الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | الخضر سالم بن حليس اليافعي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أيها الإخوة: عندما يلغي الإنسان سمعه، فهو يلغي نعمة مَنَّ الله بها عليه، يلغي قلبه وعقله، فالسمع قناة تصب في القلب، فلا نضع في هذه القناة إلا ما يفيد القلب لا ما يضره. يضر الإنسان قلبه وعقله وفكره عندما يصغي بسمعه ويصيخ بإذنه لكل ما ليس بحق، لكل ما هو باطل معتمد على الشائعات، فمن...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: أول ما خلق الله من حواس الإنسان "السمع"، ولذا بدأ به على باقي الحواس، فقال: (هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) [الملك: 23].
الجهاز السمعي يبدأ تخلقه منذ بداية الأسبوع الثاني للجنين، وهو في رحم أمه، ويكون ذلك على هيئة حفرة على جانبي الرأس، ثم تصبح حويصلة ثم تستطيل، ثم تتكون الأذن الداخلية، وبعد ذلك يتكون الدهليز السمعي، ثم تتصل بالعصب السمعي.
وبتقدم وسائل العلم ثبت أنه بإمكان الجنين أن يسمع الأصوات منذ الشهر الرابع. فالأذن هي أول عضو من أعضاء البدن في التخلُق.
ولما كانت الأذن هي الحاسة المكتملة وحدها عند الولادة كان من سنته صلى الله عليه وسلم أنه يؤذن في أذن المولود، كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبيد الله أبي رافع عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن في أُذُن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة ".
هذه الحاسة تم صناعتها وتكوينها بدقة متناهية، وحساسية عالية جدا، لتعمل أربعا وعشرين ساعة بدون توقف، فالأذن تواصل سمعها أثناء النوم باستمرار نحن نسمع في الليل والنهار وفي النوم واليقظة؛ لأن الأذن لا تنام كما تنام العين.
ومن فقد هذه الحاسة الدقيقة فهو إنسان أصم فقد كماله الخلقي.
جعل الله هذه الحاسة ليسمع الإنسان؛ لأنه إذا لم يسمع فسوف يظل ويتوه ولا يدري ما يدور حوله.
نحن بحاجة أن نسمع لنهتدي ونسترشد ونعي ونعقل ونحكم من خلال ما نسمعه.
خلق الله السمع ليكون آلة لرفع الجهل، وتحصيل العلم: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78].
ثم رتب الله العقاب على كل من أهان هذه النعمة وألغاها وامتهن وظيفتها.
فالسمع في الآخرة من وسائل التنعيم والتكريم للمؤمنين، والحرمان منه من أنواع العذاب المعدة للكافرين.
فالمستفيد من سمعه في الدنيا يهبه الله أفضل السماع بالآخرة، قال تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً)[الواقعة: 25-26].
ومن عطّل سَمَعَه في الدنيا حرمه الله السمع في الآخرة، قال تعالى: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ)[الأنبياء: 100].
أيها الإخوة: عندما يلغي الإنسان سمعه، فهو يلغي نعمة مَنَّ الله بها عليه، يلغي قلبه وعقله، فالسمع قناة تصب في القلب، فلا نضع في هذه القناة إلا ما يفيد القلب لا ما يضره.
يضر الإنسان قلبه وعقله وفكره عندما يصغي بسمعه ويصيخ بإذنه لكل ما ليس بحق، لكل ما هو باطل معتمد على الشائعات، فمن استبدل سمعه الناضج بسماع الأكاذيب والأقاويل والشائعات فقد عطل عقله وعرض سمعه للزوال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ)[الأنعام: 46].
هناك من يسمع كلاما صحيحا ثم يسعى لتحريفه وتشويهه حتى لا تظهر الحقيقة للناس: (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 181].
أن تسمع "من" فلان أفضل من أن تسمع "عنه".
90% من أفكارنا وتصوراتنا ومعلوماتنا عن الآخرين تعتمد على السماع من حولنا، من الإعلام الذي يتغذى على الشائعات، من وكالة أنباء "قالوا".
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" [رواه البخاري] فعده كذبا لأنه لا ثبات فيه.
وعندما نعتمد على السماع المباشر، ونبتعد عن الشائعات؛ ستنتهي الكثير من التصورات الخاطئة عن بعضنا البعض، وعندها تحصل الفائدة، ويزول الخلاف، وتحل الكثير من الإشكالات، وتنتهي الصراعات، فمن أحسن الاستفادة من هذه الآلة اهتدى، ووصل إلى الحق، فقد حصر الله تعالى الاستجابة فيمن أحسن السماع المباشر، وابتعد عن التزوير، فقال: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)[الأنعام: 36].
السماع الكاذب مرض يفتك بالمجتمع، وسلاح مدمر؛ يفتت من كيانه ويرهقه، فما أسرع ما تتناقل الأخبار، ونلقي لها أسماعنا ونتشربها كما تتشرب الإسفنجة الماء.
امرأة العزيز: (سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ )[يوسف: 31].
قوم إبراهيم: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)[الأنبياء:60].
حادث الإفك الشنيع بني أصله على السماع المدمر، وتناقل الناس الخبر من دون تثبت، وكثر الكلام، وأصخت الآذان، فقال الله للمؤمنين: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)[النور:16].
دائما تحكم على شخص دون أن تجلس معه، ودائما يكون الحكم ظالما جائرا؛ كيف حكمت عليه؟! وبنيت في فكرك تصورا خاطئا عنه.
من خلال السماع!!
لقد صنعنا في عقولنا وأفكارنا "متاريس" وحواجز وجدر عن الآخرين فقط من سماعنا عنهم. هل جلست مع ذلك الشخص، وسمعت مباشرة منه، وصحبته وعاشرته؟!
لا.
فكانت النتيجة: تبادل الاتهامات، ترويج الشائعات، الدخول في النيات، تفسير المقاصد.
من نتائج ذلك: أننا نبتعد عن بعضنا البعض مسافات، ولا يمكن أن نجلس مع بعضنا بسبب أن كل واحد سمع عن الآخر ولم يسمع منه.
من نتائج ذلك: أن يصبح المجتمع أصلعا من كل خلق ومعروف؛ كما صور ذلك النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"[رواه أبو داود والترمذي وغيرهما].
ويا لله كم للسماع الخاطئ الكاذب، ونشر الأقاويل من إفساد في المجتمع، وتخريب له، وعندها يحلق الدين من القيم والأخلاق النبيلة.
ألا فاحذروا أن يختم الله على أسماعكم التي ربما تستعملونها في غير الخير، فتكونوا ممن: (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ)[البقرة:7].
واعلموا أن السمع يشهد على صاحبه يوم القيامة بما مرره صاحبه عبره من أقاويل: (يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[فصلت:19-20].
إن المؤمن دائما لا يعرض سمعه للشائعات والأباطيل والخرافات والشر، بل يصون سمعه من كل ذلك ولا يقول إلا خيرا، فمن صفاتهم الإعراض عند سماع اللغو: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص:55].