الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | حفيظ بن عجب الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
القرآن فضله لا يحتاج إلى تبيين، وقد بينه الله -جل وعلا- في الكتاب، أوَليس هو وحي الله إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي هدى الله به الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن العمى إلى النور. لقد كانت حرب المستشرقين، وحرب عملاء الغرب، وحرب المنافقين، وحرب الروافض والكفَرة، كلها مُنْصَبَّة على القرآن؛ لأنه دستورنا، ولأنه منهج حياتنا، ولأنه الذي يقودنا إلى العز والكرامة والشرف والنصر؛ فعودوا حتى تنتصروا إلى كتاب الله، احفظوه، اقرؤوه...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: ... أقدم إليكم هذه الكلمات علها أن تجد قلوبا واعية؛ والسبب أنه كان صاحب لنا يحفظ كتاب الله -تعالى-، ويتقن حفظه ويراجعه آناء الليل وأطراف النهار، واشتغل بدنياه عنه فنسي القرآن أو نُسِّيه وذهب منه، حتى إننا لما قلنا له: تقدم صلِّ بنا، قال: والله إني لا أحفظ ما كنت أحفظ وقد أنسيته وتناسيته! وهو أشدُّ تفلتاً من الإبل في عقلها.
أيها الأحباب: لقد ضاع منه الشرف، وضاع منه العز، وضاع منه الخير، وضاعت منه البركة، واتخذ هذا القرآن مهجورا؛ نسأل الله أن يصلح شأنه، وأن يرده ردا جميلا.
القرآن -يا عباد الله- كلام الله -جل وعلا-، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، مَن تمسَّكَ به اهتدى، ومَن أعرض عنه ضل وهوى، أثنى الله عليه في مواضعَ كثيرةٍ منه ليبين فضله، ويوضح للناس مكانته ومنزلته: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف:3-4]
أيها الأحباب: القرآن فضله لا يحتاج إلى تبيين، وقد بينه الله -جل وعلا- في الكتاب، أوَليس هو وحي الله إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي هدى الله به الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن العمى إلى النور؟ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:41-42].
فسبحان الله العظيم! كيف أعرض الكثيرون عن القرآن؟ وكيف اتخذوه مهجورا؟ وكيف أصبح القرآن يتفلت من حُفاظه وأصبحوا لا يقومون به الليل كما كان السلف الصالح يقومون به؟.
معصوم من الباطل هذا الكتاب، (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42].
حق من حكيم حميد، نزل به الروح الأمين على حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، فما من باطل إلا وفي القرآن ما يدمغه ويزهقه، وما من شبهة إلا وفي القرآن ما يبين بطلانها، (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) [الفرقان:33].
أيها المسلمون: إنه الحق الذي يُقذف به على الباطل فيدمغه: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء:18].
سماه الله -جل في علاه- نورا، وجعله للناس شفاءً، قال الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الشورى:52].
أيها الأحباب: نور جعله الله لعباده، وللناس شفاء، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، والخطاب للناس جميعا بدون تحديد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57].
أفنبحث عن الهدى والنور والرحمة والشفاء في غير كتاب الله -تعالى- والله جعلها جميعا في كتاب الله؟.
أُعجِب به الجن والإنس، أعجب به الجن لما سمعوه فآمنوا به واتبعوه: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن:1-2].
الله أكبر! بعد أن سمعته الجن وعلمت أنه كلام الله ظلوا يتعجبون منه، علموا أنه يهدي إلى الرشد، إلى الهدى، إلى الصلاح، إلى الإيمان، إلى التوحيد، إلى الله وحده لا سواه: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا).
تكفل الله بحفظه، وأعجز الخلق أن يؤتوا بمثله، فأين هم الحفاظ؟ هم في كل زمان ومكان، والله يحفظ كتابه من الضياع، يحفظه في صدور أوليائه المؤمنين، يحفظه للناس: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
وما دام الله -جل وعلا- تكفل بحفظه فإنه لن يضيع بنسيان بعض المسلمين له أو تركهم لحفظه؛ نسأل الله أن يرد الجميع إلى الكتاب العظيم.
قال الله -جل في علاه-: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:88].
لو تعاون الإنس والجن واجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن فلن يأتوا بمثله؛ لأنه كلام رب العالمين ووحيه، وأنى للإنس والجن أن يأتوا بمثله؟.
أيها الأحباب: عليكم بكتاب الله فاحفظوه، احفظوه وحفظوه لأبنائكم صغارا وكبارا، واعلموا أن الحفظ ليس قاصرا على الصغار وحدهم بل يحفظه الصغير والكبير.
لقد تسابق أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في حفظه، وتنافسوا فيه، حتى كانوا لا يتعدون عشر آيات منه إلا وقد علموا ما فيها وفهموها بعد أن حفظوها [وعملوا بها].
وكان بعضهم يقدم على بعض ويفضل بسبب كثرة حفظه لكتاب الله، كانوا يقومون به آناء الليل وأطرف النهار؛ ولذلك ارتفعوا وعلوا وانتصروا وتمكنوا لأنهم تمسكوا بكتاب الله واصطبروا عليه.
عن ابن الخطاب عمر -رضي الله عنه- أن حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" رواه مسلم.
ترى رجلاً أو امرأة لا ذكر له في خَلق الله، ليس له شرف ولا نسب ولا أصل، فيحفظ كتاب الله العظيم فيصبح أرفع الناس ذكرا وأحبهم إلى قلوب العباد، ويرتفع عند الناس وعند الله، ما الذي رفعه؟ "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين".
يُرفع حُفاظ الكتاب وهم من المماليك حتى يصبحوا سادة الناس، ومن الخدم الصعاليك إلى أن يصبحوا قادة الناس في العلم والمعرفة والإيمان.
خَذَلَتْ أبا جهلٍ أصالتُهُ | وبلالُ عبدٌ جاوَزَ السُّحُبا |
رضي الله عن صاحب النبي.
أيها الأحباب: يرفع الله به من حفظه حتى يرتفع في جنات النعيم، وقبل ذلك يرتفع بين عباد الله.
أيها الرفيع، أيها الشريف، أيها المتمكن، كل هذه تضيع إذا لم تكن من حفاظ كتاب الله العاملين به، وكلها تذهب أدراج الرياح إلا حافظ القرآن فإنه رفيع في الدنيا وفي الآخرة متى أخلص النية لله رب العالمين.
أيها الأحباب: ألم يأمرنا الله -تعالى- بتلاوته والعمل به وتدبره؟ قال -جل في علاه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:29-30].
أيها الأحباب: يتلون كتاب الله ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله في السر والعلن، ماذا يرجون؟ يرجون تجارة لن تبور، يرجون جنة الله، يرجون الدرجات العلى في الجنة، يرجون الخلود في النعيم، يرجون رضا الله والجنة، والله -جل وعلا- غفور شكور.
يسألون الله من فضله، سيوفّيهم الله أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور، نسأل الله أن يجعلنا من الذين يتلون الكتاب آناء الليل وأطراف النهار، ويقيمون الصلاة بكتاب الله، وينفقون مما رزقهم الله في السر والعلن، بإخلاص وحسن نية، يرجون تجارة لن تبور، فعليكم بالاقتداء بهم، تدبروا القرآن واحفظوه واتلوه واعملوا به، ولا تتخذوه مهجورا.
أيها الأحباب: لو لم يكن للقرآن من الفضل إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الحسن عند الترمذي: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: (الم) حَرْفٌ؛ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ". لو لم يكن من الفضل إلا أن في قراءته، في كل قراءةِ حرفٍ، أجراً وثواباً وحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لكفاه!.
أولم تقرؤوا حديث عائشة -رضي الله عنها- لما قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران".
فالله أكبر! الذي يقرؤه وهو من المهرة فيه -أسأل الله أن يجعلنا من قرائه المهرة فيه- مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه له أجران، فهو يتلوه وهو يشق عليه فله أجر عظيم عند الله حتى لو لم يستطع أن يقرأه مثلما يقرؤه المهرة فيه.
فإذاً؛ إذا لم تكن من المهرة الحفاظ لكتاب الله فلتكن ممن يتلوه ويقرؤه، ولو شق عليك فلك من الأجر عند الله ما ذكرت أم المؤمنين عن حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري ومسلم، نسأل الله من فضله.
ويوم القيامة -يا أولياء الله- تتجلى هذه الفضائل لقراء القرآن وأهل تلاوته، فيشفع لقارئه ويعلو به في مراتب الجنة على قدر قراءته؛ ولذلك في مسلم عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه"، نسأل الله أن يكون القرآن شفيعا لنا يوم القيامة.
أيها الأحباب: قبل فترة [رأيت] طفلا يحفظ القرآن بصعوبة يتلوه فلا يستطيع لسانه أن يبين، فهو يحفظ مع شق لسانه، ومع أنه قد ذهب جزء من لسانه، وهو أعجمي ليس عربيا، إلا أنه مسلم يحفظ القرآن كاملا، حتى إنه عندما يقرؤه لا يستطيع أن يقرأه إلا بشدة وبألم شديد، ويخرج منه بصعوبة ويتتعتع فيه، ومع ذلك يحفظه ويحاول أن يحافظ على حفظه، أسأل الله أن يجعله شفيعا لنا وله.
أيها الأحباب: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه"، أبناء المسلمين -إلا من رحم الله- أصبحوا يحفظون أشعارا ويحفظون أقوالا وأخبارا وأمثالا ويتركون كتاب الله!.
لا فلاح للأمة، ولا صلاح، ولا نجاة، ولا عزّ؛ إلا بعودتها لكتاب الله، حفظا، وتدبرا، وتلاوة، وعملا، وتطبيقا في واقع الحياة؛ أما الحفظ هكذا فإن أجره لصاحبه فقط إن أحسن النية، ولكن؛ لابد مع حفظ القرآن من العمل به.
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها".
فإذا كان ممن يقوم الليل بالقرآن يرتله سرا وعلنا ويعاود حفظه ويراجعه فإنه يترقى في منازل الجنان حتى يبلغ المنازل العلى، وإذا كان حافظا لكتاب الله كاملا فيكون في أعلى درجات الجنة، "اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها".
أوَلَا يكفي هذا الخبر في حملكم على حفظ كتاب الله وعلى تدبره وعلى العمل به وعلى حث أبنائكم وبناتكم على حفظه وعلى حث المسلمين على العودة إليه؟.
ومن العجيب أنّ حالَ الكثيرين منا التقصير في تلاوة كتاب ربهم وتدبره والعمل به، مع علمهم بفضله وأجره، يقول عثمان -رضي الله عنه وأرضاه-: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله".
ولهذا يقول -جل وعلا-: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:124-125].
حال المؤمنين في هذه الآية بيِّن، وحال المنافقين في أختها بَيِّنٌ عند سماع القرآن وتلاوته؛ فليحذر أهل الإسلام أن يكونوا من الصنف الخاسر الذي لا يزيده سماع القرآن إلا خساراً، احرصوا على حال أهل الإيمان.
أيها المسلمون: عليكم بتدبر القرآن والتمعن فيه، وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص:29]؛ فأين أولو الألباب؟! نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذّوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة".
إن بعض الناس يستمعون إلى القرآن فيبكون فتخضل لحاهم بالدموع وتسيل على خدودهم، وبعضهم يقرأ عليه القرآن فلا تتحرك قلوبهم ولا يتأثرون!.
أيها الحفاظ، يا حفاظ كتاب الله، يا طلبة العلم: عليكم بمراجعة حفظكم، فأنتم حفظة القرآن، تعاهدوه؛ فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال، قال حبيبكم وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم-: "تعاهدوا القرآن؛ فوالذي نفس محمد بيده! لهو أشد تفلتا من الإبل من عقلها".
أيها الحفاظ: احذروا من نسيان كتاب الله، وعليكم بمراجعة حفظكم؛ فإنكم إن لم تراجعوه ذهب.
ووالله! إن أفضل ما يراجع فيه الحفظ قيام الليل والصلاة في السر لله رب العالمين، عندما تراجعه في الصلاة فإنه يبقى ويحفظ، حتى لا تكاد تخرم منه حرفا، فإذا ما أردت آية وجدتها حاضرة في صدرك.
"تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده! لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها".
ما قيمة عالم أو داعية إذا ما قرأ آية خرمها أو لم يحفظها أو بحث عن ورقة ليقرأ منها؟ أولست من الدعاة إلى هذا الدين؟ أولست من أهل العلم؟ عليك قبل ذلك أن تحفظ القرآن وتتقنه، وتعلمه الناس، وتعمل به قبل ذلك.
أيها الأحباب: ثم عليكم بالخشوع عند تلاوة القرآن، اخشعوا عند تلاوة القرآن، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وأرضاه، كما في البخاري ومسلم، قال، قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأ عليّ"، قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال "نعم"، فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) [النساء:41]، قال: "حسبك الآن!"، فالتفتّ إليه؛ فإذا عيناه تذرفان.
اللهم صل وسلم على الحبيب، أين الذين يخشعون عند قراءة القرآن؟ أين الذين يتذكرون؟ أين الذين يبكون عند تلاوته؟ أين هم؟ أين هم؟ إنهم في الأمة كثير، ولله الحمد؛ لكن نسأل الله أن يردنا إليه ردا جميلا.
أيها الأحباب: هجر القرآن من مصائب هذا الزمان، وكثير من الناس -إلا من رحم الله- قد هجره: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30].
وهجر القرآن يشمل هجر التلاوة والقراءة والتدبر والعمل والتحاكم إليه، كما قال ابن القيم رحمه الله: "فمَن هجر التحاكم إلى شرع الله وكتابه، أو هجر العمل بالكتاب، أو هجر التدبر، أو هجر التلاوة، فهو داخل في قول الله -تعالى- عندما يشكو الرسول منهم: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا).
فعودوا إلى كتاب الله، اقرؤوه واحفظوه، واعملوا به، وتأملوا فيه، واعلموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله أهلين من الناس"، قيل: من أهل الله منهم؟ فقال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن وأهل الله وخاصته.
عودوا إلى القرآن، عليكم بكتاب الله حفظا وتلاوة وعملا، حتى تكونوا مسلمين من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
ولو قيل لأحد: أتريد أن تحسب في أهل الله وخاصته؟ لقال: نعم! فعليكم بالكتاب؛ فاحفظوه وتدبروه واعملوا به، واعلموا أن سبب ضعف الأمة وهلاكها وسيطرة أعدائها عليها أنهم تركوا القرآن.
لقد كانت حرب المستشرقين، وحرب عملاء الغرب، وحرب المنافقين، وحرب الروافض والكفَرة، كلها مُنْصَبَّة على القرآن؛ لأنه دستورنا، ولأنه منهج حياتنا، ولأنه الذي يقودنا إلى العز والكرامة والشرف والنصر؛ فعودوا حتى تنتصروا إلى كتاب الله، احفظوه، اقرؤوه، اتلوه، اعملوا به؛ فستسودون به الدنيا.
يقول أحد قادة الغرب: "ما دام هذا القرآن موجودا في صدور المسلمين فإنهم يشكلون أكبر خطر علينا"، يعني على ملل الكفر.
ولذلك فإن عودتنا إلى الكتاب وإلى حفظه وإلى تدبره وإلى استنان سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه تعني أننا سننتصر ونسود ونغلب، فبهذا القرآن سؤددنا، به سنسود ونرتفع، فعودوا إلى القرآن، وعودوا إلى السنة، وتمسكوا بكتاب الله، واصطبروا عليه، واعملوا به في كل أمر ونهي.
واعلموا -أيها المسلمون- أنه لا شرف ولا عزة لكم إلا بالعودة إلى كتاب الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم رد المسلمين إلى كتابك ردا جميلا...