الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عاصم محمد الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
ورثة الأنبياء، تلاميذ علياء، زينة الأرض، وطلاب سماء، كانت أعزُّ أعمارهم، هي التي قضوها في تحصيل العلوم، ورقي الفهوم، كانت أجلُّ مساعيهم، هو السعي للعلم وبالعلم، فما أنبل الساعي وما أنبل المسعى.
سعوا فاستنزلوا الشرف اقتدارا | ولولا السعي لم تكن المساعي |
الخطبة الأولى:
الحمد لله الرحيم الرحمن، علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمَه البيان؛ الحمد لله ذي الطَّوْلِ والإفضال والنعم، سبحانك اللهم خير معلم علمت بالقلم القرون الأولى.
أخرجت هذا العقل من ظلماته | وهديته النور المبين سبيلا |
أرسلت بالتوراة موسى مرشدا | وابن البتول تعلم الإنجيلا |
وفجرت ينبوع البيان محمدا | فسقى الحديث وناول التنزيلا |
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاِ شريك له، شهادةً نُشفَّعُ بها، وتوفَّى بها كفافُنا، وترد بنا نحو الخلود إلى الجنات في أبدٍ، مع النبيين والأبرار والشهداء.
وأشهد أن محمدا بن عبد الله عبدك ورسولك، مشفَّع الخلق يوم الدين إذ عصفت بالناس عاصفة الأحزان والوجل، نفسي فداه، سرى بالناس في نصب، فانجاب بالنور فيهم أوضح السبل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
يا أيها الذين آمنوا: اتَّقُواْ اللّهَ: (وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 282].
(يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].
أما بعد:
الناس ثلاثة: عالم رباني، أو متعلم على سبيل نجاة، أو همج رعاعٌ أتباعُ كل ناعق: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[الزمر: 9].
(أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) الذين تذكروا شرف العلم، ثم تذكروا ضعة الجهل، فتعلموا وعملوا.
(إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) هم الذين تذكروا أن من سلك طريقا يُلتمس فيه علمٌ سهل الله لهم به طريقا إلى الجنة.
(إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) هم الذين تذكروا أن الله -عز وجل- لم يأمر نبيه -عليه الصلاة والسلام- بالاستزادة من شيء كما أمره بالاستزادة من العلم، فاستزادوا منه.
(إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) هم الذين تذكروا أن فضل العالم على غيره كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، فكانوا أقمارَ دجنة، وهالاتِ ظلمة، وسماواتِ ضياء.
قالوا: هم نجم سرى لكنني *** لولا الحرارة قلت: ضوءُ شموس
سلكوا طريق العلم عطشى عزة | فسقاهم منه عِذاب كؤوس |
أي شيء هم؟
هم النجوم التي يسري بها الساري *** من تلق منهم تقل لا قيتُ سيدهم *** فيهم رضا المصطفى فيهم رضا الباري.
ورثة الأنبياء، تلاميذ علياء، زينة الأرض، وطلاب سماء، كانت أعزُّ أعمارهم، هي التي قضوها في تحصيل العلوم، ورقي الفهوم، كانت أجلُّ مساعيهم، هو السعي للعلم وبالعلم، فما أنبل الساعي وما أنبل المسعى.
سعوا فاستنزلوا الشرف اقتدارا | ولولا السعي لم تكن المساعي |
إنهم طلاب العلم.
والعلم زينة أهله بين الورى | سيان فيه أخو الغنى والمعدمُ |
يذهب الناس بالشاة والبعير، ويذهبون هم بشرف الدنيا والآخرة، يذهب الناس بأمجاد موهومة، ويذهبون هم بأمجاد مرسومة، سكن الفخر بها، وبنى في الخلد طوبه هذه "الدنيا ملعونة، وملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما".
ولولا العلم ما شرفت نفوس | ولم تطعم من الجلى طعاما |
كأني بهذه الخطى؛ التي تذهب كل صباح باكر إلى محاضنها العلمية، وقد اعشوشب بها الفرقدان، وتاه بها القمران، أن لا تبلى خطاها.
كأني بهذه الخطى؛ التي ركضت سعيا وراء العلم أن تحيا حياة لا موات بعده أبدا.
إنها خطىً تلتمس علما، ولعل الله قد التمس لها طريقا إلى الجنة، خطىً تسبِّح لصاحبها الحيتانُ في الماء والطيور في السماء، إنها لخطى عظيمة.
إنهم طلاب العلم؛ الذاهبون كل صباح إلى الفلاح، إلى النجاح إلى كل خير لصاحبه.
إنهم طلاب العلم؛ لا فرق بين هذه الكائناتِ التي خلقها الله إلا بما طلبوه
إنهم طلاب العلم؛ حملوا بصدرهم جبال جلالة، واستنزلوا العليا بوحي علوم.
إنهم طلاب العلم.
ما كنت أوْفي قدرهم إلا بما | أوفى به رب العباد إليهم |
إنهم طلاب العلم:
ومداد ما تجري به أقلامهم | أزكى وأفضلُ من دم الشهداءِ |
يا طالبي العلم الشريف عبادة | ما أنتم وسواكمُ بسواءِ |
الله فضلكم وأعلى قدركم | وسما بفضلكم على الجوزاء |
لكم المهابة والجلالة والنهى | جلت فضائلكم عن الإحصاء |
غني هذا المقام عن مدح العلم والعلماء وطلابِه، غنيون في هذا المقام عن ذكر فضل العلم وفضل أربابه، غنيون عن إثبات فضلهم، فالآيات شاهدة على الفضل الكبير.
إنما هي خطرات وفكر، واستلهامات وعبر، ووصايا جامعة، ورسائل نافعة.
يا طالب العلم الشريف خذ الذي | يسديك من سلك اللآلي الأحرفا |
خذها رسائل قد جاءتك مرسلةً | لعلها ترتوي من قلبك الشبم |
يا طالب العلم: خذ زادك من الله بالإخلاص، ففي الإخلاص الخلاص، ولا تغوينك الدنيا فتردى مع الردي، ما وضع الإخلاص على عبادة إلا أنفذها السبع السماوات، ولا عملٍ ديني إلا بلغها الرتب العليا من حضوة القبول عند الله: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي) [الزمر: 14].
يا طالب العلم: إذا قبل الله الرجل، تقبلته الأرض والسماء.
يا طالب العلم: إذا تقبل الله دينك وعبادتك، أتتك الدنيا تجرر أذيالها، ولو لم تجيءْ عند بابك حبا، لزلزلت الأرض زلزالها.
يا طالب العلم: هذه الدنيا، هي خدمٌ لخدَّامِ مراد الله في الأرض، فاخدم مراد الله فيها، لتخدم مراد الله فيك، تطلب رضاه حيثما شئت، تقول بوِّئني ما أردت، فقد ساقني رب العباد لكل من يقدم أمر الله في كل موقف.
يا طلاب العلم في المدارس والمساجد والجامعات: هذه الخطى التي تتركون آثارها كل يوم، هي شهود أمام الله، فإن يك خيرا تغنموه وإن يكن، سواه فيا تعس العلا والمغانم.
يا طلاب العلم: ما بين أعلى الجنان وبين أن تسعر بنا النيرانُ إلا تصحيح نية.
يا طلاب العلم: يقول رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-: "من كانت الدنيا همَّه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيتَه جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
يا طلاب العلم: هذه النية السليمة التي استغْفلَنا الشيطان عنها، هي المحك الدقيق لقبول الأعمال وردها؛ يقول سفيان -رحمه الله-: "ما عالجت شيئا أشدِّ علي من نيتي إنها تتقلب علي".
يا طلاب العلم: يقول يحيى بن أبي كثير: "تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل".
ويقول غيره: "أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر".
يا طالب العلم الشرعي، يا طالب الطب المفيد، يا مهندس المجد في مجاله، وكلكم في مجال السبق أقران.
يا من تحتاجك الأمة في كل ثغر: الأمة تحتاج رجلا حقيقيا، لا رجلاً آليا، رجلاً له قلب ينبض لإعلاء كلمة الله في عمله، لا رجلا ينبض لإعلاء شهوته وحضوته.
نعمت الحضارة التي تبنى على ميثاق ديني ودنيوي، نعمت الحضارة حين تكون أول طوبة لها نية سليمة.
انفذوا يا طلاب العلم إلى كل عالَم بسلطان الإخلاص، انفذوا للحضارات وللمنارات والبقايا الصالحات، وطلابةِ الأمجاد في محرابها.
انفذوها بالإخلاص، انفذوا إلى أقطار العزة والمنعة والإقدام بالإخلاص.
الأمة تحتاج نيتك الصالحة وعزيمتك المخلصة، إنها لا تحتاج خُواء روحيا في جسد صلد.
الأمة -أيها الطالب النبيل-: تحتاج رجلا يحرضه دينه على الإحسان في دنياه، إنها تحتاج عباقرة أرواح كما تحتاج عباقرة عقول وأجساد، فأصلح نيتك تصلح حضاراتُنا، وإذا كان الأول:
وما استعصى على قوم منال | إذا الإقدام كان لهم ركابا |
فنحن نقول:
وما استعصى على قوم منال | إذا الإخلاص كان لهم ركابا |
ما كان لله يبقى، وما كان لغيره يذهب.
الإخلاص الإخلاص، كن لله ما يريد، يكن لك فوق ما تريد.
وانْعَم بإخلاصٍ تفز بخلاص | ما فاز قلب مخلصٌ لمعاصي |
اللهم إنا نستغفرك مما زعمنا أنا قد ابتغينا به وجهك الكريم فخالط قلوبَنا منه ما قد علمت.
أيها الطلاب للفخر الرفيع وللهدى: تعلموا العلم لتُقِيموا به أنفسكم، وتُقِيْموا به أمتَكم، غنيون نحن عن مداخل الشيطان في أعمالنا ونياتنا وتخصصاتنا.
أيها الطلاب للفخر الرفيع وللهدى: كل ثغر علمي هو مما تحتاجه الأمة، وكلما اشتدت حاجة الأمة في ثغر كبر فضل الدخول فيه، فلا ندعُ أيَّ تخصص مشروع بحجة بعده عن التخصص الشرعي، فتعلَّم باسم ربك الذي خلق، وتعلم فربك الذي علَّم بالقلم.
بقوة العلم تقوى شوكة الأمم | فالحكم في الدهر منسوب إلى القلم |
فاعكف على العلم أياًّ كان منهله | تبلغ به شأوك السامي على القمم |
أيها الطلاب للفخر الرفيع وللهدى: املؤوا حضارة الإسلام بحضارة الإسلام، املؤوها، فهذه الحضارة شاملة كاملة قد أَمَرت بتعلم جميع العلوم النافعة من العلم بالتوحيد وأصول الدين والتفقه في الأحكام الفرعية، والتزود من العلوم العربية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والحربية والطبية، وغيرها، هذه الحضارة فخر لمن عمل لها، وإلا تفعلوا يستبدل ربي قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
أيها الطلاب للفخر الرفيع وللهدى: ما بني على باطل فهو باطل، غنيون نحن عن لقم الحرام بالغش، غنيون نحن عنها بما حرم الله، يتعلم طلابنا حقبة من الزمن، ثم يبتز الشيطانُ أحدهم، حتى يوقعه في الغش الحرام، ثم إذا كبُر ونال وظيفته أكل حراما، وشرب حراما، وأطعم أهله من حرام، وكسا أهله من حرام، وغذي بالحرام، فأنى يبتغي النجاح والفلاح؟
يخرج أحد السلف الصالح من منزله، ثم توقفه ابنتُه لتقول له: "يا أبتي، إنا نصبر على الجوع، ولكننا لا نصبر على النار، فاتق الله واطلب لنا الرزق الحلال".
الغش داء يستشري، ومصيبة تشوي، وكلما رق الحبل بين العبد وبين ربه، أوشكت اللقيماتُ الحرام أن تنبت في جسده، وأيما جسد نبت من حرام وسحت فالنار أولى به.
أيها الطلاب للفخر الرفيع وللهدى: ربُّ الرخاء هو رب الشدة، فاعبده في الرخاء يكن لك في الشدة، اجعل بينك وبين الله عملاً لا يعرفه أحد، لتتوسل به إليه عند الحاجات.
إني أيها الكرام: لا زلت أذكر ذلك الرجلَ، ونحن على مقاعد الدراسة، لازلت أذكره ولن أنساه، كيف يُنسى بالله طهر سنيٌّ، كيف يُنسى بالله ذاك البهاء، كيف ينسى وطلعة البدر حيته، وغارت من طلعتيه السماء.
لا زلت أذكره وأنا أستحلفه بالله، وأقولُ له: أيَّ شيء تفوقت به علينا، وأنت لم تتفوق علينا بكبير علم ولا مدارسة ولا مذاكرة.
لا زلت أذكره وهو يراوغني بإجابته، ويفتح أبوابا أخرى للأحاديث الحسان.
لا زلت أذكر أنه لما رأى إصراري وعدم اعتذاري، همس لي وقال: كأني أرى هذا التوفيق يلازمني بخبيئة عمل خبأتها لله.
هكذا إذن..
بهذا اشترى المكرماتِ اللواتي | سكبن عليه الرضا والقبول |
بهذا اشترى فيه توفيقه | سلام الضحى وسلام الأصيل |
يا سعداه بأولاه وأخراه، بهذا اشترى فيه توفيقه، سلام الضحى وسلام الأصيل.
اتقوا الله ويعلمكم الله، والله بكل شيء عليم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ربكم ورب آباءكم الأولين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
إن الطالب والمعلم، صنوانٌ يُسقيان من ماء واحد، وكما سلف في الرسائل عن طلاب المجد والجد والرفعة، فإني أزجي رسائلي لكل معلمٍ نبيل قد استوحش من حاضر أمته، فأراد أن يسبح ضد تيار الضَعة والمسكنة الذي عامت فيه خلائق الأعراب.
إن هذا المعلم إما أن يكون هو حجرُ الزاوية، أو من صناع الهاوية، وما أدراك ماهيه؟!
أيها المعلم العظيم: كدت أن تكون رسولا.
أرأيت أشرف أو أجل من الذي | يبني وينشئ أنفسا وعقولا |
أيها المعلم العظيم: والله لو حَمَلت الجبال على عاتقيك، والبحار على مقلتيك إنه لأهون من هذه الأمانة التي حمِّلتها، أنت لها، أنعم بحاملها وما حملا.
أيها المعلم العظيم: إنهم لم يعلموا أيَّ أمانة تحملها، ولم يعلموا أيَّ مهنة تحترفها، فلم يعرفوا قدرك، واستصغروا ذكرك، لا عليك فلعل الله أن يشرح صدرك، وأن يضع عنك وزرك، وأن يرفع ذكرك.
أيها المعلم العظيم: أتحسب أن مقامك لا نعرفه، بل نذكره ولا نكفره، أتحسب أن لك مقاما كمقاماتهم، كلا والله، فأنت صانع الخيرية، ومن خير البرية.
أيها المعلم العظيم: والله لتجدن نفعك ولو بعد حين، فإن همشوك فلا عليك، نحن نعرفك، وتعرف نفسك، وإن أجفلوا عنك فإنا هاهنا قاعدون.
أنت أنت..
إذا ذُكرت نجوم الأفق يوما | فأنت لها -وإن كرهوا- السماءُ |
وإن ذكرت فضاء الله يوما | فمن علياك يصطنع الفضاءُ |
أيها المعلم العظيم: لقد ارتقيت مرتقى صعبا، منيعا شامخا باذخا.
تذكر أنك تحمل في يدك سكينا لها حدان، فإما أن تغرزها في تلاميذك أو تغرزها في جهلهم، وإني سألتك بالله إلا غرزتها في جهلهم.
أيها المعلم العظيم: نحن نعلم أنك تعرف القصة الشهيرة عن رئيس وزراء اليابان، حين سئل عن سر التطور التقني في بلاد اليابان، فأجاب: أعطينا المعلم راتب الوزير، وحصانة الدبلوماسي، وجلال الإمبراطور.
لا عليك -أيها الكريم- أن لم تكن ذاك، فإن لم يكن لك من صالح هذه الدنيا، فإن الله قد ادخر لك صالح الآخرة.
لا عليك، من حظوظ تذهب وتزول، ويبقى نفعك ما شاء الله أن يبقى
إنا نحفظ وتحفظ -أيها المعلم العظيم- قول نبي الهدى -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملةِ في حجرها وحتى الحوتِ في الماء ليصلون على معلم الناس الخير" فدونك هذه البشرى، ودونك هذه الذكرى، وربك يبتلى قوما، وقد ينعم بالبلوى.
أمعلّمي الوادي وساسةَ نشئهِ | والطابعين شبابَه المأمولا |
والحاملينَ إذا دُعوا ليعلِّموا | عبءَ الأمانةِ فادحاً مسؤولاً |
اتقوا الله في طلابكم، ورعاياكم، فما من راع إلا ومسؤول عن رعيته، أنتم تجلسون على عروش ممالك، رعاياها أولاد المسلمين.
علموا فتيانكم طرق الهدى | أرشدوهم للمعالي أبدا |
أيها المعلم العظيم: لا يؤسنك خمول أهل الزمان، أو بُعد المكان، ألا تُشعل في هذه الأجيال شمعةً، فشمعتك بيدك أنت من توقدها، وأنت من تطفئها.
أيها المعلم العظيم: بالله ثم بك الأمل، اصنع القيم، واغرس الشيم، وانشر الهدى، تبتني القمم.
أيها المعلم العظيم: هذه الأجيال عطشى قيم، عطشى شجاعة، عطشى عزة، عطشى معان تسقيهم بها، فتجعل منهم بروجا مشيدة من السؤدد والفخار.
أيها المعلم العظيم: بداية المليون ميل، منك أنت، فأقصر أو أقبل.
ها نحن نراك وأنت تقود الأجيال بعصاً رقيقة، اتق الله فينا واصنع من عصاك سيفا تهشِّم فيه أقحاف الجهالة والردى.
أيها المعلم العظيم: لم ننسك، ولن ننساك.
أيها المعلم العظيم: بالله أنسيت بعض الذين علموك إذ كنت صغيرا، أما إنك لم تنسهم، ونحن لن ننساهم، مر على مدارسنا وعلينا عشراتُ المعلمين، والله إننا لن ننس الذين أصلحوا سبيلنا، ونصبوا وتعبوا دون غيرهم لإرشادنا، وتعليمنا.
البر لا يبلى -أيها المعلم العظيم-.
ومن يفعل الخير لا يعدَم جوازيه | لا يذهب العرف بين الله والناس |
فجزاهم الله عنا خير الجزاء.
أيها المعلم العظيم: أيَّا كان تخصصك وتعليمك، فإنه لن تعدم من كلمة خير تهديها لطلابك، وتبث بها لهم نصحا مشفقا، وقلبا خافقا.
أيها المعلم العظيم: الطالب الذي ينفع الله به الأمة، سيمر على يديك، فأحسن استقباله، ولا تحتقر أحدا، فالصغير يكبر، والجاهل يتعلم، والغافل يتذكر.
أيها المعلم العظيم: الطالب الذي ينفع الله به الأمة سيمر على يديك، فأيهما أحب إليك، أن تكون غرست فيه ما يكون لك أجرُه، أو يكونُ لك وزرُه.
أوفى الله جزاء من علمني خيرا، اللهم أوف لكل من علمني خيرا، أجر هذه الخطبة إن كتبت قبولها.
أتظنون أن معلمَ الخير يبلى عطاؤه أو يُمحى خيره؟!
كلا.
سلام على من علم الناس قيمة | تشع بهم كالبدر في ظلمة الليل |
سلام عليهم، كلما لاح بارق | وهتكت الأستار من سدفة الجهل |
أيها المعلم العظيم: إياك والبغضاءَ والشحناءَ، إياك وظلم الناس، اتق الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، ورب ظلمٍ دمر مستقبلا، أو رفع يدا تدعو على ظالمها بعدم التوفيق.
لا تفرق بين طلابك في حقوقهم، واعرف الفروق بين مواهبهم، وأحسن استغلالها، إن هذا الإبداع لا حدود له، فلا تحدَّ عطايا الله في أنفسهم.
أيها المعلم العظيم: لا يصبك إحباط بواقعٍ تعليمي تعيشه، اصنع واقعك بنفسك، ولا تشتم البيئة أو تدعيَ أنها أرضُ ليست صالحة، بل ازرع، فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، أما الذي خَبُث فلا يخرج إلا نكدا.
أيها المعلم: كن قدوة حسنة، و رمز عطاء ونماء، انتشل طلابك من هذه الغثائية، وأكسبهم كل خُلة جميلة، وخصلة مليحة، فالذي يخرج منك يدخل في طلابك، أنت والدهم.
وينشئ ناشئ الفتيان فينا | على ما كان عوده أبوه |
أيها المعلم العظيم: لا تقل قد اكتفيتُ من الزاد، بل زد نفسك من العلم، ثم أفض على طلابك.
والعلم لا يكتفي منه أخو ثقة | وليس فيه لأهل العشق إرواء |
الرسالة الثالثة والأخيرة: لمن أمره الله أن يقي نفسه وأهليه نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد، إلى أولياء الأمر: ليس أداء الأمانة بمطعوم ولا مشروب، ولا ملبوس، بل إنها مرحلة تالية بعد أداء أمانة القيمة والدين والعلم، لم يقل رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- في حديث الفطرة الشهير: فأبواه يطعمانه أو يجيعانه أو يظمئانه، بل قال: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فأحيوا فطرة الله في قلوب الرعية: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)[الروم: 30].
أيها الولي: إنك لا تهدي من أحببت، ولكنك تدل إلى الطريق من أحببت، ووالله إنه لا عذر لوليٍ أن يقطع حبال المواثيق في رعيته، ومن قطعها جاءته يوم القيامة وهي لفائفٌ على عنقه، جزاء وفاقاً.
أيها الولي: على المجتمع نصيب أو كفل منك، لا يصح أن تُخرج من صلبك أولادا حظهم منك الشم والتقبيل، ثم ماذا؟ أعرفت حقهم الله فيهم، يولدون، ثم إذا بلغوا سن العلم، كانوا عالة على مجتمعهم، ومعلميهم، وعليك، وقد علمت في قرارة نفسك أنك أنت السبب وأنك كلبة القوم التي جنت بنباحها على نفسها.
أيها الولي: إن هذا المجتمع لم يطلب منك عسيرا، بل يطلب يسيرا، جرعة ثقة، وجرعة مراقبة، وتربية نظيفة، وصحبة صالحة، ودعاء صادقا، وصلاحا في نفسك: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)[الكهف: 82].
إن هذا المجتمع، لم يطلب منك أن تكون كأصحاب الأساطير في تربية أولادهم، لم يطلب منك تربية الزبير، ولا حزم الفاروق، ولا حرص والدة الإمام أحمد، ولا شجاعة صفية، يطلب منك بذل الخير، وإلا يكن، فتدع وأولادُك الشر، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك.
أيها الولي: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 28].
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: 46].
اللهم صل وسلم...