الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
إنَّ العبد قد يُكتَبُ له عزُّ الدَّهر وسعادةُ الأبد بموقفٍ يُهيِّئُ اللهُ له فرصتَه، ويُقدِّرّ له أسبابَه، حينما يطلعُ على قلب عبده فيرى فيه قيمةً إيمانيةً أو أخلاقيةً يحبُّها، فتشرقُ بها نفسُه وتنعكسُ على سلوكه بموقفٍ يمثِّلُ نقطةً مضيئةً في مسيرته في الحياة، وفي صحيفة أعماله إذا عُرضت عليه يومَ العرض. أيها الأخُ المبارك.. أينَ يومُك الذي ستسعد به هل فكرت به؟ هل أدركته أم ليس بعد؟ هل أنت تبحث عنه وتبذل الوسع بطلبه.؟ إن كان جوابك بنعم؛ فتوقَّعْ أن يكون بدمعةٍ في خلوة، أو مخالفةِ هوىً في رغبة، أو في سرورٍ تدخلُه إلى مسلم، أو مسحِ رأسِ يتيم، أو لثمِ قَدَمِ أمٍّ، أو قولِ كلمة حق، أو إغاثةِ ملهوفٍ.
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ"، وفي رواية: "قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".
وعنه -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا، فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ؛ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا قَالَ: فِي كلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ". (رواهما البخاري ومسلم).
أيها الأحبة: هل كانت هذه البغي تعلم أنَّ اليوم الذي سقت فيه كلباً أرهقه العطشُ سيكونُ أسعدَ أيام حياتها، وأن الله -تعالى- سيشكرُ صنيعَها ويغفرُ لها..! وأيضاً هل كان هذا الرجل يعلمُ بأن ساعة السعد التي سيغفرُ الله له بها ستكون بسببِ سقي كلب؟!
أيها الإخوة: وفي ساعة من ساعات السعد الأخرى، ما قَالَه النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِجِذْلِ شَوْكٍ فِي الطَّرِيقِ [والجِذْل: أصل الشجرة] فَقَالَ: لَأُمِيطَنَّ هَذَا الشَّوْكَ عَنِ الطَّرِيقِ أَنْ لَا يَعْقِرَ رَجُلًا مُسْلِمًا" قَالَ: "فَغُفِرَ لَهُ" (روه البخاري في الأدب المفرد وأحمد في المسند واللفظ له وصححه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
ولم يكن هذا الرجلِ كذلك يعلم أنَّ اليومَ الذي أماطَ فيه الشوكَ عن طريق الناس كان أسعدَ أيام حياته وأفضلَها إذ غفَرَ اللهُ له بهذا العمل.
وهل علم هؤلاء أن قَصَصَهم ستروى على لسان الحبيبِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- على مسامع خيرة الخلق من صحابته -رَضيَ اللهُ عَنهُم-، ثم يتناقلها المسلمون جيلاً بعد جيل نقل إطراء واقتداء؟
وهل علموا أن مواقفهم مع شوك وكلب ستُكتب على صفحات أصدق الكتب بعد كتاب الله في الصحيح؟
لا نعرف عنهم شيئاً غير إزالة شوك وسقيا كلب ومغفرة من الرب، مع أن المرأة كانت بغياً..!
سبحانك ربي ما أكرمك رغم بساطة ما نعرفه عنهم من عمل؛ فقد تحقق ذكرهم في كل ما سبق مع مغفرةٍ من رب الأرض والسموات.! فأصبح أسعد أيامهم ذلك اليوم بما تحقق فيه من عمل خاص خفي..
أخي المبارك: سرّح طرفك في سير الأنبياء والصديقين والصالحين ستجد أن أسعد أيامهم يوماً ترفعوا فيه عن معصية أو قدموا فيه بذلاً في سبيل الله مالياً كان أو جسدياً..
لقد كان أسعدُ أيام يوسفَ -عليه الصلاة السلام- ذلك اليوم الذي انتصرَ فيه على داعي الغريزة ووقف في وجه امرأة العزيز لما قَالَتْ لَهُ هَيْتَ لَكَ (..قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف:23]، فترقَّى -عليه الصلاة والسلام- في معارج القُرب، وحظيَ بجائزة (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24].
وكان أسعدُ أيام الذين شهدوا بدرًا يوم اطَّلَعَ الله -تعالى- عَلَيهم فَقَالَ: "اعْمَلُوا مَا شِئْتمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" (متفق عليه)، قال شيخنا: "فتقعُ الذُّنوبُ منهم مغفورة لما حَصَل لهم في الغزوة من الأجرِ العظيم فالثمن مقدم". وقال في موضع آخر: "وهذا من خصائص أهل بدر أن الله غفر لهم ما يفعلون من الذنوب".
أيها الإخوة: وهذا الزُّبَيْرُ بنُ العَوامِ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- يحدّث عن ساعة من ساعات السعد قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُصْعِدِينَ فِي أُحُدٍ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى ظَهْرِهِ لِيَنْهَضَ عَلَى صَخْرَةٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَبَرَكَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ تَحْتَهُ، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى ظَهْرِهِ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الصَّخْرَةِ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: «أَوْجَبَ طَلْحَةُ» (رواه ابن حبان وغيره وحسنه الألباني).
نعم، لقد كان من أسعد أيام طلحةَ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- لما طأطأ ظهرَه، فَبَرَكَ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في يومِ أحُدٍ ليطأَ عَلَى ظَهْرِهِ بقدمه فكان الجزاء مباشرة من رسول الله قال له: "أوجَبَ طلحة" أي الجنة.
إنَّ العبد قد يُكتَبُ له عزُّ الدَّهر وسعادةُ الأبد بموقفٍ يُهيِّئُ اللهُ له فرصتَه، ويُقدِّرّ له أسبابَه، حينما يطلعُ على قلب عبده فيرى فيه قيمةً إيمانيةً أو أخلاقيةً يحبُّها، فتشرقُ بها نفسُه وتنعكسُ على سلوكه بموقفٍ يمثِّلُ نقطةً مضيئةً في مسيرته في الحياة، وفي صحيفة أعماله إذا عُرضت عليه يومَ العرض.
أيها الأخُ المبارك.. أينَ يومُك الذي ستسعد به هل فكرت به؟ هل أدركته أم ليس بعد؟ هل أنت تبحث عنه وتبذل الوسع بطلبه.؟ إن كان جوابك بنعم؛ فتوقَّعْ أن يكون بدمعةٍ في خلوة، أو مخالفةِ هوىً في رغبة، أو في سرورٍ تدخلُه إلى مسلم، أو مسحِ رأسِ يتيم، أو لثمِ قَدَمِ أمٍّ، أو قولِ كلمة حق، أو إغاثةِ ملهوفٍ.
أو نصرةِ مظلومٍ، أو كظمِ غيظٍ، أو إقالةِ عثرة، أو سَترِ عورة، أو سدِّ جَوْعَةٍ... وهكذا فكر واعمل ولا تترد في عملِ خيرٍ ساقَ اللهُ فكرَك إليه، فأنت لا تعلمُ من أين ستأتيكَ ساعةُ السَّعدِ..
أسعد الله أيامكم بطاعته وهيأ لكم سبلها وخصكم بموجبات مغفرته وأسبابِ دخولِ جنته وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: لقد كان أسعدُ أيام من ذكرنا ذلك اليوم الذي قدَّموا فيه بإخلاصٍ أو خفاء.. فأين نحن من هذين العنصرين الأساسيين في صحة العمل وإيجابه لأعلى الرتب..
لقد وقع بعض المسلمين بما خافه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وتهيأت للناس سبله عبر وسائل الاتصال الحديثة لسهولة التعامل معها وارتفاعِ الحرجِ عن العاملِ لتعامله مع جماد، بلا خشية رقيب أو توجيه مرشد أو مقوم، وهي مصيدة من مصائد الشيطان حري بالمسلم أن يتنبه لها حتى لا يقع بسوء عمله.
ومن أهم دروس هذه قصص سقي الكلب وإزالة الشوك أنها لم تروى عمن قام بها فقد عملها ومضى.. ولم ينقلها أحد من الناس علم بها بحينها فرواها فنُقلت..
بل أخبر بها رسول الله عن وحي إلَهِي.. وهذا درس مهم لأولئك المتحدثين بأعمالهم الصالحة.. يقول أحدهم: من جوار الكعبة المشرفة من بيت الله الحرام وفي هذه الساعة المباركة من ساعات الإجابة دعوت لأحبتي بكذا وكذا..!!
ويبعث آخر قبيل الفجر في هذه الساعة المباركة ثم يصف فضلها وحاله ثم دعواته المباركة التي خص به أحداً من الناس..!
ويبعث ثالث بصورة له وهو منهمك في توزيع الماء على عاملي النظافة في حر القيظ!! ورابع يضع صورة العرض واقفاً في الروضة الخضراء بالمسجد النبوي أو بين الحجر والمقام في بيت الله الحرام رافعاً كفيه مبتهلاً!!
وخامسٌ يأتي بصورةِ بئرِ الماءِ الذي تكفَّل بقيمة حفره كوقف خيري لوالده في إحدى مواقع الأقليات الفقيرة مصحوبة بعبارة «يا رب تقبل مني»!!!!
وسادسٌ يكتب لأعضاء المجموعة التي يسمونها القروب في هجيع الليل «يا الله!! ركعتين أديتها قبل قليل تساوي عندي الدنيا وما فيها»!!
وسابعةٌ تصور مكان المصلّى الذي أعدته للصلاة وللقيام في رمضان وتبعثه لقروب الأهل والزميلات!!
أحبتي: يكذبُ على نفسِهِ، قبلَ الناس، من يدَّعي بأنه إنما فعل ذلك من أجلِ تشجيعِ الآخرين لفعل الخير والصلاح!! الناسُ في هذه البلاد بالذات، لا تجهل طريقَ الخير ولا مسالكَ الصلاح.!!
الله وحده هو الذي يعلمُ بالأعمال الخالصة المقصودة لوجهه الكريم وحده لا شريك له.. فالحذر الحذر من داءٍ خطير يجري في خفاءٍ شديدٍ من عبادةِ المتقين لا يعلم به إلا هو سبحانه، إلا وهو الرياء..
ماذا بقي لنا في الحياة إن ضاعت منّا علاقتنا بربنا ودخلها بتسلل خفي «الرياء» الذي تعاظم وتوقد واشتعل على نحو مخيف ومريع بفعل الجوالات الذكية وقنوات التواصل الاجتماعي!! فأفسد طاعاتنا وصلاتنا وصدقاتنا وحقق الله لنا ما نوينا فامتدحنا الناس!!!
«الرياء» الذي أفسد العبادات، ولوث نية الطاعة لله بالمباهاة.
لقد صور رسول الله صورة تسلله في دهاء إلى قلوب الناس ببراعة متناهية.. تأمل قوله حين قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ..»!! (صححه الألباني في صحيح الجامع عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ).
لذلك حذّر منه الرسول، -صلى الله عليه وسلم-، وكان أشد ما يخشاه على أمته: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» فَقَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ، اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً» (رواه أحمد عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه وصححه الألباني في الصحيح الجامع).
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ , وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ أي الرياء وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ" وفي رواية قال: «وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم» (صححه الألباني في صحيح الجامع).