المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
البحث
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
إن من سمات الرشد في الإنسان قبول الحق، وإن الناس أمام هذه السمة على قسمين، ويتفاوتون في كل قسم، فمنهم: من يحب الحق، ويقبل على التسليم له مهما كان، ومنهم: من ينتقي من الحق ما وافق هواه، ويرفض ما دون ذلك، ولو تبين له، واليوم نتكلم عن أسباب رفض الحق....
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حدثنا أحد الأفاضل الغيورين قائلا: قتل خلال أقل من يومين على أيدي اليهود ثمانية وعشرون مسلما في فلسطين، والحرب قائمة وأنت تتكلم بالأمس عن التوبة؟
فقلت له متفهما مرارة الواقع التي بدت ظاهرة على محياه: وماذا تريدني أن أتحدث عنه، وقد سبق أن تحدثت ولمدة أربعة أسابيع عن غربة الإسلام في سياق حديثي عن حادثة: "هدى غالية" هل أستمر في الحديث عن وقائع الحرب؟ وحتى متى والمسلمون مصائبهم تطرى الواحدة تلو الأخرى؟!
أم أتناول أسباب الأمراض التي تعاني منها الأمة، ووسائل علاجها، لعل في الحديث تأصيلا لجذور المشكلات.
أظن -أيها الأخوة والله أعلم-: أن هذا المنهج هو الأسلم والأحكم، وحديثنا اليوم -إن شاء الله- عن مشكلة هي سبب رئيسي من أسباب تفرق الأمة، عسى الله أن يجمع شملها، وأن يعيد عزها.
إن من سمات الرشد في الإنسان قبول الحق، وإن الناس أمام هذه السمة على قسمين، ويتفاوتون في كل قسم، فمنهم: من يحب الحق، ويقبل على التسليم له مهما كان، ومنهم: من ينتقي من الحق ما وافق هواه، ويرفض ما دون ذلك، ولو تبين له، واليوم نتكلم عن أسباب رفض الحق.
أيها الأخوة: يذهب فلاسفة العصور الغابرة كالبريطاني "هيوم مبتدع" مذهب الشك المطلق، والفيلسوف اليهودي الذي يرى أن العقائد لا حقيقة مطلقة لها؛ لأنها مجرد تراث بشري، و"جون لوك" و"بيكارد" الذين ناديا بمبدأ التسامح الديني يقصدون بذلك أن لكل إنسان الحق في أن يعتنق بما يشاء، ويكفر بما يشاء من الأديان والمذاهب؛ لأن الكل مصيب.
المهم أن هؤلاء الفلاسفة يذهبون إلى القول باستحالة الحقيقة المطلقة، وأن الحق أمر نسبي، لا يملكه أحد بشكل كامل كائنا من كان، وتبعهم في اعتناق هذا الفكر المعجبون بهم من بني قومنا مع الأسف، فأكثر الذين ينتقصون الصحوة ورموزها في الصحف والفضائيات والمجلات أتباع لأفكار أولئك الفلاسفة.
الحاصل أن من أسباب رفض الحق هذه الفلسفة التي يدعي أصحابها أن الحق أمر نسبي، ويستحيل أن يوجد حق مطلق، والمصيبة ليست عند أولئك الغربيين، المصيبة عند متابعيهم ومريديهم من أبناء جلدتنا، عندما يسرفون في تقليدهم إلى درجة الاعتراض حتى على النص الشرعي، بحجة أن ليس هناك حق مطلق، والذي قادهم إلى هذا الفكر بالإضافة إلى إعجازهم لفلاسفة الغرب اعتدادهم الكبير لعقولهم، واستكبارهم على ما لا يتفق مع عقولهم مع النصوص، وهذا يقود إلى أهم أسباب رفض الحق، وهو مرض الكبر.
الكبر هذا الداء المخيف المهلك الذي يقول عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".
فبطر الحق، أو رفض الحق، سببه الكبر، به عرف الكبر ذاته؛ كما في الحديث بأنه رفض الحق، الكبر بطر الحق.
وهذا الكبر الذي يؤدي إلى رفض الحق -أيها الأخوة- مرض قلبي، إذ أن القلب تكتنفه أمراض معنوية كثيرة، هي أشد خطرا من الأمراض الحسية، كالبخل والحسد والريبة، ومن أخطرها الكبر.
وإذا مرض القلب بمرض الكبر، كان رفض صاحبه للحق بحسب استفحال ذلك المرض في قلبه، وعكس الكبر التواضع، وهو حالة صحية جميلة للقلب، وهو خلق محمود؛ لأن فيه تسليم للحق، ولذلك نفى الله الكبر عمن أذعن للحق من رهبان نصارى الحبشة؛ قال تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ)[المائدة: 82- 85].
إذاً، فقد نجاهم خلق التواضع، بل وأورثهم جنة الخلد، يقول ابن القيم في معنى التواضع: "يعني أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له، والذل والانقياد، والدخول تحت رقه، بحيث يكون الحق متصرفا فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع، ولهذا فسر النبي –صلى الله عليه وسلم- الكبر برده، فقال: "الكبر بطر الحق، وغمط الناس".
ف"بطر الحق" رده وجحده، والدفع في صدره كدفع الصائل، "وغمط الناس" احتكارهم وازدرائهم، ومتى احتقرهم وازدراهم دفع حقوقهم، وجحدها، واستهان بها.
ولما كان لصاحب الحق مقال وصولة كانت النفوس المتكبرة لا تقر له بالصولة على تلك الصولة التي فيها، ولاسيما النفوس المبطلة، فتصول على صولة الحق بكبرها وباطلها، فكان حقيقة التواضع خضوع العبد لصولة الحق وانقياده له، فلا يقابلوها بصولته عليها.
قال: "وهو على ثلاث درجات، الدرجة الأولى: التواضع للدين، وهو أن لا يعارض بمعقول منقولا، ولا يتهم للدين دليلا، ولا يرى إلى الخلاف يعني المخالفة سبيلا، التواضع للدين هو الانقياد بما جاء به الرسول، والاستسلام له، والإذعان، وذلك بثلاثة أشياء:
الأول: أن لا يعارض مما جاء به بشيء من المعارضات الأربع السارية في العالم، المسماة بالمعقول والقياس، والذوق والسياسة.
فالأولى للمنحرفين أهل الكبر من المتكلمين الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولتهم الفاسدة، وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل، أي النص المنقول من كتاب أو سنة، هذا هو النقل، قدمنا العقل، وعزلنا النقل، إما عزل تفويض، أو عزل تأويل.
والثاني للمتكبرين المنتسبين إلى الفقه، قالوا: إذا تعارض القياس والرأي والنصوص، قدمنا القياس على النص، ولم نلتفت إليه.
والثالث: للمتكبرين المنحرفين للمنتسبين للتصوف والزهد، فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر، قدموا الذوق ولم يعبئوا بالأمر.
والرابع: للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين، إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة، قدموا السياسة، ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة، فهؤلاء الأربعة هم أهل الكبر.
أيها المسلمون: لقد جعل الله -تعالى- للحق هيبة، هيبة كبيرة حتى يخفض المؤمنون له رؤوسهم، وتخبت له قلوبهم، وذلك بأن جعل الحق اسم من أسمائه -جل وعلا-، قال سبحانه: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النــور: 25].
وقال جل وعلا: (وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) [يونس: 30].
وقال أيضا: (فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) [يونس: 32].
ولأجل مهابة الحق جعله الله مقدما، وأمر الناس أن يقدموه وأن يتبعوه، قال تعالى: (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس: 35].
وبين أن من سمات العلم النافع الإخبات للحق: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) [الحـج: 54].
ولكن ما زال كثير من الناس رغم ذلك لا يرون للحق هيبة، فإما يرفضون الحق كله، أو يرفضون منه ما خالف أهوائهم، أو خالف مصالحهم -أسأل الله لي ولكم العافية من ذلك-.
ومن أسباب رفض الحق: ضعف الإيمان، فضعيف الإيمان لا يقر على حال، فساعة يغلب في قلبه باعث الشهوة، فيرفض الحق، وساعة يغلب باعث الدين فيلين للحق، ولذلك ترى لضعيف الإيمان، أو بات هنا وهناك.
ومن الناس من لا يخضع للحق، وينيب إليه إلا في الشدائد، أي إنابة اضطرار لا اختيار، قال ابن القيم: "وأما أصحاب الإنابات المتقدمة فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر والابتهال، فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه، فهو ينيب لبعضه ساعة، ثم يترك ذلك مقبلا على دواعي نفسه وطبعه، والله الموفق والمعين، لا رب غيره ولا إله سواه".
ومن أسباب رفض الحق: الجهل، وهو على نوعين: إما أن يكون الإنسان جاهلا بخطورة هذا الخلق، فيستهين برفضه للحق، ويستصغر الأمر، وإما أن يكون جاهلا بحقيقة المسألة ذاتها، أو الأمر ذاته، والنوع الأول هو المشكلة، أما الثاني: فهو أمر طبيعي؛ لأن كثيرا من الناس لا يقبلون على الحق بجهلهم بأنه حق، فمتى ما تبين لهم قبلوه، أما الأول فهو يعرف الحق، ولكن لا يقبله لجهله بمدى قبح الطبع، وخطورة الإثم.
ومن أسباب رفض الحق: أسلوب صاحبه، ولذلك وصى الله -تعالى- نبيه موسى وأخاه هارون -عليهما السلام- أن يخاطب فرعون بأسلوب لين، حتى لا تأخذه العزة بالإثم، فيستكبر على الحق، ذلك أن الكبر الذي في قلب فرعون لا يكسره إن كسره شيء إلا الأسلوب اللين: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طـه: 44].
إذاً، لو أراد صاحب الحق أن يدخل في جدال الناس علما، فليكن بارد الأعصاب، واسع الصدر، حليما رفيقا بمن أمامه، ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آية في خلق الحلم، مما مهد لقبول كلامه، واستجابة الناس لدعوته.
ففي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: "بين أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، وهو يصلي، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكي أسكت سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما كهرني، وضربني، ولا شتمني، ولكن قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد بين الله -تعالى- أن اللين كان سببا لإقبال الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ )[آل عمران: 159].
ومن أسباب رفض الحق: التعصب والتحزب، والتعصب في الجملة مذموم، إلا أن يكون لحق قطعي ثابت، دون أن يؤدي هذا التعصب إلى ظلم أو حيف.
إذاً، أن يكون لحق قطعي ثابت كدين الإسلام، أو عقيدة التوحيد، أو حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو سنة خلفائه الراشدين -رضي الله عنهم-، على أن لا يحمل هذا التعصب صاحبه على رفض الحق، أو قول الباطل، أو اتخاذ موقف ظالم، أو بخس حق ما، حتى لو قصد من وراء ذلك إعزاز دينه، أو مذهبه، أو منهجه؛ لأن الإسلام لا يعز بباطل، ولا ببخس حقوق: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
ولذلك أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالحق حتى لو جاء من الشيطان ذاته؛ كما في حادثة أبي هريرة -رضي الله عنه- عندما قال له الشيطان: "إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي، لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صدقك وهو كذوب ذاك شيطان"[والحديث في صحيح البخاري].
فالتعصب إنما يحكم عليه بحسب تعريفه؛ لأن التعريفات في زمننا اليوم اتخذت سبل مغلوطة، فقد يعرف تمسك الإنسان بدينه وسنة نبيه، وحرصه على أداء واجباته دون تفريق، بأنه تعصب، وأن هذا إنسان متعصب، ولو كان كذلك فهو محمود؛ لأن من معاني أخذ الدين بقوة؛ كما أشارت الآية هي التمسك بتعاليمه: (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ).
أما التعصب للرأي، أو لعالم ما، أو لقبيلة، أو جماعة، أو مذهب، أو غير ذلك، بحيث ينتصر لهم ولو بالباطل، ويعادي من أجلهم، ويوالي من أجلهم، ولو بغير حق، فهو تعصب جاهلي أحمق؛ كما قال دريد:
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى | غوايتهم أو أنني غير مهتدى |
وما أنا إلا من غزية إن غوت | غويت وإن ترشد غزية أرشد |
والمصيبة أن التعصب قد يصل بصاحبه إلى حد العمى عن إدراك الحق، كأنما يطمس على قلبه -نسأل الله العافية-، حتى يغلب عليه التعامل بالظلم، وترك العدل والإنصاف، فيسيء الظن بكل من هو خارج جماعته، ولو شهد له الجميع بالسيرة والخلق، فإذا سلك هذا المسلك تعبدا لله، فقد توضع منه.
فمن لم يرفع رأسا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنصر أخاك ظالما، أو مظلوما" ولم يهتم بقوله صلى الله عليه وسلم في معنى نصره لأخيه الظالم: "فاحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره " فكيف لهذا أن يقبل الحق؟!
هدى الله الجميع سواء السبيل.
أقول قولي هذا واستغفر الله فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد علمنا فضل الرجوع للحق والاذعان له، ولكن يبقى سؤال عالق، ما هو الحق؟ وكيف يعرف الحق؟
هناك أثر في سنن أبي داود، وفيه: أن معاذ بن جبل قال لأصحابه يوما: "إن من ورائكم فتن يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن، ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره".
فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق.
قال أحد الجلساء قلت لمعاذ: "ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟" قال: "بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟".
وفي رواية: أنهم قالوا: وكيف زيغة الحكيم هي الكلمة، قال: "هي الكلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه، فاحذروا زيغته".
قال: "ولا ينئك ذلك عنه، أي لا تبتعد عنه، فإنه لعله أن يراجع وتلقى الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا".
قال العلماء: "فإن على الحق نورا، أي فلا يخفى عليك كلمة الحق، وإن سمعتها من المنافق، لما عليها من النور والضياء".
أيها الإخوة: إن نور الحق لا يراه إلا من وفق لرؤيته، ولو تجرد الإنسان مما ذكرناه من أسباب رفض الحق، لو تجرد من الكبر والحسد، وعمل على زيادة إيمانه، واكتسب قدرا من العلم، وتطهر من الحزبية والتعصب، وما شابه ذلك من أخلاق الجاهلية، لرجحت فطرته، ولرأى نور الحق يسطع فوق الكلام، ولعرف صدق الصادقين، لا بأسمائهم، ولا أصلهم وفصلهم، ولا بحزبهم وجماعتهم، ولكن بمعرفة الحق، لذلك قال أهل العلم: "اعرف الحق تعرف أهله" ادرس الكتاب والسنة وزن أقوال الناس بها.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، فلا تصدقوه حتى تعلموا متابعته رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
أسأل الله -تعالى- أن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأسأل الله أن يجعلنا ممن إذا عرف الحق أذعن له، وخضع لصوته.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين...