العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إذا مات الإنسان انقطع عمله، وانمحى من الدنيا اسمه، ونسي ذكره ورسمه، وصار ماله لغيره، أما هو ففي القبر مسكنه، وتحت الأرض مدفنه، كان على ظهر الأرض يمشي ويتحرك، فصار في باطنه ما به من حراك، كان فوق الأرض وحوله أصحابه وخلانه، وأهله وأولاده، هذا يضاحكه، وذاك يمازحه، وآخر يؤنسه، فصار في قبره وحيدا، غريبا فريدا، حيث لا ....
الخطبة الأولى:
الحمد لله المنفرد باسمه الأسمى، المختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس دونه منتهى، ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلا ووهما، الباطن تقدسا لا عدما، وسع كل شيء رحمة وعلما، وأسبغ على أوليائه نعما عما، وبعث فيهم رسولا من أنفسهم عربا وعجما، وأزكاهم محتدا ومنمى، وأرجحهم عقلا وحلما، وأوفرهم علما وفهما، وأقواهم يقينا وعزما، وأشدهم بهم رأفة ورحما، زكاه روحا وجسما، وحاشاه عيبا ووصما، وآتاه حكمة وحكما، وفتح به أعينا عميا، وقلوبا غلفا، وآذانا صما، فآمن به وعزره، ونصره من جعل الله له في مغنم السعادة قسما، وكذب به وصدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتما، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه وسلم صلاة تسمو وتنمى، وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد:
معاشر الصالحين: إن أعظم ما تصرف إليه أعنة التأمل، ويميل به حب القلوب، كيف يتأمل "كتاب الله"؟ فلم تزل نفحاته تتعطر، ورشحات فضائله تتقطر، فطوبى لمن اشتغل به، وعاش بين أنواره وأسراره، يقتنص الفرص، ويحصل الفوائد، ترى على وجهه نور القرآن، وتحس من قلبه وكلامه، سكينة كلام الرحمن.
لا يختم ختمة إلا ليبدأ أخرى، ولله در الإمام الشاطبي يوم يقول: "ومن شغل القرآن عنه لسانه، ينل خير أجر الذاكرين مكملا، وما أثقل الأعمال إلا افتتاحه وارتحال موصلا".
وهو بين افتتاحه وختمه يعيش في رياض يانعة، وحدائق ماتعة، يهب عليه من الوجد والسرور، ما يكاد القلب أن يطير معه حبا وشوقا وأنسا، فلا تسل عن لذته وفرحته، ومتعته وسلوته.
إنها الجنة -أيها الأحباب- جنة الدنيا التي من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وإذا أردت أن تستيقن فتدبر قول الله: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحشر: 21].
نعم -أيها الأحباب الكرام- لقد فعلها القرآن مع أناس طهرت قلوبهم، وصفت وشفت حتى انفطرت، وهي تتلقى آية من كتاب الله، أو تتفاعل مع سورة من سوره.
وقد كتب الإمام أبو إسحاق الثعالبي -رحمه الله- في رسالة نفيسة في هذا الباب أسماها: "قتل القرآن" من جملة ما ذكر فيها، قال: قال حبيب العجمي: دخلت مسجدا بالكوفة لأصلي فيه، وإذا شاب نحيف، قد نهكته العبادة، فقلت له: ما تشتهي؟ - اسمعوا ماذا يشتهي - فقال: أشتهي أن أسمع عشر آيات من قراءة صالح المري، - وصالح هذا من أكابر السلف - فقد سمعت مرة صوته، قال حبيب: فأتيت البصرة، وطلبت صالحا، وأخبرته بالقصة، فخرج إلى الكوفة، ودخل المسجد -أي الذي فيه ذلك الشاب- واندفع في القراءة، فقرأ: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ)[المؤمنون101] إلى قوله: (اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[المؤمنون108].
قال: فاضطرب الفتى، وجعل لا يتمالك حتى سقط وتوفي، وكانت دار الفتى يشرع منها باب في المسجد لها باب يفتح على المسجد- فإذا أنا بعجوز معها شيء من الطعام، وكانت والدته، فلما رأته، قالت: ما أصاب ابني؟! فقصصت عليها القصة، فقالت: لعلك صالح المري؟! قلت: نعم، قالت: آتاك الله مناك في الدنيا والآخرة كما آتيت ابني أمنيته، ما زال يتمناك على الله، قال: فكنت فيمن جهزه، وحمله حتى دفن رحمه الله تعالى.
أين نحن من هذه القلوب أيها الأحباب؟ أين خشوعنا؟ أين تأثرنا؟ أين بكائنا على أنفسنا؟ أين حزننا؟ على ماذا نحزن اليوم وبماذا نفرح أيها الأحباب الكرام؟
إن مقاييس الفرح والحزن تختلف باختلاف الأفهام والعقول، وتتباين بتباين ما في القلوب والصدور، وهذا ينبني على أصلين عظيمين:
الأول: نظرة المرء إلى هذه الحياة الدنيا الفانية، والثاني: نظرته إلى تلك الحياة الأخرى الباقية، فوفق هذين النظرتين يسعى المرء في هذه الحياة، ويروح ويجيء، ويقدم ويؤخر، ويعطي ويمنع، ويقدم أو يحجم، ويفعل ويترك.
عباد الله: لا شك أن الكل إلى الموت صائر، وللقبر نازل وزائر، وإذا مات الإنسان انقطع عمله، وانمحى من الدنيا اسمه، ونسي ذكره ورسمه، وصار ماله لغيره، أما هو ففي القبر مسكنه، وتحت الأرض مدفنه، كان على ظهر الأرض يمشي ويتحرك، فصار في باطنه ما به من حراك، كان فوق الأرض وحوله أصحابه وخلانه، وأهله وأولاده، هذا يضاحكه، وذاك يمازحه، وآخر يؤنسه، فصار في قبره وحيدا، غريبا فريدا، حيث لا أنيس ولا جليس.
كان فوق الأرض يأكل ما لذ وطاب، ويتمتع بالطعام والشراب، ويتجمل بأحسن الثياب، فصار في باطن الأرض تحت التراب، يتلذذ الدود بأكله، وتستمتع الهوام بلحمه، فبموت الإنسان ينسى، وبدفنه وقبره ذكره يمحى.
لكن هناك من عباد الله من لا يزال يذكر، وعند ذكره يدعى له ويشكر، فيحيى اسمه بعد موته، ويبقى ذكره بعد دفنه، فمن هم؟
إنهم الذين عمروا حياتهم بذكر الله وطاعته، الذين عكفوا على كتاب الله وحفظوه، وعملوا به وعلموه، يحفظ الله له مقامهم، ويرفع ذكرهم في حياتهم وبعد موتهم.
إذا ذكر الصالحون فأهل القرآن في مقدمتهم، ألم يقل الله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) [فاطر: 32].
وإذا ذكر المجاهدون فأهل القرآن على رأسهم، ألم يقل الله: (وَجَاهِدْهُم بِهِ) أي بالقرآن: (جِهَادًا كَبِيرًا)[[الفرقان: 52].
فيا أيها الطالبون للآخرة، الراغبون في الحياة الأبدية السرمدية، الساعون في مرضاة رب البرية، يقول الله ربكم مخاطبا لكم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 57-58].
وشفاء لما في الصدور هو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات الصادة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) هو هذا القرآن: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
من متاع الدنيا ومناصبها وقصورها ونفوذها، فإن كل شيء يزول وتبقى تبعاته.
أما القرآن فيشفع وترفع لصاحبه في الجنة درجاته.
فهنيئا لأهل القرآن الذين أخلصوا لمولاهم، وعلى الأمة أن تعرف لهم منزلتهم ومكانتهم، فإن فضلهم عظيم، وخيرهم عميم، كم من إنسان علموه، وكم من غافل بآية واحدة سمعها منهم من النار أعتقوه، حفظوه وقرؤوه، وأصلوا للناس معانيه، ووقفوا عن محاسنه، وحركوا به القلوب.
إنها دعوة للأمة للرجوع إلى القرآن، ومعرفة قدر أهله، دعوة إلى الشباب أن يعكفوا على حفظ كتاب الله، وأن لا يضيعوا زهرة الشباب في تتبع المباريات والمسابقات الفارغة التافهة، دعوة للآباء والأمهات بأن يسعوا بكل ما يستطيعون إلى تحفيظ أبناءهم كتاب الله، فوالذي لا إله إلا هو إنهم أعظم استثمار، وأجل ما تصرف فيه الأعمار.
وتأملوا معي هذا الحديث العظيم، عن عبد الله بن بريدة -رضي الله عنه- قال: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعته يقول: "إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب يقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول له: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأت نهارك، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، قال: فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ قال: فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا " [رواه الإمام أحمد وحسنه الحافظ بن كثير].
وحق لهذين الوالدين أن يعجبا ويدهشا من هذا الإنعام العظيم الذي حصل عليهما من حيث لا يحتسبان، فعندما يكسى الوالدين حلتين عظيمتين من حلل الجنة يتساءلان: من أين لنا هذا وليس لنا فيما نعلم من العمل والطاعات ما يؤهلنا بالفوز بهذه الكرامة العظيمة؟! فيجبان: بتعلم أولادك القرآن، ليس بتعليمه المعازف والقيان.
وعلى هذا فإن صاحب القرآن من أبر الناس بوالديه، ولقد أحسن الإمام الشاطبي يوم قال:
فيا أيها القاري به متمسكا | مجلا له في كل حال مبجلا |
هنيئا مريئا والداك عليهما | ملابس أنوار من التاج والحلا |
فما ظنكم بالنجل عند جزائه | أولئك أهل الله والصفوة الملا |
أولو البر والإحسان والصبر والتقى | حلاهم بها جاء القران مفصلا |
عليك بها ما عشت فيها منافسا | وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلا |
جزى الله بالخيرات عنا أئمة | لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا |
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، أمين، أمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي شرف أهل القرآن، وجعلهم من أهله وخاصته، ووعدهم الرضوان، والصلاة والسلام على أعظم من علم وعُلم القرآن، ونطق بالحجة والبيان، سيدنا محمد القائل: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على النهج إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: إن منزلة أهل القرآن عند الله منزلة عظيمة، فحلاهم وكملهم، ومما وعدوا به، يجعل كل إنسان يبذل الوسع من أجل اللحاق بركبهم، والانخراط في قوافلهم.
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا"[رواه أبو داوود].
قال ابن حجر الهيثمي -رحمه الله-: "الخبر المذكور، يعني في هذا الحديث، خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأه من المصحف؛ لأن مجرد القراءة لا يختلف الناس فيها، ولا يتفاوتون قلة وكثرة" إلى أن قال: "فتعين أعني الحفظ عن ظهر قلب هو المراد في الخبر، وهذا ظاهر من لفظ الخبر بأدنى تأمل " أ. هـ.
فيا لها من سعادة للحافظ المخلص: "وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا فإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا" ترى إلى أين يرتقي ويرقى؟!
قال الإمام الطيبي -رحمه الله-: "إن الترقي يكون دائما فكما أن قراءته في حال الاختتام استدعت الافتتاح الذي لا انقطاع له، كذلك هذه القراءة والترقي في المنازل التي لا تتناهى" لا انتهاء لهذا الارتقاء.
وهذه القراءة لهم كالتسبيح للملائكة لا تشغلهم من مستذلاتهم، بل هي أعظم مستذلاتهم.
من فضائل القرآن: أنه يلبس تاج الكرامة، وحلة الكرامة، ويفوز بالرضا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَجِيءُ صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ الْقُرْآنُ: يَا رَبِّ، حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ، زِدْهُ، يَا رَبِّ، ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، وَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَهْ وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً" [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
في هذا الحديث عدة كرامات لحفاظ القرآن وهي: الإنعام عليه بتاج الكرامة، وحلة الكرامة، فهو يعرف بهما يوم القيامة بين الخلائق، وهما علامتان على كرامة لابسيهما، ومكانتهما عند الله -عز وجل-.
وإذا كان العبد في الدنيا يفرح ويزهو ويفتخر إذا خلع عليه سلطان خلعة، أو منحه منحة، فما بالك بصاحب القرآن يوم القيامة إذا أنعم عليه مولاه خالق الخلق جميعا، ومالك الناس وإلههم، بهذه النعمة العظيمة، والمنزلة الرفيعة، وألبسها تاج الكرامة، وحلة الكرامة، على أعين الخلق أجمعين، وأعظم من ذلك كله رضوان الله؟!
ثم يزاد على كل ذلك بكل آية حسنة، فضلا عن رفعة درجاته في الجنة، بعدد الآيات التي يحفظها من القرآن، وقد جاء في الآثار: "أن ما بين الدرجة والدرجة في الجنة كما بين السماء والأرض".
فهل يعي المسلمون فضائل حفظ القرآن، ويقبلون عليه برغبة ونهم، ويربون على ذلك أبنائهم؟!
فمن أظلم ممن زهد في كتاب ربه، وأعرض عنه حفظا وفقها، وتلاوة ودراسة، وعملا.
من الفضائل كذلك: أن حافظ القرآن مع السفرة الكرام البررة، عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة" [رواه البخاري].
والسفرة الكرام البررة هم: الملائكة الذين شرفهم الله، بأن تكون بأيديهم الصحف المطهرة، قال تعالى: (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ)[عبس: 13- 16].
ومعنى كون حافظ القرآن مع السفرة يحتمل أمرين:
الأول: أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة السفرة، لاتصافه بصفة من حمل الكتاب، فأنزل منازلهم الرفيعة، وأسكن مقاماتهم العلية، في جوار الحق -تبارك وتعالى-.
والثاني: أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم.
من الفضائل كذلك: أن حافظ القرآن مقدم في الدنيا والآخرة، عن عامر بن واثلة: أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ - أي من جعلته عليهم واليا – فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟! - كأنه ينكر عليه – قال: إنه قارئ لكتاب الله -عز وجل-، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" [رواه مسلم].
فقد رفعه من مقام المولى إلى مقام الولاية، والحافظ أولى الناس بالإمامة، عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ" [رواه مسلم].
وهذا مقام آخر من مقامات الأفضلية للحافظ: بأن قدم على كل من حضر في المسجد للصلاة، والأكثر قرآنا هو المقدم وإن كان مولى، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضع بقباء قبل مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا".
وزاد الهيثم: "وفيهم عمر بن الخطاب مولى يؤم بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأبو سلمة بن عبد الأسد".
والحافظ مقدم في المشورة، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كان القراء أصحابَ مجلس عمر -رضي الله عنه- ومشاورته كهولًا كانوا أو شبابًا".
وكما أعلى الله -تعالى- شأن حافظ القرآن في الدنيا، فقد أعلى شأنه في الآخرة، فهو أولى الناس بالتقدير حتى بعد موته، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين رجلين من قتلى أحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد" حتى في الدفن يقدم صاحب القرآن، ثم قال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"[رواه البخاري].
قال ابن حجر -رحمه الله- معلقا على الحديث: "وفيه فضيلة ظاهرة لقارئ القرآن وحملة القرآن: هم أهل الله وخاصته، ولا شك أن أهل الله وخاصته هم أقرب الناس إلى نيل رحمته، وكرمته ومحبته".
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه– قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن لله أهلين من الناس" قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال "هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ".
فأكرم به من فضل، وأعظم بها من مكانه ومنزلة، يطمح إليها كل مؤمن، فلينتسب ما شاء لما يتمنى، ويرغب من أهل المال، أو الجاه، أو السلطة، أو المناصب، أو الشهرة، ولتجُد القواميس بكل وصف وسناء، فلن يأتي بأكمل، ولا أرقى مما وصف به حملة الكتاب، أهل الله وخاصته.
وحافظ القرآن من الذين أوتى العلم، فقد مدح الله الحفاظ في كتابه، ووصفهم بأنهم من العلماء، قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)[العنكبوت: 49].
وتكريم حافظ القرآن من إجلال الله وتعظيمه؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط" أي العادل [رواه أبو داود وحسنه الألباني].
ويقول ابن القيم جملة جميلة: "من استظهر القرآن -أي حفظ القرآن- ورأى أن أحد أفضل منه، فما قدر نعمة الله عليه".
فمن تجل الأمة اليوم؟! هل تجل أهل القرآن وتكرمهم وتنزلهم المنزل اللائق بهم؛ أم تجل وتكرم المطربين والمطربات، والممثلين والممثلات، واللاعبين وغيرهم؟!
والمرء مع من أحب يوم القيامة.
وحفظة القرآن المخلصون لا تحرقهم النار، وهذه غاية الغايات: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران: 185].
عن عقبة بن عامر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لو كان القرآن في إيهاب ما أكلته النار" [رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني].
فلو صور القرآن وجعل في إيهاب، وهو وعاء من جلد، وألقي في النار، ما مسته النار، قال الإمام الطيبي معلقا على هذا الحديث، وهو كلام نفيس، قال: "وتحريره أن التمثيل وارد على المبالغة والفرض، أي ينبغي ويحق أن القرآن لو كان في مثل هذا الشيء الحقير -وعاء من جلد - الذي لا يؤبه به، ويلقى في النار ما مسته النار، فكيف بالمؤمن الذي هو أكرم خلق الله، وأفضلهم، وقد وعاه في صدره، وتفكر في معانيه، وواظب على قراءته، وعمل فيه بجوارحه؟ فكيف تمسه؟ فضلا عن أن تحرقه" ا. هـ.
اللهم أصلح أحوالنا..