البحث

عبارات مقترحة:

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع منهجه

العربية

المؤلف هشام عبد القادر آل عقدة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. محبة النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الإيمان .
  2. المحبة تقتضي الميل العاطفي واتباعه في أمره ونهيه .
  3. نماذج من محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم .
  4. محبة النبي منشؤها كونه مرسلاً من عند الله .
  5. فرق بين محبة النبي صلى الله عليه وسلم والغلو فيه .
  6. تعلم السيرة والهدي النبويين وتعليمهما للأبناء .
  7. معرفة فضله وبذله في سبيل تبليغ دعوته .
  8. معرفة منهجه في الدعوة إلى الله تعالى والتأسي به .

اقتباس

فهكذا ينبغي أن يكون قدر محبته -صلى الله عليه وسلم- في قلوبنا، فالمؤمن الذي يحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحزنه أن يذهب الناس بالأموال والمساكن والتجارة ويذهب هو بحب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا يفرح المؤمن بشيء في هذه الدنيا فرحه بأنه من أتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: حديثنا اليوم عن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ذلك الأمر الذي لا يتحقق الإيمان إلا به، ومحبته -صلى الله عليه وسلم- من محبة الله الذي أرسله وارتضاه أمينًا على تبليغ هذا الدين، ومحبة الله من توحيد العبادة، وتكميلها من تكميل التوحيد، والإخلال بها من الإخلال بالتوحيد كما قال الله -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165]. فعُلِم من ذلك أن إيمان المرء وتحقق توحيده لا يكون إلا بمحبة الله -عز وجل- ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الحب الكامل الذي يقدمه على كل شيء.

وفي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".

وفي الصحيحين أيضًا عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".

وقال عمر للرسول -صلى الله عليه وسلم-: لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال: "لا يا عمر حتى من نفسك". فقال عمر: لأنت أحب إليّ من كل شيء حتى من نفسي. فقال: "الآن يا عمر".

وقال عكرمة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ) [الممتحنة: 10]: قال: يقال لها: ما جاء بك إلا حب الله ورسوله؟!

وقال ابن عباس: كان -أي الرسول صلى الله عليه وسلم- يمتحنهن: بالله ما خرجتِ من بغض زوج؟! وبالله ما خرجتِ رغبةً عن أرض إلى أرض؟! وبالله ما خرجتِ التماسَ دنيا؟! وبالله ما خرجتِ إلا حبًّا لله ولرسوله؟!

ومحبته -صلى الله عليه وسلم- تقتضي أن يشعر كل منا نحوه بعاطفة قلبية أقوى من العاطفة التي يشعر بها نحو أمه وأبيه، أو زوجه وولده، أو أخيه وصديقه، بل يحبه -صلى الله عليه وسلم- ويشفق عليه أكثر من حبه لنفسه وشفقته عليها، وإذا كنا نقول: إن محبته -صلى الله عليه وسلم- تقتضي تعظيم أمره ونهيه واتباعه في ذلك دون سواه، فإننا لا نقصد أن تكون المحبة في صورة الاتباع في الظاهر فحسب، بل أصل المحبة ميل في القلب إلى المحبوب -صلى الله عليه وسلم- وعاطفة تفوق أي عاطفة نحو أهل أو مال أو وطن، كما قال الله -عز وجل- في كتابه العزيز: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].

فهكذا ينبغي أن يكون قدر محبته -صلى الله عليه وسلم- في قلوبنا، فالمؤمن الذي يحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحزنه أن يذهب الناس بالأموال والمساكن والتجارة ويذهب هو بحب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا يفرح المؤمن بشيء في هذه الدنيا فرحه بأنه من أتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].

روى أبو سعيد الخدري أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما وزَّع الغنائم يوم حنين على أناس من قريش ومن قبائل العرب ولم يعط الأنصار منها، حزن رجال من الأنصار ووجدوا في أنفسهم من ذلك، أي حزنوا وغضبوا، فجمعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "يا معشر الأنصار: فما قالة بلغتني عنكم؟! وجدةٌ وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟!"، قالوا: بلى، لله ورسوله المن والفضل. ثم قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟!"، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟! لله ورسوله المن والفضل. قال -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله لو شئتم لقلتم فلَصَدَقْتُم ولَصَدَّقْتُكم، أتيتنا مكذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم -يا معشر الأنصار- في أنفسكم في لَعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليُسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون -يا معشر الأنصار- أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا، وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار". فبكى القوم حتى بللوا لحاهم بالدموع وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا.

فخافوا الله -أيها المسلمون-، فما أكرمنا الله بشيء كما أكرمنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أنعم علينا بنعمة ولا منة أفضل منه -صلى الله عليه وسلم- (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران:164].

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128]. ولقد كان حب الصحابة لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- شديدًا، وما أحب قوم أحدًا كما أحب أصحاب محمد محمدًا -صلى الله عليه وسلم-.

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إنك أحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعتَ مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيتُ أن لا أراك.

وفي رواية أن الرجل كان من الأنصار، وقد جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو محزون، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا فلان: ما لي أراك محزونًا؟!"، فقال: يا نبي الله: شيء فكرت فيه. فقال: "ما هو؟!"، قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدًا تُرفع مع النبيين، فلا نصل إليك. فلم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا حتى أتاه جبريل بقوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69].

ولما وقع في يد المشركين زيد بن الدثنة -رضي الله عنه- وقدموه ليقتلوه، قال له أبو سفيان: أنشدك الله -يا زيد- أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك، نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟! قال: لا والله، ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي.

ولما أحاط المشركون بأبي بكر وقد كادوا يقتلونه لأنه فك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أيديهم، كان أول ما قال بعد أن تخلص منهم وقد بلغ به الأذى مبلغًا كبيرًا: ماذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!

وكانت المرأة يُقتل ابنها وزوجها وغيرهما من أقربائها في الغزوة فتعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ، فيذهب عنها حزنها وتقول: كل مصيبة بعدك جلل، أي: صغيرة.

وفي غزوة أحد حينما كان سعد بن الربيع -رضي الله عنه- جريحًا في القتلى لكن ما يزال به بريق من الحياة، جاءه رجل من الأنصار فقال له: إن رسول الله قد أمرني أن أنظر: أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟! قال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام، وقل له: إن سعيد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، فأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله أن خُلِف إلى نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف. ثم لم يبرح حتى مات.

وقد استبسل الصحابة في التضحية بحياتهم حفاظًا عليه -صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين-. فالمؤمن المحب لنبيه لا يرغب بنفسه عن مواساته -صلى الله عليه وسلم- فيما يصيبه من مشقة وأذى، ولا يرضى بنفسه عن موطن شدة قد تحمل مثله ووجد فيه نبيه -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله -عز وجل-: (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة:120].

أيها المسلمون: إن امتلاء القلب بمحبته -صلى الله عليه وسلم- وميله إليه -صلى الله عليه وسلم- بالعاطفة القوية، فالميل والعاطفة ليس منشؤهما مجرد الاستئناس وهوى في النفس، وإنما هما ميل وعاطفة نظرًا لتقديره -صلى الله عليه وسلم- من حيث إنه رسول، والاعتراف بما جعله الله له من المكانة والفضل، وما بذله وجرى على يديه من خير وهداية جعله الله سببًا فيها، فهو ليس ميلاً بمجرد الصحبة والاستئناس، وإنما منشؤه التقدير النابع من الدين، ومن كونه -صلى الله عليه وسلم- رسولاً رؤوفًا رحيمًا حريصًا على الأمة، هذا الحب القلبي العظيم قد يشفع للإنسان أحيانًا إن بدر منه تقصير في الاتباع الظاهر أو مخالفة ما، كما في حديث البخاري في الرجل الذي شرب خمرًا وأُتِيَ به للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليُضرب، فلعنه بعض الصحابة وقال: ما أكثر ما يؤتى به. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنه، إنه يحب الله ورسوله". فمحبته -صلى الله عليه وسلم- تشمل كلا الأمرين: العاطفة التي في القلب، والاتباع وتعظيم الأمر والنهي، فمن حقق الأمرين وكملهما فقد كملت محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

ولكن تأكيدنا على تلك المحبة القلبية لا يعني تمييع قضية الاتباع، ففرق بين أن يخطئ الإنسان أحيانًا وبين أن يهمل الاتباع وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحيث يصبح ذلك غالب شأنه، فذلك دال على عدم وجود أصل المحبة في القلب، ولا يشفع لذلك المفرط المقصر ما يقوم به من غلو في الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدَّعي أنه هو المحبة المقصودة له -صلى الله عليه وسلم-.

ففرق بين محبته -صلى الله عليه وسلم- والشفقة عليه، والشوق لرؤيته، وبين الغلو فيه الذي نهى -صلى الله عليه وسلم- عنه، سواء كان مبالغة في الإطراء، أو طقوسًا مستحدثة –كالاحتفال بالمولد مثلاً- مما يعد من البدع المنهي عنها، فحذار من الإفراط والتفريط، فالبعض يهتم بإحسان الظاهر مع خلو القلب من العاطفة والشوق إليه -صلى الله عليه وسلم- وإلى رؤيته، والبعض يسيء في الاتباع ثم يشطح في الوجد والذوق والعاطفة ويغلو وينحرف. نسأل الله السلامة من الإفراط والتفريط.

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فمن محبته صلى الله عليه وسلم -بالإضافة إلى ميل القلب إليه بالشوق والعاطفة الصادقة، وبالإضافة إلى الاتباع الجاد له صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره ونهيه- معرفة سيرته وأحواله ومغازيه.

يقول سعد بن أبي وقاص: كنا نعلِّم أولادنا سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومغازيه كما كنا نعلمهم القرآن.

ومن محبته -صلى الله عليه وسلم- الوفاء له، ومعرفة فضله وبذله، وما قام به من أداء للأمانة، وتبليغ للرسالة، ونصح للأمة، والثناء عليه، والدعاء له، والصلاة عليه، والحفاظ على ما بيَّنه وتركه لنا وعدم تضييعه، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يمت حتى علت راية الدين، وقامت دولة المسلمين.

وقد بذل الخلفاء الراشدون كل ما في وسعهم حفاظًا على ذلك الصرح العظيم، الذي وضع أساسه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ثم أخذ الأمر يصيبه بعض التغير والخلل، حتى انتهى الأمر في هذا الزمان إلى ضياع دولة الإسلام وهيمنة الدين، ووجد من يسفِّه التفكير في استعادة دولة الإسلام وإقامة خلافته، ويقول: ذلك ليس من وظيفة المسلمين، وهي مقالة شنيعة خبيثة، فقد ألَّف غير واحد في نظام الحكم الإسلامي كعلي عبد الرازق، وغيره من أعداء الإسلام، وهدفه إلغاء فكرة الخلافة الإسلامية والسعي إليها من أذهان المسلمين، ولكن ساق الله من يفضحهم ويبطل إفكهم وما كانوا يفترون.

ومن محبته -صلى الله عليه وسلم- الذب عنه وعن سنته، ونشرها وتعليمها للناس، والعناية بتنقيتها مما علق بها من أباطيل وأطروحات ضعيفة.

ومن محبته -صلى الله عليه وسلم- التأسي به في مختلف الأمور كما أراد الله -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21]، فيدخل في ذلك التأسي والتشبه به في صفاته وأحواله وعاداته إلا ما اختص به نفسه -صلى الله عليه وسلم-، ويدخل فيه التماس هديه في أكله وشربه ولباسه ونومه وجلوسه، وتبسطه في ذلك كله وعدم تكلفه، ويدخل فيه حسن مزاحه، مع رحمته ووقاره ولينه للمؤمنين وغلظته على الكافرين، كما يدخل فيه التأسي به في حسن قيادته لأصحابه وتربيته لهم وتأليفه ومؤاخاته بينهم.

كما ومن أهم ما يدخل فيه التأسي به في منهجه في الدعوة إلى الله -عز وجل-، فإنه -صلى الله عليه وسلم- حين بُعث كان أول ما اتجه إليه بناء الفرد وإعداده وتربيته؛ فكان تركيزه على الدعوة الفردية، وكان ابتداؤه -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة الفردية استجابة لأمر الله له: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر: 1، 2]، فإن هذه الآية -كما روى البخاري في صحيحه- أول آية نزلت بعد فترة الوحي، وذلك أن الوحي نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أول مرة في غار حراء بقوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1]، وبهذا صار محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، ولكنه لم يصبح رسولاً ولم يؤمر بالتبليغ، ثم فتر الوحي فترة ثم عاوده مرة أخرى بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ)، فبهذا صار رسولاً وكلفه الله بالتبليغ والإنذار، فهل تعلمون كيف نفَّذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر وكيف قام بهذه النذارة؟! استجاب للآية مهتمًّا بالدعوة الفردية، فكانت بداية الدعوة سرًّا بعد هذه الآية على الصحيح، ما يدل على اتساع معنى النذارة والنذير، وأنه ليس كما يظنه البعض أن النذير الذي يقوم بالنذارة لا يكون إلا رجلاً يرفع صوته في ملأ من الناس يقول: إني لكم نذير مبين، أو يقول: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.

فهذه ما هي إلا صورة من صور النذارة، فالنذارة أوسع من ذلك؛ إذ معناها الإعلام، ولها معنى آخر وهو التخويف والتحذير، سواء أكان ذلك كله في ملأ من الناس أم مع الفرد وحده، وسواء أكان ذلك بصوت عال أم بصوت منخفض، وليس في الشرع ولا في اللغة ما يجعل النذير في تلك الصورة الوحيدة التي يتخيلها البعض، وكفى ناقضًا لذلك الفهم أنه -صلى الله عليه وسلم- امتثل قوله تعالى: (قُمْ فَأَنْذِرْ) بقيامه بالدعوة الفردية أكثر من سنتين، وهو بذلك نذير بلا شك، ثم إن هذه النذارة تكون بالوحي كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء: 45]، لكن لا يعني هذا أنه لا تكون النذارة بالوحي إلا إذا اقتصرت على الآيات، وابتعدت عن أي شكل من أشكال التخطيط والإعداد المختلفة، وذلك غير صحيح، وهو خلط بين الشكل والمضمون، فمعنى أن النذارة بالوحي أن الموضوع الذي نوصله للناس هو ما نزل به الوحي، سواء أكان آية أم حديثًا أم كلامًا يتضمن معاني الآيات والأحاديث، ويتعين فهم معنى النذارة بالوحي كذلك أن الوحي هو الداعي إليها، وأن تكليف الله بها هو السبب في قيام الداعي بها، وفرق بين مضمون الرسالة التي نوصلها وبين الشكل والوسيلة والسبب الذي يعين على التوصيل.

يقول الله -عز وجل- في محكم كتابه: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].

اللهم اجعل حب نبيك زادًا لنا عند القدوم إليك، وقدِّمه في محابِّنا على الآباء والأبناء والإخوة والأزواج والعشيرة والمال والولد، واجعل طاعته واتباعه نصب أعيننا برحمتك يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.