الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | عادل الكلباني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - فقه النوازل |
إن الإسلام دين جماعة، يجمّع ولا يفرق، بل حتى أعداء الإسلام يتجمعون لمواجهته، ولحربه، يواجهونه بقوى جماعية، ويؤلبون عليه في تجمعات ضخمة، فلا بد -والحالة هذه- لجنود الإسلام وأنصاره أن يواجهوا أعداءه صفا كالبنيان المرصوص... وإنما جاء ضرب المثال بالبدن لتنوع أجزائه، واختلاف مهمة كل جزء، وأهميته، وقيمة الحياة دونه، إلا أن التكاتف بين الأجزاء الجسدية كامل، لا يقيم وزنا لهذا الاختلاف، ولا لتلك...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: لقد أنزل الله -تعالى- كتابه، وأرسل رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ظلمات الشرك والجهل، ظلمات الفرقة والاختلاف، ظلمات الجور والظلم، ظلمات البغي والطغيان.
يخرجهم من تلك الظلمات، وينقذهم من التيه في دياجيرها، ليبصروا النور، ويهتدوا إلى الحق، ويسلكوا الصراط المستقيم.
ولهذا فإن رسالة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- رسالة الجماعة، رسالة التأليف والبناء، رسالة إعمار وإعلاء، رسالة تآلف وإخاء، تنشر الأمن، وتعبّد الطرق للسالكين، فجاءت مليئة بالتعاليم الربانية، تبني مجتمعا إسلاميا مترابطا، متكاتفا، مثاليا في أخلاقه، متينة جذوره، مترابطة فروعه، متراصا لا خلل فيه، ولا تنافر بين لبناته.
وتأمل معي -أيها الأخ الحبيب- هذا الحديث الشريف عن النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنهما-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" متفق عليه.
ويا لروعة المثل! يستطيع إدراك معناه كل عاقل، لا بد أن يكون يوما ما قد أحس بالألم في جزء من جسمه، تداعت معه حرارة الجسم فارتفعت، وأطرافه فانتفضت، ونفسه فانقبضت، حتى لكأن الألم يسري في جسده كله، بل هو كذلك، ولا يمكن له أن يقول هذه رجلي وطئت نجاسة سأقطعها، ولكن يسارع إلى تنظيفها وإزالة الأذى عنها، لأنه يحبها، ويتألم بها ولها، فهي جزء منه، مهما كان هذا الجزء صغيرا أو مغمورا، فهو في الجسد، يؤدي مهمته، ويعين على الحياة التي لا تنعم إلا بالعافية في البدن كله.
وإنما جاء ضرب المثال بالبدن لتنوع أجزائه، واختلاف مهمة كل جزء، وأهميته، وقيمة الحياة دونه، إلا أن التكاتف بين الأجزاء الجسدية كامل، لا يقيم وزنا لهذا الاختلاف، ولا لتلك الأهمية؛ فمتى اشتكى أي عضو منه تداعى سائر الجسد يحس به، ويشعر بألمه، وينبه صاحبه لوجود ألم ما، في جزء ما من الجسد. وتداعى، أي: دعا بعضه بعضا للمشاركة في الألم، ويقال تداعت الحيطان، أي: تساقطت، أو كادت.
معاشر المسلمين: ومع هذا التشبيه في الحديث النبوي الشريف رابطة أخرى بآية من كتاب المولى -جل وعلا-، تحاكي الحديث ويحاكيها في التشبيه؛ لأن الغرض واحد، فتأمل التشبيه في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف:4].
فشبههم وهم يقاتلون بالبنيان، وليس بنيانا متهدما، أو مزعزعا، بل بنيان مرصوص. متماسك، لم ينهدم منه جزء، ولم تثلم منه جهة، وهو تماما ما جاء به التشبيه النبوي الكريم، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان؛ يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه. أخرجه البخاري من حديث أبي موسى -رضي الله عنه-.
قال السعدي -رحمه الله-: هذا حث من الله لعباده على الجهاد في سبيله، وتعليم لهم كيف يصنعون، وأنهم ينبغي لهم أن يصطفّوا في الجهاد صفا متراصا، متساويا، من غير خلل يحصل في الصفوف.
وتكون صفوفهم على نظام وترتيب، به تحصل المساواة بين المجاهدين، والتعاضد، وإرهاب العدو، وتنشيط بعضهم بعضا.
ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حضر القتال صف أصحابه، ورتبهم في مواقفهم، بحيث لا يحصل اتكال بعضهم على بعض؛ بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها، وقائمة بوظيفتها، وبهذه الطريقة تتم الأعمال، ويحصل الكمال. اهـ.
أيها المسلمون: إن الإسلام دين جماعة، يجمّع ولا يفرق، بل حتى أعداء الإسلام يتجمعون لمواجهته، ولحربه، يواجهونه بقوى جماعية، ويؤلبون عليه في تجمعات ضخمة، فلا بد -والحالة هذه- لجنود الإسلام وأنصاره أن يواجهوا أعداءه صفا كالبنيان المرصوص، صفا سويا منتظما، وصفا متينا راسخا متناسقا، فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد الله وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الفتح والنصر المبين.
فالصوم يوم يصوم الناس، والحج يوم يحج الناس، وكذلك الصلاة حيث ينادى بها مع جماعة المسلمين؛ وأما التفرد والتفرق، فبعيد عن منهج الإسلام، مخالف لهديه، معارض لتعاليمه.
وتأمل كيف أن إصلاح ذات البين جاء بعد الغنيمة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال:1].
والنهي عن التفرق والتحزب جاء حين القتال أيضا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:45-46].
فهذه أهم عوامل النصر على العدو: ذِكْرٌ، وتكاتُفٌ، وطاعةٌ لله ولرسوله.
هذه هي الصورة التي يحبها الله للمؤمنين، ويريد منهم أن يتبعوها، إذ هي ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق الذي يرسمه في التعبير القرآني البديع، واصفا حالهم صفا كأنهم بنيان مرصوص، بنيان تتعاون لبناته، وتتضام وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها، تقدمت أو تأخرت سواء، وإذا تخلت منه لبنة أن تمسك بأختها، تحتها أو فوقها، أو على جانبيها سواء.
إنه التعبير المصور للحقيقة، لا لمجرد التشبيه العام، التعبير المصور لطبيعة الجماعة وحقيقتها، ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة.
قال ابن عاشور: "والمرصوص المتلاصق بعضه ببعض، والتشبيه في الثبات وعدم الانفلات، وهو الذي اقتضاه التوبيخ السابق في قوله: (لِمَ تقولون ما لا تفعلون)" اهـ.
والشاهد في هذه الآية وفي الحديث تشبيه المؤمنين بالبنيان، في جهادهم، وفي توادهم وتعاطفهم: يشد بعضهم بعضا.
عباد الله: أخرج البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجهه، فقال: "أقيموا صفوفكم، وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري".
ومن حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَتُسَوُّنَّ صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم" أخرجه البخاري.
فهذه النصوص في التوادّ والتراحم، والتعاطف، وشد البعض للبعض، في حالات السلم وفي الجهاد، مما يثبت عناية الإسلام بالاجتماع والتراص، والتكاتف حين القيام لله في الصلاة، وحين القيام للعدو في الجهاد، وحين التعامل في حالة الرخاء والسلم.
فاجتماع الكلمة من أصول الدين، وراسخ أسس بنيانه القويم؛ ولهذا جاء في وصيته -صلى الله عليه وسلم- لنا أن نسمع ونطيع من ولاه الله أمرنا، في غير معصية الله تعالى.
أيها المسلمون: إذا ثبت هذا فقد علم أن إحداث الصدع في بنيان المجتمع المسلم مخالف لكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، إذ هو نقض للبنيان، وهدم للأركان، ومخالف لأبسط وأدنى شعب الإيمان؛ فإن "الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق".
وقد غفر الله لرجل بشوكة أماطها من طريق المسلمين، فغفر له وأدخله الجنة، أترون إزاحة شوكة تساوي جنة عرضها السماوات والأرض؟ إن الأمر عظُم لعِظَم أثره، فالشوكة قد تؤذي أحدا من المسلمين، أقول: قد، ولمــــَّا يتحقق أذاها، كيف لو تحقق بها الأذى؟ فليست القضية قضية شوكة أميطت، ولكنها قضية رفع أذى -ولو متوقع- لمسلم!.
فواعجبا ممن يضع الشوك في طريق المسلمين! وواعجبا ممن يقذف الرعب في قلوب الموحدين! وواعجباً ممن يروع الآمنين من المسلمين! وواعجبا ممن يسفك دماء المسلمين ويهلك حرثهم، ويسعى في الفساد في أرضهم، ويرفع السلاح في وجوههم، ويقطع نسلهم!.
وإن تعجب فعجب قولهم: نقتل المسلمين جهادا في سبيل الله، ونروع الآمنين دفاعا عن مقدسات الأمة، وإعلاء لكلمة الله، ونشرا للحق والفضيلة، وإصلاحاً أردناه للبلاد، وعزا ورفعة للعباد!.
وإنهم لكاذبون! فلا والله! ليس في فعلهم هذا أي صلاح أو إصلاح، وليس هو من الجهاد! إلا أن يكون جهادا مع إبليس وحزبه، ونصرة للباطل وأهله.
وقلنا هذا ونقوله ونؤكد عليه فافهموه جيدا، واحفظوه جيدا: تدمير الممتلكات، وسفك الدماء الطاهرة، وقتل النفس بغير حق، باسم الجهاد كذب وزور وبهتان مبين، بل هو خنجر يطعن قلب الأمة، ويضعف قوتها، ويجعلها لقمة سائغة للعدو، إذ به تتفرق الكلمة، وتضعف الهمة.
إن الجهاد ليس فيه قتل الآمنين، ولا الاعتداء على المسالمين، ولا ترويع عباد الله المسلمين؛ وليس فيه خروج على ولاة أمر المسلمين، بل هو جهاد تحت رايتهم، مع بَرهم وفاجرهم.
إن من أراد أن يرفع راية الجهاد خفاقة في سماء العز والسؤدد يجب عليه أولا أن يجمع الكلمة، ويوحد الصف: صفا كأنهم بنيان مرصوص، قال ابن كثير -رحمه الله- تعالى: وقوله بنيان مرصوص: ملتصق بعضه ببعض، من الصف للقتال. قال ابن عباس مثبت، لا يزول، وقال قتادة: ألم تر إلى صاحب البنيان، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟ فكذلك الله -عز وجل- يحب أن لا يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به.
وعلى هذا فإن ما يقوم به من ينتسب إلى ما يسمى بتنظيم القاعدة ظلم وعدوان، وتفريق وهدم للبنيان، وهي أفعال لا ترص الصف أبدا، بل تخلخله، وتفرقه، وكل من شارك معهم، أو رضي بفعلهم، أو برر حربهم وقتالهم للمسلمين، وخروجهم على ولاة الأمر منهم –شاء أم أبى، علم أو جهل- حربة من حراب العدو، وسهم من سهامه، وخنجر في يده، يفتك به ويقتل، يعين على المسلمين ولا يعينهم، ينصر الأعداء ولا يخذلهم، ويقويهم ولا يضعفهم، فهو جهاد مع العدو لا ضده.
هو جهاد في الجانب الآخر مع المغضوب عليهم والضالين، وصدق الله إذ يقول: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر:8].
معاشر المسلمين: تقلب الحقائق في فكر ورثة الخوارج حتى يروا حسنا ما ليس بالحسن، وظنوا كما ظن أسلافهم أنهم إذا قتلوا فشهداء، وأن ما يفعلون جهاد ونصرة للدين، وإعلاء لكلمة الله. إن يقولون إلا كذبا! (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمد:14].
أما علمت أن زوال الدنيا أهون عند الله من سفك دم مسلم بغير حق؟ وفي خطبة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الحج: "إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا".
قال: "وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا، يضرب بعضكم رقاب بعض".
ولا يصح أن يكون منهجا لنبي الرحمة، قتل الأبرياء، وسفك الدماء، وتلويث الماء والهواء، وهو الذي نهى أن يشار إلى المؤمن بحديدة، أو أن يروع، ونفى الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه، ويؤثم من بات وجاره في جواره جائع، أيعقل أن يبيح سفك دمه، وترويعه في منزله، ونشر الرعب في طريقه، وفي مكتبه وعمله؟.
ويوم القيامة يقتص من الشاة القرناء للشاة الجلحاء، نطحتها، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ ودخلت امرأة النار في هرة حبستها، فكيف يأمن النار سفاك الدماء، وأول دم يسفكه دم نفسه، ودما حرمه الله عليه؟ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. أقول ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليه يتوكل المتوكلون، وإليه يلجأ الخائفون.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فيا ليت قومي يعلمون! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ما اهتدى بهديهم مهتد، وما أعرض عنه المفترون، وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تقوى الله توجب على العبد المتقي أن يقف حيث أمر بالوقوف، فيفعل ما يؤمر، ويجتنب ما أمر أن يجتنبه ما استطاع أن يجتنبه.
فيا إخوة الدين والعقيدة: حافظوا على أمنكم، ورزقكم، عضوا على ذلك بالنواجذ، بطاعة الله تعالى، وامتثال أمره، واتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أولا.
وثانيا: بالأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء، الذين يريدون نشر الرعب فيكم، وهدم بنيانكم، وسفك دمائكم، وتفريق كلمتكم، فلا والله! ليس بعد الإيمان نعمة أفضل من العافية، في الدين والدنيا، والأمن هو مربط ذلك كله، فتعاونوا على الفتك بهم، والقضاء عليهم، ضعوا أيديكم بأيدي ولاة أمركم، دفاعا عن بلادكم، وحرصا على نعمتكم، وإبقاء لها.
واحذروا ممن يقلل من قيمة الولاء للوطن، أو يهون من حبة والدفاع عنه، والموت في سبيله، قال -جل وعلا-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) إلى قوله: (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) [البقرة:246]، وقال -جل جلاله-: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) [النساء:75].
ففي هذا دلالة على أهمية القتال بل وجوبه من أجل الديار والأبناء، وأن هذا من الجهاد في سبيل الله، فالدفاع عن الوطن بالسلاح، والكلمة، جهاد ولا ريب، لمن أخلص نيته، ومن قتل في ذلك فنرجو له الشهادة، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من قتل دون ماله فهو شهيد" أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. وعند غيرهما: "مَن قتل دون أهله"، وفي رواية: "مَن قتل دون دينه".
وعند مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتِلْهُ". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار".
فعلى هذا فإن كل من قتل دون أرضه أو عرضه أو ماله أو دينه أو أهله فهو شهيد؛ إذ إن الوطن مال، وعرض، وأهل، ودين؛ ونشر الأمن في ربوعه غاية دينية شرعية، بها يقام شرع الله، وتطبق حدود الله، وتعلو كلمة الله.
بالأمن يرفع الأذان، ويمشي الناس إلى الصلاة، وبالأمن يقوم الاقتصاد وتدفع إلى الفقراء الصدقة والزكاة، وبالأمن تسير الركاب إلى البيت الحرام، وعند المشعر الحرام يذكر الله.
فيا رجل الأمن، أيها الحبيب، يا ساهرا تحفظ أمني، وتدرأ عني الخطر بنفسك، فيسيل دمك قتيلا، أو جريحا: نحن معك قلبا وقالبا، فيدي مرفوعة تدعو لك في وقت السحر، بالتسديد، والتوفيق، والنصر؛ ولساني يلهج بالتضرع إلى الله إن مت أن يتقبلك شهيدا، وإن جرحت أن لا يجعل يوم شفائك بعيدا، وإن نصرت كنت في يوم نصرك مبتهجا سعيدا.
ولكن؛ أَخْلِصْ نيتك، وقو عزيمتك، وسدد رميتك، فأنت تحمي حمى الدين، وتدرأ الأذى عن المسلمين، وتنشر الأمن للمستأمنين، فأنت على ثغر، فاجعل سهرك داخلا في عين باتت تحرس في سبيل الله، فلن تمس عينك النار.
وهنيئا لنا جميعا بمقتل عثاة الفساد، وتكسر أضلاع الإفساد، واقتلاع جذور البغاة، والخوارج، المروعين للعباد، وسيبقى الحق عالي الراية، شامخ القامة، لا يزيده المرض في جسمه إلا مناعة وحصانة. رد الله العافية إلى جسد بلادنا عاجلا غير آجل.
اللهم...