الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
في كل نُسُكٍ من مناسِك الحجِّ، وفي كل شعيرةٍ من شعائِره تتجلَّى العبوديَّةُ لله في أوضَح صُورها، ويتبدَّى أثرُها ظاهرًا، ومعالِمُها بارِزة، في أداء هذه الشعائِر من تجرُّدٍ عن الثيابِ، وحسرٍ عن الرُّؤوس، وفي الطواف بهذا البيت، واستِلام رُكنِه، وتقبيل الحجَر الأسود، وفي السعيِ بين الصفا والمروة، وفي الوُقوف بعرفةَ، والمَبيت بمُزدلِفة ومِنَى، وفي رميِ الجِمار، والذَّبح أو النَّحر.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك القدُّوس السلام، أحمده -سبحانه- على نِعمه وآلائِه العِظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شرعَ الحجَّ إلى بيته وجعلَه فريضةً من فرائض الإسلام، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من صلَّى وزكَّى وصام، ووقفَ بعرفةَ والمشعر الحرام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه الأئمة الأبرار الأعلام، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واذكُروا أنكم مُلاقوه (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [النبأ: 40]، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34- 37].
أيها المسلمون: في كل نُسُكٍ من مناسِك الحجِّ، وفي كل شعيرةٍ من شعائِره تتجلَّى العبوديَّةُ لله في أوضَح صُورها، ويتبدَّى أثرُها ظاهرًا، ومعالِمُها بارِزة، في أداء هذه الشعائِر من تجرُّدٍ عن الثيابِ، وحسرٍ عن الرُّؤوس، وفي الطواف بهذا البيت، واستِلام رُكنِه، وتقبيل الحجَر الأسود، وفي السعيِ بين الصفا والمروة، وفي الوُقوف بعرفةَ، والمَبيت بمُزدلِفة ومِنَى، وفي رميِ الجِمار، والذَّبح أو النَّحر.
في كل ذلك مظهرٌ للعبودية الخالِصة لله رب العالمين بإفرادِه -سبحانه- بالعبادة التي هي غايةُ خلقِ العباد، كما قال -سبحانه-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
وفيه أيضًا: تذكيرٌ بمواقِف العبد في الدار الآخرة، هذا التذكيرُ يبعثُ على كمال الإيمان بها -أي: بالدار الآخرة-، وضرورة الاستِعداد لها، وعدم الغفلة عنها بالاشتغال بزَهرة الحياة الدنيا، والاغتِرار بزينَتها وزُخرُفها.
وهذا يستلزِمُ الإحسانَ في أدائِه بالتِزامِ أقوَم السُّبُل المُوصِلة إلى الغاية من رِضوان الله، والظَّفَر بكريم جزائِه، ذلك الجزاءُ الضَّافِي الذي أخبرَ به رسولُ الهُدى -صلوات الله وسلامُه عليه- بقوله: "العُمرةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة". أخرجه الشيخان في صحيحيهما.
ونِعمتِ الجنةُ دارُ كرامة الله، ومأوَى الأبرار لعبادِه جزاءً لمن حجَّ حجًّا مبرورًا، وكان بإحسانِه ممن عنَى اللهُ بقولِه: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس: 26].
وإن السَّبيلَ الذي يتعيَّن على العبدِ التِزامُه، وعدم الحَيدة عنه ليحظَى بهذا الموعود، ويظفَر بهذا الجزاء، منها: ما أفصحَت عنه الآيةُ الكريمة: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197]، وأوضحَه النبي -صلوات الله وسلامه عليه- بقولِه: "من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ من ذنوبِه كما ولدَتْه أمُّه". أخرجه الشيخان في صحيحيهما.
ويشملُ الرّفَثُ: غِشيانَ النساء، وما يتعلَّقُ به.
ويشملُ الفسوقُ: كلَّ المعاصِي على اختلافِها، سواءٌ منها ما كان بالقلبِ كالشركِ بالله، والنفاق، وسائر القَبيح من الأعمال التي يكونُ مصدرُها القلب، أو كانت بالجوارِح كاللَّعن، والشَّتم، والقذف، والعُدوان، وسائر المحظُورات التي حُظِرت على الحاجِّ أثناء تلبُّسِه بإحرامِه.
ومنها: الأخذُ بنصيبٍ من أعمال البرِّ بالإحسان إلى الفُقراء واليتامَى والأرامِل، ودعمِ المُؤسَّسات الخيرية وإمدادها بكلِّ ألوان المَعونة التي تُمكِّنُها من أداء ما تصبُو إليه من أعمالٍ تطوُّعيَّةٍ جليلةٍ. فإن هذا من النَّفَقة في الحجِّ والعُمرة التي يُؤجَرُ عليها المُنفِق، كما جاء في الصحيحين وغيرهما عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها في عُمرتها: "إنَّ لكِ من الأجرِ على قَدر نصَبِكِ أو نفَقَتكِ".
وفي روايةٍ للحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيحٍ بلفظ: "إنَّما أجرُكِ في عُمرتكِ على قدرِ نفَقَتِكِ".
ومنها: اختيارُ الحلال من الكَسبِ، والتزوُّد به في هذا الوجه لأداء هذه الفريضةِ المُعظَّمة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبَلُ إلا طيِّبًا، وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ بهِ المُرسَلِين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: 51]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172]. ثم ذكرَ الرُّجَل يُطيلُ السَّفَر أشعثَ أغبَرَ يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ! ومطعمُه حرام، ومشرَبُه حرام، وغُذِيَ بالحرام؛ فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!".
وللحاجِّ في كل خطوةٍ من خطواته، وفي كل شوطٍ من أشواط رحلته منذ أن يبرَحَ بيتَه ويُفارِق وطنَه حتى يقضِيَ مناسِكَه، ويختِم أعمالَ حجِّه، له في كل ذلك مواقِفُ دعاءٍ وتضرُّعٍ وذِكرٍ يقتضِي منه أن يُطيِّبَ كسبَه، وأن تزكُو نفَقَتُه.
ومنها: الإخلاصُ لله – تعالى - في كل ما يعملُ من عملٍ، وتحرِّي الإتيانِ به على الوجهِ المشروعِ السَّالِم من الابتِداع، كما قال الفُضيلُ بن عِياض -رحمه الله- في قوله -سبحانه-: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2]، قال: "إنَّ العملَ إذا كان خالِصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالِصًا لم يُقبَل، حتى يكون خالِصًا صوابًا. والخالِصُ أن يكون لله، والصوابُ ما كان على السنَّة".
ومن الإخلاصِ لله -يا عباد الله-: ألا يقصِدَ الحاجُّ بحجِّه الفخرَ والرِّياءَ والسُّمعة، وأن يُنادَى بـ"الحاجِّ" حين يعودُ من حجِّه، جاء في الحديثِ القُدسيِّ الذي يَروِيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربِّه: "أنا أغنَى الشُّركاءِ عن الشِّركِ، من عمِلَ عملاً أشركَ معِيَ فيه غيري تركتُهُ وشِركَه". أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ومن الإخلاصِ لله أيضًا: ألا يتغالَى الحاجُّ في لِباسِ إحرامِه، أو في مركَبِه، أو في مقرِّ إقامَته؛ فإنه خرجَ ابتِغاءَ رِضوانِ الله ورجاءَ ثوابِه، ولم يخرُج فخرًا ولا خُيَلاء ولا لمُباهاةِ غيرِه من حُجَّاج بيت الله الحرام.
وليكُن له في هديِ خيرِ الورَى -صلوات الله وسلامه عليه- الأُسوةُ الحسَنَة؛ فقد أخرج الإمام الترمذيُّ في الشمائل، وابن ماجه في سننه بإسنادٍ صحيحٍ بشواهِده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: حجَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على رحلٍ رثٍّ، وقطيفةٍ خلِقَةٍ تُساوِي أربعةَ دراهِم -أو لا تُساوِي-، ثم قال: "اللهمَّ حجَّةً لا رِياءَ فيها ولا سُمعة". أي: اللهم اجعَلها حجَّةً لا رِياءَ فيها ولا سُمعَة.
وأما وجوبُ أن يكون العملُ على الوجهِ المشروع، وهو ما كان مُوافقًا لسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد جاء به القرآنُ، وجعلَه أساسًا لصحَّة الاتِّباع، وسببًا لمحبَّة الله، وطريقًا إلى غُفران الذُّنوبِ؛ فقال -عز وجل-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].
فعلى حاجِّ بيت الله أن يتحرَّى السُّنَّةَ في كل عملٍ من أعمال حجِّه منذ أن يخرُج من بلَدِه حتى يرجِعَ إليه، بأن يضعَ نُصبَ عينيه ما صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- في صفَةِ حجَّة الوداع، كحديثِ جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- الذي أخرجه مسلم في الصحيح.
وأن يتَّخِذ منها منارًا يهتدِي به، ومِشعلاً يُضيءُ له الطريق. وتلك هي الحكمةُ البالغةُ من هذه الحجَّة العظيمة، والمنسَكِ الجليل.
وصدقَ -سبحانه- إذ يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله، وارضَ اللهم عن أصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد جمعَ الله تعالى لهذه الفريضة حُرمَتَين لا تنفكُّ عنهما، هما: حُرمةُ الزَّمان وحُرمةُ المكان؛ وذلك -كما قال بعضُ أهل العلم- ليقوَى الشُّعورُ بحُرمةِ هذا الرُّكن العظيم، وليكون الحاجُّ في جميع تنقُّلاته وحركَاته وسكَنَاته مُرهَف الحِسِّ، حاضِرَ الفِكر، لا يذهَلُ لحظةً عن هذا الجوِّ المُحيطِ به.
وقد ضمَّ إلى ذلك حُرمةَ الإحرام، وشرعَ له أحاكمًا وآدابًا خاصَّةً، تحقيقًا للتذلُّل وتركِ الزينة والتشعُّث، وتنويهًا لاستِشعار خوفِ الله وتعظيمِه، ومُؤاخَذَة نفسِه ألا تسترسِلَ في هواهَا.
وقد أسبَغَت هذه التشريعاتُ وهذه الأحكامُ التي تتصِلُ بالقلبِ والجوارِح والقصدِ والعملِ والزمان والمكان على الحجِّ لباسًا من الطُّهر والتورُّع والتقشُّف، والمُراقبة لله تعالى، والمُحاسَبة للنفس والجِهاد، لا يُشارِكُه فيه ما يُماثِلُه أو يدخلُ في موضوعِه.
وكانت له لذلك آثارٌ عميقةٌ في النَّفسِ والأخلاق، يتحقَّقُ معها قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ من ذنوبِه كما ولَدَته أمُّه".
فاتَّقوا الله -عباد الله-، واعرِفوا لهذه الفريضةِ المُكرَّمة قدرَها، واعمَلوا على الإتيانِ بها كما أرادَ الله بإخلاصٍ لله، ومُتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
واذكرُوا على الدَّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خاتَم النبيين، وإمام المُرسَلين، ورحمة الله للعالَمين، فقال في الكتاب المُبين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوبِ المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ يا رب العالمين.