الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن محمد الهرفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فتناقل العرب خبره وأثنى الناس عليه في الجاهلية وبقيت قصته مضرب المثل في الوفاء, حتى قيل: "أوفى من السموأل"، فأين أهلُ الإيمان من هذه النماذج؟ خاصةً أن ديننا الحنيف أمر بالوفاء في غير ما آيةٍ من كتاب الله, ومنها أن الله نص على أن الوفاء من شرائط البر ومن...
الخطبة الأولى :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102], (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
عباد الله:
الوفاءُ من صفات الرجولة، ومن المحامد العظيمة النبيلة، وما زالت الأممُ على اختلاف مشاربها ودياناتها تثنى على أهل الوفاء، وتذم أهل الغدر والخيانة، والوفاء نجم في سماء الأخلاق قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء: 34], قال الراغب الأصبهاني: "الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أن الوفاء صدقُ اللسان والفعل معاً، والغدرَ كذبٌ بِهِما؛ لأن فيه مع الكذب نقض العهد، والوفاء يختص بالإنسان، فمن فُقِدَ فيه الوفاء فقد انسلخ من الإنسانية، وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان، وصيَّره قواماً لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم تعاونُهم إلا مراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التعايش، ولذلك عظَّم الله تعالى أمره فقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة: 40]، وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) [النحل: 91], وقال تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) [البقرة: 177]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المعارج: 32].
وقد عُظِّم حالُ السموأل فيما التزم به من الوفاء بدروع امرئ القيس. مما يدل على أن الوفاء قيمةٌ عظيمة, قدَّرها العرب في الجاهلية وقد أقرهم الإسلام على ذلك، ولا يستطيع ذلك إلا القليلون، ولقلة وجود ذلك في الناس قال الله تعالى: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) [الأعراف: 102]. وقد ضُرب به المثلُ في العزة، فقالت العرب: "هو أعزُ من الوفاء"
قال علي بن الجهم:
وجربنا وجرَّبَ أولونا | فلا شيءٌ أعزُّ من الوفاءِ |
أما خبرُ السموأل بن حيان اليهودي الذي ذكره الراغب فإنه كان من وفائه أنَّ امرأ القيس لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموألَ دروعاً. فلما مات امرؤ القيس غزاه ملكٌ من ملوك الشام، فتحرز منه السموأل، فأخذ الملك ابناً له وكان خارجاً من الحصن، فصاح الملك بالسموأل، فأشرف عليه فقال: "هذا ابنك في يدي وقد علمت أن امرأ القيس بن عمي ومن عشيرتي، وأنا أحق بميراثه، فإن دفعتَ إلي الدروع، وإلا ذبحتُ ابنك". فقال: أجلني، فأجله. فجمع أهل بيته ونساءَه فشاورهم، فكلٌّ أشار عليه أن يدفعَ الدروعَ ويستنقذَ ابنه. فلما أصبح أشرف عليه وقال: "ليس إلى دفع الدروع سبيل؛ فاصنع ما أنت صانع". فذبح الملك ابنه وهو مشرفٌ ينظر إليه، ثم انصرف الملك بالخيبة فوافى السموأل بالدروع الموسم فدفعها إلى ورثة امرئ القيس، وقال في ذلك:
وفَيْتُ بأدْرُعِ الكِنْدِيِّ إني | إذا ما خَانَ أقْوَام وَفِيْتُ |
إنه كَنْزٌ رَغِيبٌ | وَلاَ وَالله أغْدِرُ مَا مَشَيْتُ |
فتناقل العرب خبره وأثنى الناس عليه في الجاهلية وبقيت قصته مضرب المثل في الوفاء, حتى قيل: "أوفى من السموأل"، فأين أهلُ الإيمان من هذه النماذج؟ خاصةً أن ديننا الحنيف أمر بالوفاء في غير ما آيةٍ من كتاب الله, ومنها أن الله نص على أن الوفاء من شرائط البر ومن سمات أهل الإيمان: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].
وأمر الله بالوفاء فقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) [النحل: 91]،وقال الله: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء: 34]، فأين الخونةُ من هذه الآيات العظيمات؟!!
وصار الوفاء بالعهد من شعائر هذا الدين وأركان الملة، فلما سأل هرقل أبو سفيان عما يأمر به محمدٌ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَيَأْمُرُنَا بِالصلاَةِ وَالصدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ" [متفق عليه]، وقد كان رسول الله صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بأبي هو وأمي- أوفى الناس ذمة، فقد سأل حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ عن سبب تخلُّفِه عن غزوة بدر الكبرى فقَالَ: مَا مَنَعَنِى أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى - حُسَيْلٌ - قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ, قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا, فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: "انْصرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ" أخرجه مسلم، فيا لله كيف يوفي رسولُ الله بعده لمن أراد حربه وقتاله وآذاه سنين طويلة، ولكنه الثباتُ على الأخلاق والمبادئ والقيم.
بل أمر النبي صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوفاء بأحلاف الجاهلية فقال: "أَوْفُوا بِحِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُهُ - يَعْنِى الإِسْلاَمَ - إِلاَّ شِدَّةً وَلاَ تُحْدِثُوا حِلْفًا في الإِسْلاَمِ" [ أي لا تحدثوا فيه محالفة بأن يرث بعضكم بعضاً فإنه لا عبرة به ] حسنه الألباني.
بل أمر النبي ص بأداء الأمانة ونهى عن الخيانة حتى مع الخائن اللئيم فقال صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" إسناده صحيح على شرط مسلم.
الخطبة الثانية
الحمد لله..
عبادَ الله: لقد عز الوفاء بين الأهل والأصدقاء، بل بين الأبناء والآباء، وانتشرت الخيانةُ حتى أن الابن ليضعُ أباه في دار العجزة، وأي خيانة أكبر، والأشد والأعظم أن يضع أمه وهي عِرْضُه عند أغراب، بل حدثني بعض الفضلاء أنهم رأوا امرأةً على الشاطئ فلما تحققوا منها فإذا بولدها قذفها هناك فأين الوفاء؟!
أما الأصدقاء فقل الوفي فإذا جئته يوم حاجةٍ اعتذر، وإن إأتمنته على أمر غدر، وصدق القائل:
عَزَّ الوفاءُ فما وفاءَ وإِنهُ | لأعَزُّ وجداناً من الكبريتِ |
فإِذا ظفرتَ بصاحبٍ | لكَ في الصداقةِ غير غادرْ |
فاحرص على كَنْزِ الوفاءِ | فإِنه في الناسِ نادرْ |
والزوج يطلّق زوجته بعدما هرمت وعجزت وقد خدمته سنين ولم يعد لها أحد، والزوجة تخرج عن زوجها وقد شاخ ورقَّ عظمُه، وهو في النساء نادر.
فليت هؤلاء إذ عجزوا عن الاقتداء بالنبي المختار ص اقتدوا بالسموأل اليهودي
وقد نص الفقهاء على الوفاء حتى في دار الحرب، قال الإمام الموفق ابن قدامة: "حكم ما لو أطلق الأسير وأمَّنوه: فإن أطلقوه وأمنوه صاروا في أمان منه لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه, فان أمكنه المضي إلى دار الإسلام لزمه, وإن تعذر عليه أقام وكان حكمه حكم من أسلم في دار الحرب... وإن أطلقوه وشرطوا عليه المقام عندهم لزمه ما شرطوا عليه, لقول النبي صلى الله عليه و سلم: "المؤمنون عند شروطهم". فأين أولئك الذين يدخلون الدول بعقود الأمان [الفيزا] ثم يحدثون فيها.