الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
واليوم، بمشيئة الله وحوله، سنتحدث عن علاقة الإنسان بالملائكة، ونرى كيف أن لهذا الخلق الطاهر علاقة وثيقة بالإنسان منذ أن كان نطفة في رحم أمه، إلى أن يولد وينمو ويشب ويترعرع ويشيب ويهرم ويموت، ثم في البرزخ، ثم في يوم القيامة، وإلى أن يستقر: إما في الجنة أو النار.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ومن خشيته تسيل العبرات، وبأمره قامت الأرض والسموات، وصلح عليه أمر الحياة والممات، أحمده حمد الشاكرين، وأذكره ذكر الكرام المطهرين، وأتوب إليه توبة المقرين النادمين.
وأصلى على رسوله الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الغر الميامين، وعلى من سار على دربه، واتبع سنته، ونصر شريعته إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإخواني بتقوى العلى العظيم، كما أمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: تكلمنا في خطبة سابقة عن فقه خَلق الملائكة، هذا الخلق الطاهر المطهر النقي الذي خلقه الله -عز وجل- للعبادة والطاعة وتنفيذ أوامر الله -عز وجل-، وقد تطرقنا في الخطبة السابقة عن أصل خلق الملائكة وأهم خصائصهم وقدراتهم وأهم عبادتهم لله -عز وجل-.
واليوم، بمشيئة الله وحوله، سنتحدث عن علاقة الإنسان بالملائكة، ونرى كيف أن لهذا الخلق الطاهر علاقة وثيقة بالإنسان منذ أن كان نطفة في رحم أمه، إلى أن يولد وينمو ويشب ويترعرع ويشيب ويهرم ويموت، ثم في البرزخ، ثم في يوم القيامة، وإلى أن يستقر: إما في الجنة أو النار.
عباد الله: إن العلاقة بين الملائكة وبني آدم تبدأ من قبل خلق بني آدم، فعندما أراد الله -سبحانه- أن يخلق آدم أعلم ملائكته بمراده، فسألوه عن الحكمة من وراء ذلك؛ لأنهم علموا أنه سيقع من بني آدم إفساد، وسفك دماء، وعصيان، وكفر، فأخبرهم -سبحانه- أن من وراء خلقه لآدم حِكَماً لا يعلمونها: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30].
وأمر الله ملائكته بالسجود لآدم حين يتمّ خلقه، وتنفخ فيه الروح: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص:71-72].
وقد استجابوا لأمر الله، إلا إبليس: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [ص:73-74].
ولأن الملائكة قد فطرهم الله -تعالى- على الطاعة الكاملة وتنفيذ الأوامر، فقد سخرهم الله -عز وجل- في تسيير شؤون بني آدم وتيسير معايشه.
وعندما توفي آدم -عليه السلام- لم يعرف أولاده ماذا يصنعون، فأعلمتهم الملائكة، كما في حديث أبيّ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لما توفي آدم غسلته الملائكة بالماء وتراً، وألحدوا له، وقالوا: هذه سنة آدم في ولده" رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين.
وقد ثبت أن الملائكة غسلت شهيداً من هذه الأمة هو "حنظلة بن أبي عامر" -رضي الله عنه-، الذي استشهد في معركة أحد، فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بعد مقتل حنظلة: "إنّ صاحبكم تغسله الملائكة، يعني حنظلة"، فسأل الصحابة زوجته، فقالت: إنّه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لذلك غسلته الملائكة" سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها.
ومن أهم الأعمال التي يقوم بها الملائكة مع بني آدم عموما ما يلي:
أولا: توجيه الملائكة لآدم: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحيّة ذريتك، فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله"، فزادوه: ورحمة الله. رواه مسلم. فهم -أي الملائكة- قد أرشدوه إلى فاتحة الكلام ومنتهاه ولُبه؛ وهو السلام.
ثانيا: دورهم في تكوين الإنسان: فقد روى أبو ذر، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا مرّ بالنطفة اثنان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجِلدها ولحمها وعظامها، ثمّ قال: أي ربّ: أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك" رواه مسلم.
وعن ابن مسعود، قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق قال: حدَّثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو الصادقُ المصدوقُ: "إنَّ أحدَكم يُجمَعُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا، ثم يكونُ عَلَقَةً مِثلَ ذلك، ثم يكونُ مُضغَةً مِثلَ ذلك، ثم يَبعَثُ اللهُ إليه ملَكًا بأربعِ كلماتٍ، فيكتُبُ عملَه، وأجلَه، ورِزقَه، وشقِيٌّ أم سعيدٌ، ثم يُنفَخُ فيه الرُّوحُ" متفق عليه.
ثالثا: تحريك بواعث الخير في نفوس العباد: فوكّل الله بكل إنسان قريناً من الملائكة، وقريناً من الجنّ، فعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" ما منكم من أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة"، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" رواه مسلم.
وقرين الإنسان من الملائكة وقرينه من الجنّ يتعاوران الإنسان، هذا يأمره بالشر ويرغبه فيه، وذاك يحثه على الخير ويرغبه فيه: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، ثُمَّ قَرَأَ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ) [البقرة: 268] الآيَةَ".
رابعا: تسجيل الحسنات والسيئات: فالملائكة موكلون بحفظ أعمال بني آدم من خير وشرّ، وهؤلاء هم المعنيون بقوله -تعالى-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12]، وقد وكل الله بكل إنسان ملكين حاضرين، لا يفارقانه، يحصيان عليه أعماله وأقواله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:16-18]، ومعنى قعيد، أي: مترصد، ورقيب عتيد، أي: مراقب معد لذلك لا يترك كلمة تفلت، والظاهر أن الملائكة الموكلة بالإنسان تكتب كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال وأقوال، لا يتركون شيئاً؛ للآية السابقة.
هذا عن علاقة الملائكة ببني آدم عموما مؤمنهم وكافرهم، ثم إن هذه العلاقة تتمايز بين المؤمنين والكافرين والمجرمين في عدة نقاط هامة.
فأما عن أهم ما يميز علاقة الملائكة بعباد الله المؤمنين فهو:
أولا: محبتهم للمؤمنين: فقد روى أبو هريرة، -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل. فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحبّ فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثمّ يوضع له القبول في الأرض" متفق عليه.
ثانيا: إرشادهم للمؤمنين: فعن حسّان بن ثابت: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا له، فقال: "اللهمّ أيده بروح القدس".
وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة قال: "قال سليمان -عليه السلام-: لأطوفنّ الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ونسي، فأطاف بهنّ، ولم تلد إلا امرأة منهنّ نصف إنسان. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان أرجى لحاجته" رواه البخاري. فالملك سدد نبي الله سليمان وأرشده إلى الأصوب والأكمل.
ثالثا: دعاؤهم واستغفارهم للمؤمنين؛ فأخبرنا الله أن الملائكة تصلي على الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) [الأحزاب:56]، وهم يصلون على المؤمنين أيضاً: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [الأحزاب:43].
والصلاة من الله -تعالى- ثناؤه على العبد عند ملائكته، حكاه البخاري عن أبي العالية، وقال غيره: الصلاة من الله -عز وجل- الرحمة، وقد يقال: لا منافاة بين القولين، وأمّا الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس، والاستغفار لهم، قال -تعالى-: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر:7].
هذا هو شكل العلاقة بين الملائكة وعباد الله المؤمنين، تتسم بالحب والمودة والنصح والدعاء والاستغفار والتسديد.
أما عن علاقة الملائكة بالكافرين والمجرمين من بني آدم فهي على النقيض تماما من هذا، فهم لا يحبون الكفرة الظالمين المجرمين، بل يعادونهم ويحاربونهم، ويزلزلون قلوبهم، كما حدث في معركة بدر والأحزاب.
ونزيد الأمر هنا تفصيلاً وإيضاحاً بذكر ما يلي:
أولا: إنزال العذاب بالكفار والمكذبين: عندما كان يُكذَّب رسول من الرسل، ويصرّ قومه على التكذيب، كان الله ينزل في كثير من الأحيان بهم عذابه، وكان الذي يقوم بالتعذيب أحياناً الملائكة، مثال: ما حدث في إهلاكهم قوم لوط؛ فقد جاء الملائكة المأمورون بتعذيب قوم لوط في صورة شبان حسان الوجوه، واستضافهم لوط، ولم يعلم قومه بهم، فدلت زوجة لوط قومها عليهم، فجاءوا مسرعين، يريدون بهم الفاحشة، فدافعهم لوط، وحاورهم، فأبوا عليه، فضربهم جبريل بجناحه، فطمس أعينهم.
قال -تعالى-: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) [هود:77-81].
وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ)[القمر:37]، وفي الصباح أهلكهم الله -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود:82-83]، قال ابن كثير في تفسيره: قال مجاهد: " أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم كفأها، وكان حملهم على طرف جناحه الأيمن".
ثانيا: لعن الكفرة، قال -تعالى-: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [آل عمران:86-87] وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البقرة:161].
ولا تلعن الملائكة الكفَرة فحسب، بل قد تلعن من فعلوا ذنوباً معينة. ومن هؤلاء:
لعن الملائكة المرأة التي لا تستجيب لزوجها؛ ففي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، لَعَنَتْها الملائكة حتى تصبح" رواه البخاري.
ولعنهم الذي يشير إلى أخيه بحديدة؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال أبو القاسم: "مَن أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمّه" رواه مسلم.
ولعن الملائكة يدل على حرمة هذا الفعل، لما فيه من ترويعٍ لأخيه، ولأنّ الشيطان قد يطغيه فيقتل أخاه، خاصة إذا كان السلاح من هذه الأسلحة الحديثة، التي قد تنطلق لأقل خطأ، أو لمسة غير مقصودة.
ومنها لعنهم من سبّ أصحاب الرسول؛ فقد ثبت من حديث ابن عباس: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن سبّ أصحابي، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" صحيح الجامع الصغير وزيادته.
فيما عجباً لأقوام جعلوا سبّ أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ديناً لهم يتقربون به إلى الله! مع أن جزاءَهم ما ذكـره الرسول -صلى الله عليه وسلم- هنا، وهو جزاء رهيب!.
ومنهم لعنهم الذين يحُولون دون تنفيذ شرع الله؛ فعن ابن عباس، -رضي الله عنهما-: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن قَتَلَ عمداً فَقَود يديه، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين" رواه أبو داود وصححه الألباني. فالذي يحول دون تنفيذ حكم الله في قتل القاتل عمداً بالجاه أو المال، فعليه هذه اللعنة؛ فكيف بالذي يحول دون تنفيذ الشريعة كلها؟!.
ومنها لعنهم الذي يؤوي محدثاً مبتدعا؛ فمن الذين تلعنهم الملائكة كما يلعنهم الله الذين يحدثون في دين الله، بالخروج على أحكامه، والاعتداء على تشريعه، أو يؤوون من يفعل ذلك، ويحمونه، كما في الحديث الصحيح: "مَن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنـة الله، والملائكة، والناس أجمعين" رواه أحمد.
والحدث في المدينة فيه زيادة في الإجرام، ففي الصحيحين عن علي ابن أبي طالب قال: قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "المدينة حرم، ما بين عَيْر إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً" متفق عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله: قد يقول قائل: أيهما أفضل: الملائكة أم الصالحون البشر؟ وهي مسألة مشهورة اختلف فيها أهل العلم قديما بين مفضل للملائكة على صالحي البشر والعكس.
والجمع في المسألة هو الأصوب، فالملائكة أفضل من صالحي البشر باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى، منزهون عما يلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، أبرار وأطهار، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر.
وصالحوا البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، فيوم القيامة بعد دخول الجنة يصير صالحوا البشر أكمل من حال الملائكة.
وإذا كان الملائكة يقومون بكل هذه الأعمال الصالحة والعظيمة في حق المؤمنين، فإن على المؤمنين واجبا تجاه الملائكة، والمؤمن الذي يعبد الله، ويتبع رضوانه، لا مناص له من أن يتولى الملائكة بالحب والتوقير، ويتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إليهم ويؤذيهم.
ومن أهم ما يجب على المؤمنين تجاه الملائكة:
أولا: عدم إيذاء الملائكة: شدَّد العلماء النكير على من يسبُّ الملائكة أو يتكلم بكلام يعيبهم، قال العلامة السيوطي رحمه الله -تعالى-: "قال القاضي عياض في الشفا: مَن شتم ملكاً من الملائكة فعليه القتل، وهذا فيمن تكلم فيهم بما قلناه على جملة الملائكة، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة، ممن نص الله عليه في كتابه، أو حققنا علمه بالخبر المتواتر والمشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع، كجبريل، وميكائيل، ومالك، وخزنة الجنة وجهنم، والزبانية، وحملة العرش، وعزرائيل، وإسرافيل، ورضوان، والحفظة، ومنكر ونكير.
ثانيا: البعد عن الذنوب والمعاصي؛ فأعظم ما يؤذي الملائكة الذنوب والمعاصي والكفر والشرك، ولذا فإن أعظم ما يُهْدَى للملائكة ويرضيهم أن يخلص المرء دينه لربه، ويتجنب كل ما يغضبه.
ولذا فإنَّ الملائكة لا تدخل الأماكن والبيوت التي يعصى فيها الله -تعالى-، أو التي يوجد فها ما يكرهه الله ويبغضه، كالأنصاب والتماثيل والصور، ولا تقرب مَن تلبّس بمعصيةٍ كالسُّكْر، فقد ثبت عن جماعة من الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب" متفق عليه.
ومن حديث عمار بن ياسر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ" رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ثالثا: البعد عما يؤذي ابن آدم، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فهم يتأذون من الرائحة الكريهة، والأقذار والأوساخ، فعن جابر بن عبد الله عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أكل الثوم والبصل والكراث، فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" متفق عليه.
وقد بلغ الأمر بالرسول -صلى الله عليه وسلم- أن أمر بالذي جاء إلى المسجد ورائحة الثوم أو البصل تنبعث منه أن يخرج إلى البقيع.
رابعا: ترك البصاق عن اليمين في الصلاة؛ حيث نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن البصاق عن اليمين في أثناء الصلاة؛ لأن المصلي إذا قام يصلي يقف عن يمينه ملك؛ فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها" رواه البخاري.
خامسا: موالاة الملائكة كلهم؛ فعلى المسلم أن يحب جميع الملائكة، فلا يفرق في ذلك بين ملَك وملَك؛ لأنهم جميعاً عباد الله، عاملون بأمره، تاركون لنهيه، وهم في هذا وحدة واحدة، لا يختلفون ولا يفترقون.
وقد زعم اليهود أن لهم أولياء وأعداء من الملائكة، وزعموا أن جبريل عدو لهم، وميكائيل ولي لهم، فكذبهم الله -تعالى-، وأخبر أن الملائكة لا يختلفون فيما بينهم: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:97-98].
فأخبر -سبحانه- أن الملائكة كلهم وحدة واحدة، فمن عادى واحداً منهم، فقد عادى الله وجميع الملائكة، أمّا تولي بعض الملائكة ومعاداة البعض الآخر، فهي خرافة لا يستسيغها إلا مثل هذا الفكر اليهودي المنحرف، وهذه المقولة قد أبطلها القرآن وفندها وكشف عوار أصحابها.
عباد الله: إن استقرار الإيمان في قلب العبد بوجود الملائكة، وشعور العبد بحقيقة هذا الوجود، يترك آثارا عظيمة في حياة المؤمنين، تترجم في سلوكيات وأخلاقيات ومعاملات وطاعات.
ومن أهم هذه الآثار الإيمانية بوجود الملائكة:
أولا: استشعار عظمة الله -سبحانه- وقدرته -جل جلاله-، فدقة المصنوع تدل على عظمة الصانع، وعظم خلق الملائكة دليل على عظيم سلطان الحق -سبحانه-: (لْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَـاوتِ وَلأرْضِ جَاعِلِ الْمَلَـائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ) [فاطر:1].
ثانيا: العزة والاستعلاء بوجود أعوان وأنصار يعينونه وينصرونه بأمر الله، قال -تعالى-: (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَـاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَـئِكَةِ مُسَوّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران:125-126].
ثالثا: فرح المؤمن مشاركة هذا الصنف من خلق الله في عقيدته وطاعته وإسلامه وتنفيذه لأوامر الله، وأنه ليس الوحيد من يوحد الله أو يعبده أو من يسجد له أو يلهج بذكره، بل من خلق الله من لا يحصى عددهم مِن مَن لا يخلق إلا لذلك ولا يقطعه شيء، فالمؤمن يجعل من ملائكة الرحمن مثلا كريما في انقياده وطاعته: (لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
رابعا: الإيمان التام واليقين الراسخ بأنه لا يضرنا ولا يأتينا إلا ما كتبه الله وأراده ربنا، قال -سبحانه وتعالى-: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51]، وهذا دافع للشجاعة والفداء، فإنما هي آجال، وعلى المرء من ملائكة الرحمن حفَظة فلا يصيبه إلا ما أذن به الله وحده جل في علاه.
وينبغي على المؤمن الولاء لملائكة الله، حيث يقومون بعبادته وتنفيذ أوامره وتسبيحه وتنزيهه، وكذلك الحب لهم لما لهم علينا من حق؛ فهم يحفظوننا بأمر الله، ويدعون لنا ويستغفرون لنا، وغير ذلك من المهام التي يقدمونها للبشر.