البحث

عبارات مقترحة:

المقدم

كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...

الشاكر

كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

الرحيم

كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...

عبادة الأخفياء

العربية

المؤلف إبراهيم بن سلطان العريفان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. قصة فتاة ماتت وهي ساجدة .
  2. فضل إخفاء الأعمال الصالحة .
  3. من هم العباد الأخفياء؟! .
  4. نماذج رائعة في إخفاء الأعمال الصالحة .
  5. ذنوب الخلوات أصل الانتكاسات .

اقتباس

إخوة الإيمان والعقيدة: فتاة تعيش مع عائلتها جنوب منطقة حائل، وتبلغ من العمر 22 عام في زهرة شبابها، ففي الساعة الثالثة صباحاً سمع الأب صوتاً فخرج يتفقد المنزل، وبحث في فناء وفي غرف المنزل، فلم يجد مصدر الصوت، فتوجه إلى غرف أبنائه فوجدهم نائمين، وتوجه لغرفة البنات فوجدهن نائمات، إلا تلك الفتاة ليست في فراشها؛ فلم ....

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإيمان والعقيدة: فتاة تعيش مع عائلتها جنوب منطقة حائل، وتبلغ من العمر 22 عام في زهرة شبابها، ففي الساعة الثالثة صباحاً سمع الأب صوتاً فخرج يتفقد المنزل، وبحث في فناء وفي غرف المنزل، فلم يجد مصدر الصوت، فتوجه إلى غرف أبنائه فوجدهم نائمين، وتوجه لغرفة البنات فوجدهن نائمات، إلا تلك الفتاة ليست في فراشها؛ فلم يصدق، فأيقظ بناته، وسألهن أين أختكن؟! وهو كالمجنون، فرددن: لا نعلم يا أبي، وقامت قائمة المنزل، فالكل يبحث عنها في كل اتجاه داخل وخارج المنزل، وأثناء البحث عنها إذا بصياح الأم يعلو من سطح المنزل، فتوجه الجميع فإذا بالأم غارقة في دموعها وبجانبها الفتاة ميتة على سجادتها، والمصحف في يديها، وعندما شاهد الأب هذا الموقف دمعت عيناه، وسجد شكرا لله على هذه الخاتمة الحسنة لابنته.

فتبين أن الفتاة في كل ليلة تتجه إلى سطح المنزل، وتؤدي الصلاة "قيام الليل" حتى أذان الفجر ومعها المصحف الشريف تتلوا منه ما تيسر، ولم يعلم عنها أهلها، لقد اشتاقت إلى الجنة حين سمعت أو قرأت قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا" فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِمَنْ أَطَابَ الْكَلامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ".

لقد كانت تجتهد في الدّعاء وما يسمع لها صوت إلّا همسا بينها وبين ربّها؛ لأن الله قال: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الأعراف: 55] تريد أن تكون من السبعة الذين يستظلون يوم القيامة تحت العرش مصداق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وذكر: "ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه".

ماتت الفتاة وهي ساجدة، ماتت وهي تقرأ القرآن الكريم، ماتت وهي تناجي ربها، ماتت تطلب ربها المغفرة، ماتت في ظلمة الليل ووجهها يشع بالنور والابتسامة، ماتت في خير خاتمة يتمناها الكثير، ماتت وهي تحفظ عشرين جزءً من القرآن، كانت تنتظر رمضان لتكمل حفظ القران، ماتت قبل حلول شهر الرحمة.

هكذا -يا عباد الله- كان العباد الصالحون يعبدون الله في الخفاء والسر، لا يعلم عنهم أحد إلا الواحد الأحد -سبحانه-، يتقربون إلى الله بفعل الطاعات والمناجاة، تحقيقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من استطاع منكم أن يكون له خبء مِن عَمَل صالح، فليفعل".

الخبيئة من العمل الصّالح هو العمل الصّالح المُخْتَبِئ، يعني المختفي.

قال الزبير بن العوام -رضي الله عنه-: "اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصّالح كما أنّ لكم خبيئة من العمل السَّيِّء".

فأعمال السِّرّ لا يثبت عليها إلاّ الصّادقون العارفون بالله -تعالى-، فهي زينة الخَلَوَات بين العبد وبين ربِّه.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" من هو العبد الخفي؟! من هم العباد الأخفياء؟!

هم الذين عرفوا ربهم، فعرفهم الله -سبحانه وتعالى-، فأحبوه وأحبهم، وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار.

إنهم الأنقياء الأتقياء، اجتهدوا في إخفاء أعمالهم؛ لخوفهم من ربهم هم جنود مجهولون، ناصحون عاملون.

فلنحرص -عباد الله- على عبادة السر والخفاء في الصيام والقيام والصدقة وقضاء حوائج الناس، كان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء، فاحتبس فيها شيئًا يسيرًا، ثم عاد إلى المدينة، فعجب عمر -رضي الله عنه- من خروجه، فتبعه يومًا خفيةً بعد ما صلى الفجر، فإذا أبو بكر يخرج من المدينة ويأتي خيمة قديمة في الصحراء، فاختبأ له عمر خلف صخرة، فلبث أبو بكر في الخيمة شيئًا يسيرا ثم خرج، فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة، فإذا فيها امرأة ضعيفة عميــاء وعندها صبية صغار، فسألها عمر: من هذا الذي يأتيكم؟ فقالت: لا أعرفه، هذا رجل من المسلمين، يأتينا كل صباح منذ كذا وكذا، فقال عمر: فماذا يفعل؟ قالت المرأة: يكنس بيتنا، ويعجن عجيننا، ويحلب شاتنا، ثم يخرج، فخرج عمر وهو يقول: "لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر" لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر.

وكان علي بن الحسين -رضي الله عنهما- يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق بها، ويقول: "إن صدقة السر تطفئ غضب الرب" فلما مات وجدوا في ظهره آثار سواد، فقالوا: هذا ظهر حمّال، وما علمناه اشتغل حمالاً، فانقطع الطعام عن مائة بيت في المدينة من بيوت الأرامل والأيتام، كان يأتيهم طعامهم بالليل، لا يدرون من يحضره إليهم، فعلموا أنه هو الذي كان يحمل الطعام إلى بيوتهم بالليل، وينفق عليهم.

الله أكبر، "صدق السر تطفئ غضب الرب"، والله يقول: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[البقرة: 271].

صام أحد السلف عشرين سنة - يصوم يومًا ويفطر يومًا - وأهله لا يدرون عنه، كان له دكان يخرج إليه إذا طلعت الشمس ويأخذ معه فطوره وغداءه، فإذا كان يوم صومه تصدق بالطعام، وإذا كان يوم فطره أكله.

عباد الله: فهيّا إلى بذل الوسع في عبادة الخفاء والسر، فإنها أقوات الروح، وليكن لأحدنا حظ من عبادة لا يعلم بها أحد إلا البَرُّ الرحيم فعبادات الخفاء من أعظم أسباب الثبات التي تحول بين المرء وحالات الضعف والانتكاس، فالحذر الحذر من أن نتغافل عنها، فإن ثمارها عظيمة، والصوارف عنها كثيرة، وعلينا من الله عين ناظرة، والشاهد هو الحاكم، والموفَّق من هداه الله -تعالى- وأعانه.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "أجمع العارفون أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن طاعة السر هي أصل الثبات".

اللهم ارزقنا خشيتك ومحبتك والقرب منك، والبصيرة في دينك، والمداومة على طاعتك، وعافِ نفوسنا بمنّتك، وأصلح حال أمتنا، وارزقها الرّفعة والتمكين على أيدينا، إنك على كل شيء قدير.

أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

معاشر المؤمنين: هناك قوم شقوا بالخلوات، فكانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، مغترين بستر الله وحلمه، حدّث عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عز وجل- هَبَاءً مَنْثُورًا" قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا" نسأل الله العفو والعافية.

احذروا -يا عباد الله- واعلموا أن ذنوب الخلوات المستمَرُّ عليها سبب الانتكاس وسوء الختام، يقول رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ".

إنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ، ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سُوءَ الخاتمة عند الموت.

وفي هذا العصر الذي سهلت فيه الخلوة بالمعصية وكثرت عبر أجهزة تقنية لا تتعدى حجم الكف تصنع وتنقل شراً مستطيراً لا عاصم منه إلا الله.

وإذا خلوت بريبة في ظلمة

والنفس داعية إلى الطغيــان

فاستحي من نظر الإله وقل لها

إن الذي خلق الظلام يراني

فلنخش الله -تعالى- في السر والعلن، ولا نجعل الله -تعالى- أهون الناظرين إلينا، ولنكثر من الطاعات والعبادات في السر والخفاء، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12].

وقد وعد الله عباده الأخفياء بالجنة: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيب)[ق: 31-33].

واعلموا أن الله -تعالى- يبتلي عبده فتَدْنُوا مِنه المعصية، ويَسْهُلُ عليه اقترافها حال بُعْدِ أنظار الناس عنه؛ ابتلاءً له من الله تعالى؛ هل عبدُه يَخْشَى اللهَ -تعالى- بالغيب أو لا يخشاه إلا بحضور الناس فقط؛ فانتبه لذلك دائماً حينما تكون خالياً: (لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[المائدة: 94].

إذا ما خلوْتَ الدّهرَ يوْماً

فلا تَقُلْ خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ

ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ ساعة

وَلا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيب