسد الإيغال في الدين بقوةٍ .
  8. سبل علاج الغلو في الدين. .

اقتباس

إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَوْصُوفٌ بِالْيُسْرِ فِي كُلِّ المَجَالَاتِ، وَمِنْ نَتَائِجِ الْيُسْرِ فِيهِ: أَنَّ مَنْ شَادَّهُ فَهُوَ مَغْلُوبٌ "وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ" فَمِنَ المُشَادَّةِ فِي الدِّينِ: أَنْ يُضَيِّقَ وَاسِعًا، وَأَنْ يُحَرِّمَ مُبَاحًا، أَوْ يُوجِبَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنْ يَجْعَلَ الظَّنِّيَّاتِ قَطْعِيَّاتٍ، بَلْ يَقْطَعُ بِأَوْهَامِهِ فَمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فِيهَا رَمَاهُ بِالْكُفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ أَوِ الْفِسْقِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِنَّمَا ضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَأَنْ يُسَارِعَ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا يَقْبَلُ عُذْرَ المَعْذُورِ، وَلَا يُزِيلُ تَأْوِيلَ المُتَأَوِّلِ، وَلَا يَرْفَعُ جَهْلَ الْجَاهِلِ، بَلْ يُشَادُّ الْجَمِيعَ فِي دِينِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَاب:70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: الِاهْتِدَاءُ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ سَبِيلُ المُوَفَّقِينَ، وَالْعِنَايَةُ بِهَا سَمْتُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُرْهَانُ المُحِبِّينَ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].

فِي الِاهْتِدَاءِ بِالسُّنَّةِ حِمَايَةٌ لِلْعَبْدِ مِنَ الْجُنُوحِ إِلَى الْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ، وَوِقَايَةٌ لَهُ مِنَ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ، وَبُعْدٌ عَنْ مَوَاطِنِ الْفِتْنَةِ وَالْهَلَاكِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْفِتَنِ سَبَبُهُ اتِّصَافُ الْعَبْدِ بِالْهَوَى أَوْ بِالْجَهْلِ أَوْ بِكِلَيْهِمَا. وَالمُعَظِّمُ لِلْأَثَرِ، المُلَازِمُ لِلسُّنَنِ يَكْبَحُ هَوَاهُ بِالتَّأَسِّي، وَيُزِيلُ ظَلَامَ الْجَهْلِ بِأَنْوَارِ السُّنَّةِ.

وَهَذَا حَدِيثٌ مِنْ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ المُصْطَفَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يُعَالِجُ مَا فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ النُّزُوعِ إِلَى الْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ، وَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي فُتِحَتْ فِيهِ أَبْوَابُ الْفِتَنِ!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلجَةِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

  

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينٌ يُسْرٌ، وَأَطْلَقَ الْيُسْرَ فِي الدِّينِ؛ لِيَشْمَلَ كُلَّ الْجَوَانِبِ مِنْ عَقَائِدَ وَعِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، فَيَشْمَلُ يُسْرُهُ كُلَّ عَلَاقَةٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَعَلَاقَتَهُ مَعَ نَفْسِهِ، وَعَلَاقَتَهُ مَعَ غَيْرِهِ سَوَاءً كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ كَوَالِدٍ وَوَلَدٍ وَأَخٍ، أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ، وَسَوَاءً كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَسَوَاءً كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، فَدِينُ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ ذَلِكَ دِينُ يُسْرٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "إِنَّكُمْ أُمَّةٌ أُرِيدَ بِكُمُ الْيُسْرُ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

وَمِنْ مَظَاهِرِ يُسْرِهِ فِي الْعَقَائِدِ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَمْ يُكَلِّفِ الْعَبْدَ مَعْرِفَةَ مَا حَجَبَهُ عَنْهُ مِنَ الْغَيْبِ، بَلْ يَكْفِيهِ إِيمَانُهُ بِهِ، وَلَمْ يُكَلِّفِ الْعَوَامَّ مَعْرِفَةَ تَفَاصِيلِ الْعَقَائِدِ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يُحَقِّقَ الْإِيمَانَ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ يَنْطِقُهَا مُعْتَقِدًا بِهَا مُؤْمِنًا بِلَوَازِمِهَا.

وَمِنْ مَظَاهِرِ يُسْرِهِ فِي الْعِبَادَاتِ: أَنَّ الْفَرَائِضَ لَيْسَتْ كَثِيرَةً وَلَا مُرْهِقَةً، وَالصَّلَاةُ خُفِّفَتْ مِنْ خَمْسِينَ إِلَى خَمْسٍ، وَنَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ تُكَمِّلُ نَقْصَ الْفَرَائِضِ، وَبَابُ التَّطَوُّعِ مَفْتُوحٌ فِي الْعِبَادَاتِ، يَسْتَزِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْهَا، وَيُمْسِكُ مَنْ عَجَزَ عَنْهَا، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ مَظَاهِرِ الْيُسْرِ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ الْيُسْرِ فِي المُعَامَلَاتِ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْعُقُودِ وَالتِّجَارَاتِ وَالنِّكَاحِ هُوَ الْحِلُّ، وَالمُحَرَّمُ مُسْتَثْنًى، فَكَانَ الْحَلَالُ هُوَ الْأَكْثَرَ، وَكَانَ مَا حَرُمَ هُوَ الْأَقَلَّ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ الْيُسْرِ فِي الْإِسْلَامِ: أَنَّ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ قَلِيلَةٌ؛ لِقِلَّةِ المُحَرَّمَاتِ، وَمَنْ وَقَعَ فِيمَا يُوجِبُ حَدًّا شُرِعَ لَهُ السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالتَّوْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَشُرِعَ لِمَنْ عَرَفَ حَالَهُ مِنْ إِخْوَانِهِ أَنْ يَسْتُرُوهُ "وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

 وَلَوْ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بِأَنْ يَفْضَحَ الْإنْسَانُ نَفْسَهُ، وَأُلْزِمَ النَّاسُ بِفَضْحِ أَهْلِ المَعَاصِي بَيْنَهُمْ؛ لَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَحْجَمَ عَنِ التَّوْبَةِ أَكْثَرُهُمْ، وَانْتَشَرَتِ المَعَاصِي فِيهِمْ، وَأُغْلِقَ بَابُ الرَّجْعَةِ دُونَهُمْ (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء: 66]، وَقَدْ كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا مَنْ يُؤْمَرُونَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَالْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ.

فَكَانَ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157]. وَالْآصَارُ: هِيَ التَّكَالِيفُ الصَّعْبَةُ؛ كَقَتْلِ النَّفْسِ فِي تَوْبَتِهِمْ، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ. وَالْأَغْلَالُ: هِيَ الْأَحْكَامُ الشَّاقَّةُ نَحْوُ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً، وَإِحْرَاقِ الْغَنَائِمِ وَطُهُورِ الذُّنُوبِ عَلَى أَبْوَابِ الْبُيُوتِ.

إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَوْصُوفٌ بِالْيُسْرِ فِي كُلِّ المَجَالَاتِ، وَمِنْ نَتَائِجِ الْيُسْرِ فِيهِ: أَنَّ مَنْ شَادَّهُ فَهُوَ مَغْلُوبٌ "وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ" فَمِنَ المُشَادَّةِ فِي الدِّينِ: أَنْ يُضَيِّقَ وَاسِعًا، وَأَنْ يُحَرِّمَ مُبَاحًا، أَوْ يُوجِبَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنْ يَجْعَلَ الظَّنِّيَّاتِ قَطْعِيَّاتٍ، بَلْ يَقْطَعُ بِأَوْهَامِهِ فَمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فِيهَا رَمَاهُ بِالْكُفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ أَوِ الْفِسْقِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِنَّمَا ضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَأَنْ يُسَارِعَ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا يَقْبَلُ عُذْرَ المَعْذُورِ، وَلَا يُزِيلُ تَأْوِيلَ المُتَأَوِّلِ، وَلَا يَرْفَعُ جَهْلَ الْجَاهِلِ، بَلْ يُشَادُّ الْجَمِيعَ فِي دِينِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ.

فَهَذَا يَغْلِبُهُ الدِّينُ، فَإِمَّا خَرَجَ مِنْهُ بِزَنْدَقَةٍ وَإِلْحَادٍ كَحَالِ كَثِيرٍ مِمَّن غَلَوْا ثُمَّ أَلْحَدُوا، وَإِمَّا خَرَجَ مِنْهُ بِبِدْعَةٍ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنِ الْخَوَارِجِ بِأَنَّهُمْ "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ"، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الْأَمْرَ بِالمُغَالَبَةِ"، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا، فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ" وَالمَعْنَى: لَا يَتَعَمَّقُ أَحَدٌ فِي الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَيَتْرُكُ الرِّفْقَ إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ فَيُغْلَبُ.

وَمِنَ المُشَادَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ: أَنْ يَتَحَمَّلَ مِنْهَا مَا لَا يُطِيقُ، حَتَّى يَتْرُكَهَا كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدِّينِ؛ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالنَّوَافِلِ كُلِّهَا لَمْ يَأْتِ بِالدِّينِ.

وَاللهُ -تَعَالَى- مَا جَعَلَ فِي الْعِبَادَاتِ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ إِلَّا مُرَاعَاةً لِأَحْوَالِ الْعِبَادِ، وَمَا نَوَّعَ سُبْحَانَهُ النَّوَافِلَ إِلَّا لِيَأْخُذَ كُلُّ عَبْدٍ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا حَسَبَ اسْتِطَاعَتِهِ؛ وَلِذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: "فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلجَةِ"، فَأَمَرَ بِالسَّدَادِ وَهُوَ الصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ.

وَأَمَرَ بِالمُقَارَبَةِ، أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ فَاعْمَلُوا بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، وَأَبْشِرُوا بِالثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ الدَّائِمِ وَإِنْ قَلَّ (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا -أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا- كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا، وَأَبْشِرُوا" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

 فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُبْشِرْ؛ لِأَنَّ فَأْلَهُ يَقْضِي عَلَى يَأْسِهِ وَقَنُوطِهِ، وَدَوَامَهُ عَلَى الْعَمَلِ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الرَّجَاءِ وَالرَّحْمَةِ أَمَامَهُ، مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي التَّسْدِيدِ وَالمُقَارَبَةِ.

ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْغَدْوَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالرَّوْحَةُ آخِرُهُ؛ وَلِذَا شُرِعَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهُمَا أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، وَالدُّلْجَةُ هِيَ اللَّيْلُ، فَيَسْتَعِينُ بِشَيْءٍ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسْطِهِ أَوْ آخِرِهِ، بِحَسَبِ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ.

فَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلَغَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ (وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَاعْمَلُوا صَالِحًا (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].

أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: أَعْظَمُ مَا يَمْلِكُ المُؤْمِنُ إِيمَانَهُ، وَأَشَدُّ مَا يَخْسَرُ دِينَهُ، وَلَا خَسَارَةَ تُوَازِي خَسَارَةَ الدِّينِ؛ وَلِذَا كَانَ حَرِيًّا بِالمُؤْمِنِ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَحْفَظُ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَيُقَوِّي إِيمَانَهُ، وَيُرَقِّيهِ فِي سُلَّمِ الْعِبَادَاتِ لِيَبْلُغَ الْكَمَالَ أَوْ يُقَارِبَهُ، دُونَ أَنْ يُقْطَعَ بِسَبَبِ إِيغَالِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

إِنَّ الدَّعْوَةَ النَّبَوِيَّةَ إِلَى الْإِيغَالِ فِي الدِّينِ بِرِفْقٍ فِيهَا تَوْجِيهٌ إِلَى عَدَمِ مُشَادَّةِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْإِيغَالَ فِي الدِّينِ بِقُوَّةٍ يُؤَدِّي إِلَى المُشَادَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى الِانْقِطَاعِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الدِّينِ.  

وَكَثِيرًا مَا أَوْرَثَ الْإِيغَالُ فِي الدِّينِ بِقُوَّةٍ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ، وَالْعُجْبَ بِهَا، وَسُوءَ الظَّنِّ بِالمُسْلِمِينَ وَاحْتِقَارَهُم، بَلْ وَكَرَاهِيَتَهُمْ، كَمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْغُلُوِّ؛ فَإِنَّهُمْ لمَّا أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأُعْجِبُوا بِمُعْتَقَدِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ؛ أَسَاءُوا الظَّنَّ بِغَيْرِهِمْ، فَرَمَوْا مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ اسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَدَّى بِهِمُ الْإِيغَالُ فِي الدِّينِ إِلَى مُشَادَّتِهِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَمِنَ السَّلَامَةِ إِلَى مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ بِتَحَمُّلِ دِمَاءِ المُسْلِمِينَ وَالْغَدْرِ بِهِمْ.

وَكَذَلِكَ غَلَا أَقْوَامٌ فَقَصَرُوا مَنْهَجَ السَّلَفِ عَلَى طَائِفَتِهِمْ،  وَرَمَوْا غَيْرَهُمْ بِشَتَّى أَنْوَاعِ الْبِدَعِ، وَجَعَلُوا مِنْ شَرِيعَتِهِمْ وَدِينِهِمْ تَصْنِيفَ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ فِي غُلُوِّهِمْ، وَفَرْيَ أَعْرَاضِهِمْ، وَالتَّقَرُّبَ بِالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ. نَعُوذُ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- مِنَ الْغُلُوِّ وَالْجَهْلِ وَالْهَوَى، وَنَسْأَلُهُ السَّدَادَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.

وَلَا عِلَاجَ لِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ المُزْعِجَةِ إِلَّا بِأَنْ يُسِيءَ الْعَبْدُ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ، وَيَقْضِيَ عَلَى غُرُورِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى سَيِّئَاتِهِ، مَعَ إِحْسَانِ الظَّنِّ بِإِخْوَانِهِ المُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَبْرَزَ لَهُ الشَّيْطَانُ شَيْئًا مِنْ عَثَرَاتِهِمْ نَظَرَ إِلَى حَسَنَاتِهِمْ، فَغَطَّى بِهَا سَيِّئَاتِهِمْ، وَالْتَمَسَ لَهُمْ مَعَاذِيرَ التَّأْوِيلِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْجَهْلِ؛ لِئَلَّا يَقَعَ فِيمَا يُهْلِكُهُ وَيُوبِقُهُ.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "نُفُوسُكُمْ مَطَايَاكُمْ، فَأَصْلِحُوا مَطَايَاكُمْ تُبَلِّغُكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ -عَزَّ وَجَلَّ-".

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِّيُكُمْ...