الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لو سألت مسلما ما هو أعظم كتاب في الوجود؟ لأجاب بلا تردد: كتاب الله، طيب وبعد هذا: ما هو شأنك معه؟ هل خصصت وقتا تتدبر فيه كلام ربك أم أكثر وقتك في قراءة الصحف، أو كتب الفكاهة، أو القصص، أو الشعر، أو غيرها من الكتب؟ أيليق بمن أمن بعظمة كتاب الله، ورأى أنه أعظم كتاب في الوجود ألا يعطيه من وقت القراءة أكبر نصيب؟ أيليق بمن أمن بعظمة كتاب الله أن لا يجتهد في تدبره أو على أقل حال يحاول أن يتدبره؟
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تكلمنا في الأسبوع الماضي عن أهمية تدبر القرآن، وعن حال المؤمن مع كتاب الله، إما وصلٌ أو هجرٌ.
وهجر القرآن -أيها الإخوة- له عدة صور، منها: هجر تلاوته، ومنها: هجر العمل به، ومنها كذلك وهو موضوع اليوم: هجر تدبره.
لو سألت مسلما ما هو أعظم كتاب في الوجود؟ لأجاب بلا تردد: كتاب الله، طيب وبعد هذا: ما هو شأنك معه؟ هل خصصت وقتا تتدبر فيه كلام ربك أم أكثر وقتك في قراءة الصحف، أو كتب الفكاهة، أو القصص، أو الشعر، أو غيرها من الكتب؟
أيليق بمن أمن بعظمة كتاب الله، ورأى أنه أعظم كتاب في الوجود ألا يعطيه من وقت القراءة أكبر نصيب؟
أيليق بمن أمن بعظمة كتاب الله أن لا يجتهد في تدبره أو على أقل حال يحاول أن يتدبره؟
قد يقرأ كثير من المسلمين القرآن آناء الليل وأطراف النهار، وهذا أمر طيب، إلا أنها في الغالب الأعم لا تزال إلى حد كبير قراءة من غير تدبر ولا فهم.
الأمر الذي يؤدي إلى فوات المقصد الأساس الذي أنزل القرآن لأجله ألا وهو تحريك القلب للتخلق بأخلاق القرآن، والتأدب بآدابه، والعمل بأحكامه، ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا بالتدبر؛ لأن تدبر الآيات هو الذي يقدح نور القرآن في قلب المؤمن فيضيء القلب بنور القرآن؛ كما قال سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى: 52].
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يوصي بدعاء الضيق المشهور، وفيه: "أن تجعل القرآن نور صدري، وربيع قلبي".
فالتدبر هو الذي يقدح نور القرآن في القلب، ولهذا يقول ابن جرير الطبري -رحمه الله- كبير المفسرين: " عجبت لمن يقرأ وهو لا يعرف معانيه -أي لا يتدبره كيف يلتذ بقراءته".
أيها الإخوة: هناك وسائل معروفة تعين على التدبر، وآليات تفتح المجال للتفكر بعضها صعبة للمتخصصين، وبعضها يسيرة في مقدور الجميع القيام بها، وسوف نركز -إن شاء الله- على اليسيرة منها.
إن من الوسائل المهمة والمساعدة على تدبر القرآن: التأمل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، المعروف أنه صلى الله عليه وسلم كان مثالَ الشخصية القرآنية الكاملة، كان خلقه القرآن، بل كان قرآنا يمشي على الأرض كما وصفته أم المؤمنين.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن تدبر القرآن وفهمه إنما يكتمل بالرجوع إلى ما ثبت من سيرته صلى الله عليه وسلم، وما صح من سنته وهديه، وأخلاقه وورعه، وتقواه وعلاقته بربه، وزوجاته، وبالناس حوله.
فإذا وصفه القرآن بقول: (حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
تذكرت مواقف من سيرته صلى الله عليه وسلم تجسد هذه الأوصاف التي جاءت في القرآن عندما كان يحزن أشد الحزن على إعراض قومه، وإصرارهم على الضلال والكفر، يحزن عليهم بالرغم من آذيتهم له.
أو شفقته حينما يقول: "إنني لأقوم إلى الصلاة، وأن أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي، -أي أخففها- مما أعلم من شدة وجد أمه من بكاءه".
نتذكر هذه المواقف النبوية وأمثالها، فنعيش مع الآيات بقلوبنا، وإذا قرأنا: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63].
تبدى أمامك تواضعه في مشيته وسلوكه العام صلى الله عليه وسلم، ومواقفه مع هذا النوع من الناس من الأعراب، وغيرهم، وهكذا معرفة سيرته صلى الله عليه وسلم.
ومن الوسائل المهمة: معرفة أسباب النزول بقراءة الكتب المحققة الصحيحة في ذلك، فمن خلال هذه المعرفة يتصور القارئ أجواء الآيات التي نزلت، وهذا بلا شك يعينه على تدبرها؛ لأن كثيرا من الآيات ارتبط نزولها بمناسبات، ووقائع معينة، ولا يمكن أن تفهم إلا بمعرفة تلك المناسبات والوقائع؛ لأنها نزلت لمعالجتها ولوعظ الناس بعدها، فالقارئ لكتاب الله مثلا إذا قرأ قوله تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ) [آل عمران: 140].
قد لا يدرك المقصود من الآية، أو لا يستشعر معانيها إلا بمعرفة أسباب نزولها، وهي أحداث معركة أحد، فله أن يتعرف على تلك الأجواء، وعلى تلك الأحداث التي حصلت في أحد، ثم يقرأ القرآن فسيرى بعد ذلك أمراً مختلفا، أو الآيات التي نزلت في أجواء غزوة تبوك، وهكذا.
معاشر الإخوة: إن الرجوع إلى كتب التفاسير المعتمدة، والنظر في أقوال أهل العلم فيها، هي من الأمور المساعدة على تدبر كتاب الله، حوت تلك الكتب كثيرا من تفاسير الصحابة، والتابعين وتابعيهم؛ كتفسير الطبري والقرطبي، وابن كثير، وغيرها.
فالرجوع إلى هذه التفاسير وأمثالها، حتى البسيط الميسر منها عون لقارئ كتاب الله، على تدبر آياته، وفهمها الفهم السليم.
من الوسائل: تحديد وقت لقراءة خاصة تحقق هذه الغاية، تحقق التدبر، قراءة متأنية مع التأمل والنظر والوقوف على الآيات، والتفكر فيها، أو تخصيص استماع خاص لتلاوة خاشعة من قارئ ندي الصوت، حسن التلاوة من أجل التدبر، استماع يفرغ فيه المؤمن ذهنه وقلبه للإنصات بخشوع، وما إلى ذلك، فقد يفتح الله بهذا الاستماع من التدبر ما لا تفتحه القراءة؛ حتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذاته الشريفة استمع لعدد من الصحابة استمع لأبي موسى وسالم مولى أبي حذيفة، بل جعل للإنصات والاستماع نصيب، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ علي، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) [النساء: 41] قال -أي النبي صلى الله عليه وسلم-: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
هذا مثال على التدبر من خلال الاستماع، ولو أفرغ العبد قلبه من هموم الدنيا أثناء الاستماع، أو التلاوة لانكشف له من المعاني ما لم يكن في حسبانه، ولرأى في الآيات من العجائب ما لم يره من قبل، فقد يقرأ قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ)[الحديد: 21].
وقوله: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) [آل عمران: 133].
أو يقرأ قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ)[الملك: 15].
فيقول: سبحان الله لما ذكر الله الآخرة حث على الاسراع والسباق والمنافسة، ولما ذكر الدنيا وجه إلى المشي: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا).
فكيف انعكس الأمر في عالم المؤمن اليوم، فأصبح السباق، والتنافس على الدنيا، وأبطأ المشي وأثقله من نصيب الآخرة.
أيها الإخوة: إن الرحمة لتنزل على من كان قلبه حاضرا، وهو يستمع آيات الله تتلى عليه، ألا ترون الله -تعالى- يقول ذلك: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف : 204].
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقف عند الآيات ويتأمل ويتفكر، قيل لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فبكت، وقالت: "قام ليلة من الليالي، فقال يا عائشة: ذريني أتعبد الليلة لربي، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت على الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )[آل عمران: 190-191]".
إن تدبر القرآن يحيي عبادة الخوف في القلب والخوف يمنع العبد من المعصية ويقيه من التراخي في العبادة.
في سنن الترمذي قال أبوبكر -رضي الله عنه-: يا رسول الله لقد شبت، قال صلى الله عليه وسلم: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت".
لماذا شيبته صلى الله عليه وسلم؟
لأنه كلما قرأها وتدبر ما تتضمنه من وقائع في اليوم الآخر، وأهوال يوم القيامة ارتجف قلبه صلى الله عليه وسلم، واهتز كيانه، وأسرع به الشيب.
من وسائل تدبر القرآن الكريم: إنزال القرآن على الواقع، استشعار الآيات المناسبة للأحداث اليومية بمختلف أنواعها في العقائد، أو الأخلاق، أو السياسة، أو الاقتصاد، بل حتى في خوارج النفس وأسرارها.
إننا نوقن أن القرآن الكريم لم ينزل لزمان معين، ولا لمكان معين، وإنما نزل صالحا للعمل وللتطبيق في كل زمان وكل مكان، فلماذا لا يكون لهذا اليقين أثر حقيقي محسوس في حياتنا؟
إنه لن يفهم القرآن حيًا غضًا طريًا، إلا بإنزاله على واقع الإنسان ذاته، في أخطائه ونواقصه، وهمومه وطموحاته، ونجاحاته وقضاياها.
وإنزاله كذلك على واقع الأمة وقضاياها، فلكل زمان كُفَّاره ومنافقوه، ولكل مكان فراعنته وظالموه، فالقرآن ليس كتاب الماضي، بل كتاب الماضي والحاضر والمستقبل أيضا.
ولذلك فإن من آليات التدبر: الشعور بأن الآيات تخاطبك أنت لا غيرك، تدعوك أنت وتحذرك أنت، الذي تمسك بالمصحف، وتبشرك أنت، فالتفات القلب يمينا وشمالا أثناء التلاوة، كأن الآيات لا تخاطبك يحجب التدبر، لذا ينبغي أن تتأمل في قلبك وأخلاقك وسلوكك، وتعرضهم على القرآن أثناء تلاوتك، وأن تنزل كلام الله -تعالى- على ذاتك أنت.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في حال الجالس مع القرآن بجسده وروحه: "إذا أردت أن تزيد إيمانك فملاك ذلك أمران: أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها، وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك من كل آية من آياته وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلت هذه الآية العلاج على داء القلب بريء القلب بإذن الله".
أسأل الله -تعالى- أن يحيي قلوبنا بذكره، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فمن وسائل التدبر: تحري أوقات رقة القلب، في الحج، في رمضان، في أوقات السحر، حتى أثناء المرض، أو عند وفاة قريب، أو عزيز.
كلما وجدت في قلبك رقةً وانكسارا وسكينة، فافزع إلى كتاب الله، وكحل عينيك بالتأمل في آياته، ودع قلبك يسرح في المعاني وقف عند صفات الإله العظيم، قف عندها وكبر وسبح وهلل، لا تتجاوزها، هكذا..
قف عند الآية وكبر وهلل وسبح، وقف عند آيات العذاب لا تجاوزها بلا خطاب خفي، قف عندها واستعذ بالله، واسأل الله العافية والسلامة، وقف عند آيات الرحمة والرجاء واسأل الله من فضله، بهذا يحصل التدبر.
وهو هديه صلى الله عليه وسلم كما في حديث حذيفة: "إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ... " وهكذا..
أيها الإخوة: إن طهارة القلب شرط من شروط التدبر، طهارته من المعصية بجميع أصنافها، فالحقود لا يستطيع أن يتدبر، والحسود لا يتدبر، والمتكبر المختال لا يتدبر، والظالم لا يتدبر، والمدمن على المعاصي لا يمكن أن يتدبر.
لأن هذه الآفات كالأقفال على القلب تمنعه من التدبر، واقرؤوا قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
فالقلوب أقفال، ولذلك اعتنى السلف بإصلاح قلوبهم باستمرار، وكسر أقفال المعصية، والآفات القلبية التي تقسي القلب، حتى تلين قلوبهم، وتنفتح للتدبر.
وعلى كل واحد منا أن يهتم بهذا الأمر، وأن يتهم نفسه، هذا عثمان بن عفان على جلالة قدره -رضي الله عنه- يتواضع أمام هذه الحقيقة، فيقول: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله".
يقول ابن قدامة -رحمه الله-: "من موانع فهم القرآن والتلذذ به أن يكون التالي مصراً، أي التالي الذي يتلو مُصراً على ذنب، أو متصفا بكبر، أو مبتلى بهوى مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه، فالقلب مثل المرآة والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل السور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات، مثل الجلاء للمرآة".
يا أخوة: حرام أن ينقضي عمر أحدنا وهو محروم من تدبر كتاب الله، والله خسارة، لقد قام صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة بآية واحدة يرددها حتى أصبح: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118] ليلة كاملة يرددها.
ولذا قال ابن القيم: "إذا مر -أي العبد- بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها، ولو مئة مرة، ولو ليلة كاملة".
كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "ركعتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب".
ويقول عروة بن الزبير: "كنت إذا غزوت أبدأ ببيت خالتي عائشة -رضي الله عنها- أسلم عليها أم المؤمنين، فغزوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ تصلي: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [الطور: 27] وتدعو، تسأل الله من فضله: "اللهم مُن علي" وتبكي وترددها، فكنت انتظر حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)".
وقام سعيد بن جبير ليلة كاملة بقوله تعالى: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
إن قراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة كاملة بغير تدبر ولا تفهم، آية واحدة تتفكر فيها خير من ختمة كاملة لا تتفكر فيها؛ لأن التفكر في تلك الآيات أنفع للقلب، وأدعى إلى زيادة الإيمان، وذوق حلاوة القرآن، والله المستعان.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا..