الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
وحيث إن حال واقعنا هو ما نرى فإننا نوقع السبب في ذلكم إلى أن العمل قد حرم دفع ومساندة قيم الإسلام الحاثة على الإحسان والإتقان، بل ربما اختفى الشعور أصلًا لدى بعض الأفراد -وهم كثر- بأن الإتقان من أهم أسس التربية الإسلامية؛ إذ لا يكفي الفرد أن يؤدي العمل فحسب، بل لا بد أن يكون صحيحًا.. ولا يمكن أن يكون صحيحًا إلا إذا كان متقنًا
الحمد لله المبدىء المعيد الفعال لما يريد، له الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله علانتيه وسره، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.. إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وسيد ولد آدم.. بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -تعالى-؛ إذ بها بعد الله معتصم، وعليها المعول في المغنم والفكاك من المغرم.. من لزمها وفق وسدد، ومن غفل عنها فقد غفل إلى ضيعة، والعاقبة للمتقين.
أيها الناس: إن من المعلوم بداهة أن المجتمعات كلما كانت بسيطة محدودة، كلما قلت تكاليف العمل لديها وأجزأها اليسير منه بما يغطي احتياجاتها المتواضعة، وكلما كبرت المجتمعات وتكاثرت، كلما عظمت المسئولية وتعددت المطالب واتسع مجال النقد والبحث عن الجودة والإتقان..
وحيث إننا نعيش في عالم يهيج بثورة المتطلبات العملية على كافة مستوياتها -دينية كانت أو دنيوية - فإننا بحاجةٍ أن نفهم معيارًا له الأثر البالغ في تحديد مستوى الكفاءة والرضا بالحال والشعور بأن المجتمع يصنف ضمن المجتمعات الإيجابية لا السلبية.. ألا وهو معيار الإتقان -عباد الله-.
إننا -أيها المسلمون- نسمع رجع الصدى بين الحين والآخر بالتأفف من مستوى الإتقان في مفاهيم العمل والإنتاج لدى المجتمعات المسلمة، بل لا نبعد النجعة إن قلنا: إن المجتمعات المسلمة أحوج ما تكون إلى تغيرٍ جذري في مفاهيم العمل، وأهمية الإنتاج المتقن لكل عمل نقوم به في حياتنا العملية..
وإن من المؤسف أن نرى في واقعنا تصوراتٍ خاطئةٍ لا تفرق بين التكامل كقيمةٍ حياتية اجتماعية وبين التكاسل كعيبٍ سلوكي..
وبما أن العمل والتعليم هما مقبض الرحى للمجتمعات المتقدمة فإن التعليم العام -المتوسط منه والعالي- في المجتمعات المسلمة يفتقران إلى صقلٍ وتجليةٍ؛ ليتضح معنى الإتقان لدى ممارسيه من كافة الطبقات العلمية؛ حيث توارى الإتقان وراء أسوار شاهقة متخلفًا إلى الوراء، مع أن الخطى إلى الأمام، مع أن المشي مشي رواحٍ لا مشي هجوم؛ فضرب التسيب بأطنابه على الإهمال والتقصير وقصور التطلع والرضا بأن نظل مع الخوالف في ميادين التقدم والإتقان، بل أصبح الإهمال وضعف الهمة طاردين لخلق الإتقان من مفاهيمنا وضمائرنا..
وطبقنا بذلك المفهوم السائد ( أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق )؛ فتقدم الرخيص الضعيف على الغالي المتقن..
وإن مما يزيد شدة الأسف أننا شعوبٌ ومجتمعاتٌ مسلمة تدين بدين الإتقان.. دين العمل والنجاح.. دين العمل للدنيا والأخرى.. دين الحث على مكابدة الحياة واستسهال الصعاب.. دين الفأل والأمل المحمود الذي يبلغ بالمجتمع المجد بعد أن يلعق الصبر مرات ولا يكاد يسيغه.
وحيث إن حال واقعنا هو ما نرى فإننا نوقع السبب في ذلكم إلى أن العمل قد حرم دفع ومساندة قيم الإسلام الحاثة على الإحسان والإتقان، بل ربما اختفى الشعور أصلًا لدى بعض الأفراد -وهم كثر- بأن الإتقان من أهم أسس التربية الإسلامية؛ إذ لا يكفي الفرد أن يؤدي العمل فحسب، بل لا بد أن يكون صحيحًا.. ولا يمكن أن يكون صحيحًا إلا إذا كان متقنًا.
وبهذا يتضح أن الإتقان في الإسلام ليس هدفًا سلوكيًّا قاصرًا على الفرد فحسب، بل هو سمةٌ حضاريةٌ تقدميةٌ للمجتمع المسلم تنمحي بسببه بعض السلوكيات البغيض كالفوضى واللامبالاة، بل ينمحي بسببه مفهم الأنا، أو بعبارة أخرى عدم مجاوزة الذات.. بمعنى أن العمل لن يكون متقنًا ما لم يقتصر نفعه على ذات المتقن وحده..
وهذه الصفة هي إحدى صرخات السياسة الفرعونية: ( مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى ) [غافر:29]..
ونحن في هذا الصدد نريد أن نوقظ الضمير المسلم؛ ليكون حيًّا يمارس دور الحكم الداخلي على النفس.. ألا وهو دور الرقيب والواعظ أثناء العمل؛ لأن إيقاظ الضمير لم تتوجه إليه الميادين التعليمية في غالب المجتمعات المسلمة؛ حيث رؤي أن إنتاج التعليم في المجتمعات الإسلامية قد أفرز أجساما مفرغةً وضمائر نائمة؛ فانعكس ذلك تماما على الجودة والإتقان..
والجزاء من جنس العمل، ولقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: " تجدون الناس كإبل المائة لا يجد الرجل فيها راحلة " رواه مسلم.
ومن هنا نعلم -عباد الله- أن سبب تأخر المجتمعات المسلمة في أهم مجالات الحياة إنما هو بسبب فقدان الإتقان، وضحالة المهارة، والعجز عن ملاحقة السباق الحديث في ميادين الثقافة والصناعة والمهارة.. التي تعود بالنفع العام على المسلمين، وتجعلهم في مقدمة أمم الأرض بعد أن تأخروا عن سبقهم الذي كانوا عليه في القرون الأولى؛ لأن العصر الحديث يتطلب مستوى رفيعًا من التخصص المكمل الإتقان؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، بل لا يحسن الشيء من لا يفهمه أو من ليس من بابه، ولقد أحسن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- حين قال: " ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب ".
ولو لم يكن في مواكبة الزمن في آلاته وتقنياته وإتقانه معنى لما أمر الله به عباده في قوله: ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ... ) [الأنفال:60].
فالنبل لا يقاوم المدفع والرمح لا يرد صاروخًا، كما أن المشي على الأقدام ليس كركوب الدابة وليس الماشي كالجاري: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً... ) [هود:7]، ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل:88].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم..
قد قلت ما قلت؛ إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله؛ إنه كان غفاراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد:
فيا أيها الناس: في إبان هذا الضعف في الإنتاج والعمل المتقن لدى المسلمين سمعت أصواتٌ هالها التقدم الأجنبي عنها وظنوه بدعًا من قبل أنفسهم، وما علموا أن ما بأيديهم إنما هو ثمار وخراج ما فعلوه من تركة الأمة الإسلامية التي وقعت بين أيديهم يوماً ما، وأصبحت هذه الأصوات تمجد ما لدى أولئك مما يسمى بـ ( الجودة النوعية والتميز ).
وما علم أولئك أن هذا كله قد سبقهم فيه الإسلام بقرون، بل إن معيار الجودة لدى المسلمين غير معيار الجودة لدى غيرهم؛ لأن الجودة لدى أولئك منطلقها مادي صرف.. بخلاف الجودة لدى المسلمين فإن منطلقها دنيوي وأخروي لقوله -تعالى-: (... لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً... ) [الملك:2].
وفسر ذلك أهل العلم بأنه العمل الذي يكون خالصًا صوابًا؛ فالخالص أخروي، والصواب هو الإتقان.
غير أن من تبعيتنا أننا لا نعجب إلا بما عند غيرنا ولو كان أصله في ديننا؛ فيتغير البعض بمصطلح الجودة والتمييز؛ لكون الأجنبي ارتضى له هذا المسمى دون اكتراثٍ أو افتخارٍ بأن مصطلح (الإتقان) قد سبق بقرون في ديننا الحنيف..
ولو لم يأت في الإتقان والحض عليه إلا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدال على أن الله يحب إتقان العمل - لكفى به حاضًّا وحاثًّا؛ فقد روى أحد الصحابة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهد جنازةً فانتهي بالجنازة إلى القبر، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " سوِّ لحد هذا " حتى ظن الناس أنه سُنّة؛ فالتفت إليهم فقال: " أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره.. ولكن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن "، وفي لفظ: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه " رواه البيهقي.
فانظروا -يا رعاكم الله- كيف أمر بالإتقان حتى في هذا الموضع الذي لا يضر الميت فيه سقط عليه التراب أم لا؛ إذ ما ضر الشاة سلخها بعد ذبحها، ولكنه التوجيه بالإتقان وتنميته لدى الضمير المسلم الواعي؛ ليكون دافعا قويا للدعوة إلى إحسان العمل وإجادته أيا كان..
فإذا كان هذا في القبر وحال الموت ففيما هو أكبر منها أولى وأجدر..
ويؤخذ من هذا الحديث فوائد.. منها:
- أن الله يحب ( الإتقان ).
- ومنها: أن ( الإتقان ) والحث عليه ليس مقتصرًا على أمور العبادة فحسب؛ بل يمتد حتى يصل للأمور الدنيوية.
- ومنها: شعور المسلم بالإنجاز السليم، وأنه عمل ما يحبه الله، وأنه بإتقانه راضٍ عن نفسه بعدم التقصير..
ولقد أحسن من قال:
إذا عمل المرءُ المكلف مرةً | عملًا فإنّ العيبَ ألّا يحسنه |
فقدْ ذكرَ المختارُ أنّ إلهنَا | يحبُّ لعبدٍ خافَهُ أنْ يتقنَه |
ثم إن ( الإتقان ) في الشريعة الإسلامية قد جاء في نصوص كثيرةٍ من الكتاب والسنة كلها دالة على محبته والحض عليه في جوانب كثيرة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " رواه مسلم، وفي الحديث الصحيح في ذبح البهائم: " وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة "، وفي الصلاة يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، وفي قراءة القرآن الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به فهو مع السفرة الكرام البررة، وفي قصة مشروعية الأذان حينما رأى عبد الله ابن زيد الرؤيا قال له صلى الله عليه وسلم " ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً ".
وهذا اعتباراً وتقديماً للإتقان، والنصوص في هذا كثيرة، كثيرة جداً ليس هذا محل بسطها؛ إذ يكفي بالقلادة ما أحاط بالعنق؛ فهل يعي المسلمون قيمة هذا المفهوم في شريعتهم؟ وهل يسعون بعد هذا الفهم إلى تفعيله في أوساطهم وبالأخص الأوساط العلمية والتعليمية التي تنطلق منه مجالات العمل وسوقه من صناعات وإنجازات ومهارات؟ هذا هو المؤمل، ولعل القادم أفضل؛ والله الموفق، وعليه التكلان.
هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد ابن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيه بكم أيها المؤمنون فقال-جل وعلا-: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [الأحزاب:56].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: " من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ".
اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمدٍ صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهمّ عن خلفائه الأربعة -أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- وعن سائر صحابة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين واخذل الشرك والمشركين.. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئتمنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ياحي ياقيوم، اللهم أصلح له بطانته ياذا الجلال والإكرام.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين وأقضي الدين عن المدينين وأشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.