السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | منديل بن محمد آل قناعي الفقيه |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
كيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من كرمه ورحمته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وملك كبير، ومقام في أبد، في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، ومحلة عالية بهية، لو لم يكن من شرفها إلَّا ....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس للمؤمنين نزلاً، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه -صلى الله عليه وسلم -.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
واعلموا أنَّ الدنيا ليست إلَّا معبراً للآخرة، وإن هي إلا طريق موصل إليها: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)[غافر: 39-40].
وقد جعل الله للآخرة ميعاداً لا يعلمه إلَّا هو -سبحانه-، والآخرة في الحقيقة داران لا ثالث لهما: دار عذاب وسعير، ودار نعيم مستمر.
أيها المسلمون: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: "إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ"[أحمد وابن ماجه].
فإلى الجنة التي قد فتحت أبوابها في هذا الشهر الكريم نستوضح شيئاً من خيرها، ونسمع طرفاً من نعيمها، لعل القلوب القاسية تلين، ولعل المبتعدين عنها بأعمالهم يقتربون منها، وبالأسباب الموصلة إليها يعملون.
أيها المسلمون: إن سألتم عن أبواب الجنة؛ فأبوابها ثمانية، في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".
وفيهما عن عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: "فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ".
وإن سألتم عن صفة من يدخلها؛ ففي البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ -شَكَّ فِي أَحَدِهِمَا- مُتَمَاسِكِينَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ الْجَنَّةَ، وَوُجُوهُهُمْ عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثم َالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ أَمْشَاطُهُمْ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمْ الْأَلُوَّةُ، وَأَزْوَاجُهُمْ الْحُورُ الْعِينُ، أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ".
وفيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمْ الْأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنْ الْحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".
وإن سألتم عن أقل أهلها منزلة؛ فعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلْ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فقال موسى: فما أعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"[مسلم].
وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه – قَالَ: قال صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ: رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ -تبارك وتعالى- لَهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، أَوْ إِنَّ لَكَ عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا، قَالَ فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ قَالَ: فلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: فَكَانَ يُقَالُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً".
وإن سألتم عن درجاتها، فقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال: 2-4].
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنْ الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ، أَوْ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: "بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" [مسلم].
وإن سألتم عن عددها، فقد قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن: 46].
وفي الصحيحين عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ".
وفي البخاري: أن أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ - رضي الله عنها - أَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ، قَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى".
وإن سألتم عن بناءها، فبناءها لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، فيها غرف يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، للمؤمن فيها خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا.
في المسند بسند حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلنا يا رسول الله حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ:" لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ".
وإن سألتم عن أنهارها، فخمسة: نهر الكوثر، ونهر العسل، ونهر اللبن، ونهر الماء، ونهر الخمر: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى)[محمد: 15].
وفي البخاري عن أنس -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، قال: فضرب الملك، فَإِذَا طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ".
وإن سألتم عن أشجارها وظلها، فقد قال تعالى: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)[الرحمن: 48].
وقال: (وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ)[الواقعة: 30].
في المسند بسند صحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لِمَنْ رَآكَ وَآمَنَ بِكَ، قَالَ: "طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَمَا طُوبَى؟ قَالَ: شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا".
وإن سألتم عن طعام أهلها، فقد قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المرسلات: 41-43].
عن جابر - رضي الله عنه - أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- قال: "يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ، كَرَيحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتكبير كَمَا يلهَمُونَ النَّفَسَ"[مسلم].
وإن سألتم عن أوانيها، فقد قال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الزخرف: 71].
(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ)[الواقعة: 17-18].
(وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا)[الإنسان: 15].
وإن سألتم عن لباس أهلها، فقد قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ)[الدخان: 51-53].
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف: 30-31].
(عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)[الإنسان: 21].
وإن سألتم عن السرر التي عليها يتكئون، فقد قال تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ)[الطور: 20].
(مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ)[الإنسان: 13].
وإن سألتم عن خدمهم، فقد قال تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ)[الطور: 24].
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا)[الإنسان: 19].
يا مسلمون إذا كان هذا هو حال الخدم في الحسن والجمال، فما بالكم بحال أسياد الخدم.
وإن سألتم عن أزواجهم، فأزواجهم الحور العين: (كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ)[الدخان: 54].
(حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)[الرحمن: 72].
(فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)[الرحمن: 56].
وفي الصحيح: "وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، مِنْ الْحُسْنِ".
(إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا)[الواقعة: 35-37].
في البخاري عن أنس -رضي الله عنه-: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ َلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، ولَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
قال عطاء السلمي لمالك بن دينار: يا أبا يحيى شوقنا؟ قال: "يا عطاء إن في الجنة حوراء يتباهى أهل الجنة بحسنها، لولا أن الله كتب على أهل الجنة ألا يموتوا لماتوا من حسنها".
وقال يزيد الرقاشي: "بلغني أنَّ نوراً سطع في الجنة لم يبق موضع من الجنة إلَّا دخل فيه من ذلك النور، فقيل: ما هذا؟ قيل: حورية ابتسمت في وجه زوجها".
وفي المسند بسند حسن عن أبي سعيد -رضي الله عنه- أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ، ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَتُهُ من الحور العين، فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنْ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَيَرُدُّ السَّلَامَ، وَيَسْأَلُهَا: مَنْ أَنْتِ؟ وَتَقُولُ: أَنَا مِنْ الْمَزِيدِ وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا، أَدْنَاهَا مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبَى، فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنْ التِّيجَانِ، إِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
وإن سألتم عن سماع أهلها؛ ففي الترمذي عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمُجْتَمَعًا لِلْحُورِ الْعِينِ يُرَفِّعْنَ بِأَصْوَاتٍ لَمْ يَسْمَعْ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، قَالَ: يَقُلْنَ نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْؤُسُ، وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ، طُوبَى لِمَنْ كَانَ لَنَا وَكُنَّا لَهُ".
ولهم سماع أعلى من هذا يضمحل دونه كل سماع، وذلك حين يسمعون كلام الرب ومحاضرته، وسلامه عليهم، ولهم سوق يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم فيقول أهلوهم: لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون: وأنتم لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، نسأل الله العظيم فضله العظيم.
الخطبة الثانية
عباد الله: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ جيء بالموت على هيئة كبش أملح بين الجنة والنار، فينادى: يا أهل الجنة أتعرفون هذا؟ فيشرئبون، فيقولون: الموت، ثم ينادى: يا أهل النار أتعرفون هذا؟ فيفرحون، ثم يذبح فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً على حزنهم، وينادي مناد: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت".
في الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[مريم: 39]. وينادي مناد: يا أهل الجنة إنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإنَّ لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإنَّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً".
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: "يُنَادِي مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 43] [مسلم].
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ -تبارك وتعالى- يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".
أيها المسلمون: كلُّ هذا النعيم وكلُّ هذا الفضل، وكلُّ ما هم فيه، ولم يأت النعيم الحق لا يعدله نعيم أبداً، ألا وهو رؤية الرب -تبارك وتعالى-؛ لأنّ أهل الجنّة لهم ميعاد مع الرب الرحيم: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[يونس: 26].
(لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[ق: 35].
إنّه لقاؤهم بالحميد المجيد الذي هداهم إلى عبادته وتوحيده، فنالوا ما نالوا من خير برحمته وفضله وكرمه، والمحروم والله من حرم رؤية الله: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ)[المطففين: 15].
عَنْ صُهَيْبٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ -تبارك وتعالى- تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عز وجل-، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس: 26][مسلم].
أيها الأخوة: ليس هذا فحسب، بل إنّهم سيرون ربهم عيانا بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته، فإذا دخلوا الجنة نادى المنادي: يا أهل الجنة إنّ ربكم -تعالى- يستزيركم فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا النجائب قد أعدت لهم، فيستون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً، وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحداً أمر الرب -تبارك وتعالى- بكرسيه، فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ثم جلس أدناهم وليس فيهم دنيء، على كثبان المسك ما يرون أصحاب الكراسي مثلهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار، فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت لهم الجنة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار -جل جلاله وتقدست أسماؤه- قد أشرق عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، فلا ترد التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب ويضحك إليهم، ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه تعالى أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك؟ فيكشف لهم الرب -جل جلاله- الحجب ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أنّ الله -تعالى- قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلَّا حاضره ربه -تعالى- محاضرة، حتى إنّه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
أيها المسلمون: إنّ الجنة فوق الوصف، في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " قَالَ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)[السجدة: 17].
وفي المسند وسنن الترمذي بسند صحيح عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: "لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ بَدَا لَتَزَخْرَفَتْ لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَ فَبَدَا أَسَاوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ".
وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من كرمه ورحمته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وملك كبير، ومقام في أبد، في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، ومحلة عالية بهية، لو لم يكن من شرفها إلَّا أنَّه لا يسأل بوجه الله غيرها لكفاها عزاً وشرفاً.
تلكم -يا عباد الله- جنة المأوى حفها الله بالمكاره، لما فيها لما فيها من نعيم.
وهل يتعب تاعب من بذل جهد جزاؤه رؤية الرحمن؟ أين المتكاسلون عن الصلاة؟ ألا يتعب الواحد منهم نفسه دقائق معدودة ليفوز بعدها بنعيم مقيم؟ وأين المانعون للزكاة ألا يدفعون القليل ليفوزوا بالربح الكثير؟ وأين المفطرون في رمضان ألا يصبرون ساعات قليلة ليمتعوا أنفسهم بلذيذ الأكل والشراب بعد طول قيام في يوم الحر والزحام؟
أيها المسلمون: الجنة أعدت للمتقين الخاشعين، ولمن وصل رحمه وبر والديه، وأحسن خلقه، وأحسن إلى جاره، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام، وتقرب إلى الله بالنوافل، وسائر أنواع الطاعات؛ لما حضرت أبا هريرة - رضي الله عنه - الوفاة بكى، فقيل: "ما يبكيك؟ قال: قلة الزاد، وعقبة كؤود، المهبط منها إمَّا إلى الجنة وإماَّ إلى النار".
فإذا كان هذا حال صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف بحالنا؟
فيجب علينا أن نجد ونجتهد ونثابر، والله لو لم يكن في الجنة نعيم سوى لذة النظر إلى وجه الرحمن الرحيم لكفى بذلك حافزاً ودافعاً لنا نحو العمل بجد واجتهاد، ولكفى برؤية الرحمن الرحيم مانعاً الناس من الملهيات والمحرمات، واتباع الشهوات.
يا سلعة الرحمن لست رخيصة | بل أنت غالية على الكسلان |
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد | بين الأراذل سـفلة الحيوان |
يا سلعة الرحمن أين المشـتري | فلقد عرضت بأيسـر الأثمان |
يا سلعة الرحمن هل من خاطب | فالمهر قبل المـوت ذو إمكان |
يا سلعة الرحمن كيف تصـبر | الخطاب عنك وهم ذوو إيمان |
يا سلعة الرحمن ماذا كفـؤها | إلَّا أولو التقوى مـع الإيمان |
يا سلعة الرحمن ليس ينالهـا | في الألف إلا واحـد لا اثنان |
يا سلعة الرحـمن لولا أنَّها | حجبت بكـل مكاره الإنسان |
ما كان عنها قط من متخلف | وتعطلت دار الجـزاء الثـاني |
لكنها حجبت بكـل كريهة | ليصد عنها المبطـل المتـواني |
وتنالها الهمم التي تسموا إلى | رب العلى بمشـيئة الرحـمن |
صلوا وسلموا على رسول الله، فبذلك أمركم اللهُ...