الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | رشيد بن إبراهيم بو عافية |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
التفاصيلُ طويلةٌ جدًّا، ولبُّ القول -معشر الأحباب-: إيّاكم والانخداعُ بالإعلامِ المضلّل الذي يشوّهُ الحقائقَ، ويزيّنُ الأباطيل. الإعلامُ في الأصلِ لا ينبغي أن يتجاوزَ قدرَهُ في نشر الثقافة بين الناسِ، وإيصالِ المعلوماتِ والأخبارِ المفيدَةِ، بكلّ مِهنيّةٍ وصدق. هذا الكلامُ انتهى -أيها الأحبابُ- منذ زمن، حين تجاوزَ الإعلامُ مهمّتَهُ الأساسيّة فصارَ السلطةَ الأُولى على...
الخطبة الأولى:
معشر المؤمنين: وسائل المجرمين في محاربة الوعي وتشويهه وتزييفه كثيرةٌ متعدّدة، والهدفُ بطبيعة الحال واحدٌ في كل زمان: منعُ الجماهيرِ من أن يكونَ الوعيُ الصحيحُ قائدًا موجّهًا، صانعًا لعقولِهم، ونفوسِهِم وأوضاعِهِم وقناعاتِهم، وهذا منهجُ المجرمِينَ في كل زمان.
ولعلّ من أقدمَ وأشرسِ هذه الوسائل في محاربةِ الوعيِ وتزييفِه: الحربُ الإعلاميّةُ التي تُسَخَّرُ فيها الكلماتُ والمعلومَات، والصورُ والأخبارُ؛ بطريقةٍ ماكرةٍ خبيثةٍ تؤثرُ على عقولِ الناسِ وآرائِهِم وقناعاتِهِم وفقَ ما يريدُهُ الباطلُ، ويحقّقُ له المصلحةَ في الوجود والاستمرار، حربٌ قامَت بها قريش في سالف الزمان، بل مارسَها ويمارسُها كل أعداء الأنبياء والرسل -عليهم السلام-.
لنا اليومَ -معشر المؤمنين-: وقفةُ وعي مع هذه الوسيلةِ الآثمةِ الظالِمَة؛ الحرب الإعلاميّة على الوعي بشكل عام، والتي صارت بِحُكمِ انتشار وسائل الإعلامِ، وقوّةِ المؤسّسات التي تديرُها، وتنفقُ عليها، صارت يخفَى حالُها على كثيرٍ من البسطاءِ، وينخدعُ بها كثيرٌ من العامّةِ، بل والخاصّة.
من أساليب الإعلامِ الماكرةِ في الكيدِ للوعي وتزييفه: إظهارُ المنطقِ الواحدِ، والرأيِ الواحدِ، والفكرةِ الواحدةِ، وفرضِها على عيونِ الناسِ، وآذانِهِم وعقولِهِم، ودعمِ ذلك بكلّ صنوفِ التزيينِ والمكرِ والخديعة.
وهذا أسلوبٌ قامَ به فرعونُ لمّا انتشرت دعوةُ موسَى -عليه السلام- في مصر، وخشيَ أن تصنعَ دعوتُهُ العقولَ والنفوسَ والقناعات، وتؤثّرُ على الآراءِ والمعتقدات.
انظروا -معشر المؤمنين-: كيف تصرّفَ فرعونُ حينَ عرضَ موسَى دعوتَهُ على الناس، وانضمّ إلى ذلك قناةٌ إعلاميّةٌ أخرى من مؤمنٍ يكتمُ إيمانَهُ خاطبَ الناسَ بكلّ قوّةٍ في الإقناعِ والتأثير.
اسمعوا ماذا قال؟ (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا)[غافر: 28-29].
هذه الرسالة الإعلاميّةُ الإقناعيّةُ القويّةُ المُجلجِلَة جعلت فرعونَ في خطر، فلا بُدّ أن يغلقَ كلّ قناةٍ يمكنُ أن تصنعَ عقولَ النّاسِ، وتبثُّ الوعيَ فيهم، فأعلنَها صريحةً مدوّيّةً، قال الله -تعالى-: (قَالَ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد)[غافر: 29].
هذه هي النظريّةُ الإعلاميّةُ الفرعونيّة الآثِمَة، لا ينبغي أن تسمعَ الآذانُ، أو ترى العيونُ، أو تدرِكَ العقولُ إلاّ ما يريدُهُ شخصُ الفرعون، وما يحقّقُ له المصلحةَ في البقاءِ والاستمرار.
لا يزالُ هذا الأسلوبُ مستمرًّا في الإعلامِ ما استمرّ صراعٌ بين الحقّ والباطل.
معشر المؤمنين: ومن أساليبِ الإعلامِ في الكيدِ للوعيِ وتزييفه: إيهامُ العقولِ، واستغفالُ الجماهيرِ بأنّ أهلَ الحقّ إنّما هم مفسِدُون ضالّونَ مُضِلُّون، وأنّنا نخافُ عليكم منهم أن يفسِدوا دينَكم، وأن يُظهرُوا في الأرضِ الفساد، ثمّ يتمّ توظيفُ ما أمكنَ من الصورِ والأخبار والتكرار والتزييف والتحريف والقصّ واللصق لدعمِ هذه الفكرةِ وترسيخِها في وعيِ البسطاء.
هذا العملُ الإعلاميُّ الخبيث الآثِمُ قامَ به فرعونُ في القديم يومَ جاءَ موسَى قومَهُ بالحق، قال ربّنا -سبحانه-: (فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَال)[غافر: 25].
فها هنا -معشر المؤمنين- إشكالٌ كبير سيقومُ به فرعون؛ إنه القتلُ والإرهابُ والحرقُ والتدمير، وهذا قد يستثيرُ الرأيَ العامّ للنّاس، فلا بُدّ من حربٍ إعلاميّةٍ يغطّي بها هذه المجازِرَ الظالمةِ الآثِمة، قال الله -تعالى-: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26].
ولكم أن تتصوّروا -معشر المؤمنين- كيفَ يعيدُ التاريخُ نفسَهُ بنفسِ اللهجةِ، ونفسِ الخطاب؛ فرعون يخافُ على دين النّاس ويكرهُ الفساد! فرعونُ يُقسِمُ بالله ويزعمُ التديُّن! يا لَلعجب.
وانظروا -معشر المؤمنين-: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى).
وهل هناكَ من يملكُ أن يمنعَ فرعونَ من قتل موسَى والضعفاءَ من المؤمنين، حتّى يطلبَ فرعونُ التفويضَ من الشعب؟!
أبدًا؛ ولكنّهُ المكرُ والدّهاءُ الإعلاميُّ الذي يجعلُ لفرعونَ غطاءً شعبيًّا في ممارسةِ القتل والإرهاب والحرقِ والتدمير.
وللأسف لا يزالُ هذا الأسلوبُ مستمرًّا في الإعلامِ ما استمرّ صراعٌ بين الحقّ والباطل.
نسأل الله السلامة والعافية التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
معشر المؤمنين: الإعلامُ اليومَ تجاوزَ مهمّتَهُ الأساسيّة، فصارَ السلطةَ الأُولى على التحقيق لا الرابعة، يصنعُ الخبرَ كما يريد، ويوجّهُ العقول، ويفسِدُ باتباع أساليب تأثيريّة إقناعيّة ماكرة، مدروسة بإحكام، يشرفُ عليها خبراء علم نفس واجتماع، وفن وسياسة واستراتيجية، يفعلُ كلّ ذلك وفقَ ما يحقّقُ المصلحةَ للجهةِ المالكةِ للبقاءِ، والنفوذ والاستمرار والاحتلال.
لم يعُد الإعلامُ اليومَ في حربِهِ للحقّ وتخريبه للوعي يسيرُ كما كان في زمنِ فرعون وقريش.
الهدفُ واحدٌ نعم؛ ولكن الوسائلُ اليومَ صارت شَرِسةً رهيبةً، تؤثّرُ في الخواصّ والدارسين، فضلاً عن العوامّ والأمّيّين.
تقريبًا آلاف الوسائل الإقناعية المتّبعةُ اليوم في الإعلام، تسعى للوصول إلى النصف الأيمن الخيالي للمُخ، لمناشدته ومخادعته بالكلمة والصورة، والمقطع والصوت المدروس، ليتلهّى النصفُ الأيسر المنطقي عن الحقيقةِ التي تريدُها الرسالة الإعلاميّة الغازِيَة، فينتقل المتحكّم بالإعلامِ بالشخص المراد التأثير عليه من حالة الوعي التام beta إلى حالة وعي بديل مصنوع alpha، وهي حالة يمكن قياسها بواسطة أجهزة رسم الدماغ!.
ينطبق هذا الكلام على المسلسل كما الفيلم كما نشرة الأخبار كما الرسوم المتحرّكة، بل واللحظة الإشهارية والألوان، والثياب والأصوات، وكل شيء.
التفاصيلُ طويلةٌ جدًّا، ولبُّ القول -معشر الأحباب-: إيّاكم والانخداعُ بالإعلامِ المضلّل الذي يشوّهُ الحقائقَ، ويزيّنُ الأباطيل.
الإعلامُ في الأصلِ لا ينبغي أن يتجاوزَ قدرَهُ في نشر الثقافة بين الناسِ، وإيصالِ المعلوماتِ والأخبارِ المفيدَةِ، بكلّ مِهنيّةٍ وصدق.
هذا الكلامُ انتهى -أيها الأحبابُ- منذ زمن، حين تجاوزَ الإعلامُ مهمّتَهُ الأساسيّة فصارَ السلطةَ الأُولى على التحقيق لا الرابعة.
إيّاكُم -معشر المؤمنين-: أن تثِقُوا في كلّ ما يقولهُ الإعلامُ، أو ينقُلُهُ، أو يصوّرُه، أو يحلّلُه، فقد كثُرَ الفِسقُ والفجور، والتحريفُ والتزييف، وخلفَ كلّ ذلك برامجُ ومؤسّسات ولوبيّات، والله -سبحانه- أدّبَنا، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين) [الحجرات: 06].
إيّاكُم أن تعطُوا الإعلامَ أكثرَ من حقّه سماعًا، أو مشاهدةً ومتابعة، فإنّ أكثرَ ما يُبَثُّ لا حاجةَ إليه، وما تدعو إليه الحاجةُ المحتاجون إليه على الحقيقةِ قليلون، وهم يمكنُهُم الحصولُ عليه من المصادر الموثوقة التي يُدركونَها بناءً على الخبرةِ والدراسةِ والممارسة.
نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.