المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | أحمد السويلم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
إلا أن كثيرا من الناس -مع تعدد المشاغل، وكثرة الصوارف- تمضي عليه الأيام والليالي ولا يشعر بها، حتى تنقضي الأعمار، وتفوت مواسم الرحمة، ولمَّا تنته أعماله، ولا قضيت كل حاجاته؛ فيضيع على نفسه شرف الزمان، ويخسر فضل رمضان. أعاذنا الله وإياكم من حسرة التفريط والخسران!.
إن الحمد لله...
أيها المؤمنون: نِعَم الله على عباده تترا، وفضله على عباده لا يحصى؛ ومن كرم الله وفضله ومنته أن يوفق عبده للإقبال عليه في أيام فاضلةٍ ميزها بمضاعفة الحسنات، وكثرة مغفرة السيئات، ورفعة الدرجات، والفوز بالجنات؛ فما أعظم الفضل! وما أوفر المنن من ربنا الكريم الأكرم!.
إلا أن كثيرا من الناس -مع تعدد المشاغل، وكثرة الصوارف- تمضي عليه الأيام والليالي ولا يشعر بها، حتى تنقضي الأعمار، وتفوت مواسم الرحمة، ولمَّا تنته أعماله، ولا قضيت كل حاجاته؛ فيضيع على نفسه شرف الزمان، ويخسر فضل رمضان. أعاذنا الله وإياكم من حسرة التفريط والخسران!.
تأملوا في شهركم كيف مضى منه ستةَ عشرَ يومًا لكأنها -والله!- في غمضة عين وانتباهتها! فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا!.
ولذا كان لا بد مع قرب عَشر رمضان الأواخر واقترابها من وقفات محاسبة صادقة؛ لعل قلبًا ينتبه من غفلته، وجسدًا يفيق من رقدته، فيتدارك ما مضى، ويدرك ما بقي.
فأما الوقفة الأولى: فمع الصيام -والشهر شهر الصيام- سل نفسك يا عبد الله: هل صمت حقًا وصدقًا على الوجه الذي أراده منك الله؟.
هل نشدت تقوى الله في صيامك، وتمثلت قول الله تعالى في آية الصيام: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]؟.
أفَـَقَدْ صام سمعُك وبصرك وقلبك عن الحرام، أم تلطخت بشيء من الآثام؟!.
أم هل قدّمتَ بين يدي صيامك أعمالًا وحسنات، وباقيات صالحات، تشفع بها صيامك، وتدنيك من رحمة الرحيم الرحمن؟ ورحمةُ الله قريب من المحسنين.
إن من الخذلان أن تبالغ في ظن الخير بنفسك، وأن عملك خير من عمل غيرك، وبعض الظن إثم.
ثم إياك أن يزين الشيطان لك بعض عملك فتقول: عملتُ وقرأت وتصدقت! فمهما عملت ففي الناس من يعمل خيرًا من عملك، ولكن سل الله الرضا والقبول، فإن الشأن كل الشأن في أن يقبل الله منك، و(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].
الوقفة الثانية: مع الوقت: تأمل -يا عبد الله- في هذه الأيام كيف تمضي سراعًا، وتذهب تباعًا! والغفلة هي الغفلة! ارجع إلى نفسك فحاسبها، كم قد ضيعت من الأوقات المباركات فخسرت من الحسنات المضاعفات! إنه شهر لا يُضِيع لحظاتِه ولا يغفل عن بركاتِه إلا محروم!.
صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر فقال: "آمين! آمين! آمين!"، قيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: "آمين آمين آمين؟"، فقال: "إن جبريل أتاني فقال: مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفَر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين! فقلتُ: آمين" أخرجه ابن حبان.
ألا صدقًا مع النفس يا عبد الله! كم سرق الجوال وبرامج التواصل والمحادثة من شريف وقتك، وأذهب من صفاء روحك وقلبك؟! أما زلت لهفًا بالتغريد والقيل والقال؛ والناس حولك ما بين تالٍ لكتاب الله، وقائم به؟! أما صبر عنها؟! فإنما هي أيامٌ وليالٍ قليلة، قللها رب العزة في كتابه ليستحثك على اغتنامها فقال: (لعلكم تتقون).. (أيامًا معدودات). فالبِدارَ يا أُخَيَّ قبل الفوت!.
مَن فاتَهُ الزَّرْعُ في وقتِ البِدارِ فَمَا | تَرَاهُ يحصدُ إلا الهمَّ والنَّدَمَـــــــــــــا |
طُوبَى لِمَن كانت التَّقْوَى بضاعتَه | في شهره وبِحَبْلِ الله معتصِــــــــــما |
الوقفة الثالثة: مع القلب والروح: فكم نحتاج إلى الالتفات لقلوبنا، نجدد ما خلقَ فيها من إيماننا، وفي الحديث الحسَن، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ".
تأمل -يا رعاك الله- كم زادت أيام رمضان ولياليه في إيمانك؟ وكم أقصت من عصيانك؟ ما أثرُ آيات كتاب الله في روحك وقلبك، وأنت تتلوها وتسمعها مرتلة في نهارك وليلك؟ أم؛ كم هي الدمعات التي ترقرقت من عينيك، خشيةً لله تعالى، وخوفًا من عقابه، ورجاءً في فضله وثوابه؟!.
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:2-4].
وإنك إن لم تجد لذة للعبادة، ولا أثرًا لها في إيمانك وقلبك وجوارحك، فاتهم إخلاصك وصدقك، واعلم أنها عبادة مدخولة؛ لأن الله شكور، يشكر من أقبل عليه صادقًا فيورثه لذة في قلبه، وأثرًا في جوارحه، ولا يُضيع الله أجر من أحسن عملاً؟.
ألا وإن من أعظم ما يعينك على صفاء قلبك وروحك الخلوة بالله تعالى، والاعتكاف في مساجد الله؛ فإنها أنيس الصالحين، وسلوة العابدين، وسنة سيد المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-.
فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل رمضان عشرة، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين، وقال: "مَن كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد أُرِيتُ هذه الليلة -يعني ليلة القدر- ثم أُنْسِيتُها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر" متفق عليه.
وكم في هذا الانقطاع عن الدنيا في ليال معدوداتٍ من إصلاح للقلوب، وتزكية للنفوس، ورياضة لها على طاعة الله -عزَّ وجلَّ-، والاجتهاد فيما يرضيه، والأُنس به دون خلقه!.
وهو مظنة إدراك ليلة القدر وخيرها وفضلها، فإنها ليلة المنة العظمى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:3]، و" من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" والموفق من وفقه الله تعالى.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وفّق من شاء من خلقه بفضله، وأضل من شاء من خلقه بعدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى، واصدقوا في أقوالكم وأعمالكم ومع أنفسكم، فقد أمرتم بالصدق وصحبة الصادقين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
الوقفة الرابعة: مع الكسل والتسويف، وما أدراكم ما هما؟ إنهما سلاح إبليس في إغواء العباد عن عبادة ربهم، والتقرب إليه، والزلفى لديه؛ إنهما لا يورثان إلا الندم والخسران، ولات ساعة مندم!.
هذه العشر الأخيرة قد أقبلت، وتلك لياليها للعابدين تهيأت، فمالك وللكسل والتسويف يا عبد الله؟!.
أوَليس قد أعانك الله فصفد مَرَدَةَ الشياطين، وغلق أبواب النيران، وفتح لك أبواب الجنان؟!
ياسلعةَ الرحمن لستِ رخيصةً | بل أنت غاليةٌ على الكسلانِ |
فهبّ يا أُخَيَّ إلى جنات عدن، فقد تزينت لك حورها، وشُيدت لك قصورها، وجَدَّ لها الصالحون، وسابق لأجلها العابدون؛ ولا تكن من الراضين بأن يكونوا مع الخوالف؛ فما نام طالبها، ولا قعد راغبها!
فيا خاطِب الحسناء إن كنت راغبا | فهذا زمانُ الْمَهْرِ فَهْوَ الْمُقَدَّمُ |
وصُمْ يومك الأَدْنَى لعلَّكَ في غدٍ | تفوزُ بعيدِ الفِطْرِ والنَّاس صُوَّمُ |
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها | منازلُنا الأولى وفيها الْمُخَيَّمُ |
ولكننا سبْيُ العدوِّ فهل ترى | نعودُ إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ |
وحيّ على يوم المزيد الذي به | زيارةُ ربِّ العرش فاليوم موسمُ |
وحيَّ على وادٍ هنالك أفيحٍ | وتربتُه من إذفر المسك أعظمُ |
منابرُ من نورٍ هناك وفضة | ومن خالص العقيان لا تتقصمُ |
وكثبان مسك قد جعلن مقاعدا | لمن دون أصحاب المنابر يُعلم |
فبينا هموا في عيشهم وسرورهم | وأرزاقهم تجري عليهم وتُقسَمُ |
إذا هم بنورٍ ساطعٍ أشْرَقَتْ له | بأقطارها الجنَّاتُ لا يُتوهمُ |
تجلَّى لهم ربُّ السموات جهرةً | فيضحك فوق العرش ثم يكلِّم |
سلام عليكم يسمعون جميعُهم | بآذانهم تسليمَه إذ يُسَلِّمُ |
يقول سَلُوني ما اشتهيتم فكلّ ما | تريدون عندي إنني أنا أرحمُ |
فقالوا جميعا نحن نسألك الرضا | فأنت الذي تُولِي الجميلَ وترحمُ |
فيا بائعا هذا بِبَخْسٍ مُعَجَّلٍ | كأنك لا تدري بلى سوف تعلمُ! |
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ | وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ |
ثم صلّوا وسلموا على نبيكم...