الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | تركي بن علي الميمان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
فالتاريخ يشهد بالحقائق وينطق بها, ألم يكن أهل هذه الجزيرة في مكة وفي غيرها يعيشون أذلة بين الأمم؟ ألم يكونوا قبل مبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- أذلة يقتل بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، ويعبدون الأصنام من دون الله؟ بل كان الواحد منهم يصنع إلهه من التمر ويعبده أول النهار، فإذا أمسى وجاع أكله، ألم يكونوا أذلة أمام كسرى وقيصر؟ فما الذي رفعهم؟!...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
عباد الله: إن من بين المسلمين من يريد أن يجعل للمسلمين عزة بغير الإيمان، فيظن أن عزة المسلمين قد تكون بالمال، أو بالتقدم العلمي والتكنولوجي كما يقولون، أو أن تكون العزة بغير الله -سبحانه وتعالى-؛ فيظن الظان أن الجاه أو المال أو غيرها من أمور الدنيا يمكن أن يستعز بها الإنسان، ويرفع بها جبهته أمام الأمم، وتلك -والله- خدعة نفس وخدعة شيطان, فلا عزة بغير الإيمان.
وهناك حرب نفسية تحاك ضد الأمة الإسلامية، وضد الصحوة الإسلامية في كل مكان، فأعداء الإسلام يريدون أن يهزموا المسلمين من الداخل، وأن يحبطوا هذه العزة وهذه الثقة الذي يجدها المسلم داخل إيمانه, حتى يتيه المسلم في خضم الفتن والأحوال والأحداث وغيرها، فيظن أنه فقد عزته وفقد إيمانه وفقد مكمن الرفعة الذي هو الإيمان بالله -سبحانه وتعالى-, فيجب الحذر من هذه الحرب النفسية ضد المسلمين.
ويجب علينا -أيها المسلمون- أن نعود إلى أصول ديننا وأصول عزتنا، والأمة الإسلامية في عصورها المتأخرة لم تجرب هذا العلاج الذي هو مصدر عزتها التجربة الكاملة، بحيث تُربى عليها النفوس، وتُربى عليها الأسر، فوالله لو عاد المسلمون إلى دينهم حق العودة لكان لهم بين الأمم شأن آخر. قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غافر:51]، وقال سبحانه:(وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم:47].
فالتاريخ يشهد بالحقائق وينطق بها, ألم يكن أهل هذه الجزيرة في مكة وفي غيرها يعيشون أذلة بين الأمم؟ ألم يكونوا قبل مبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- أذلة يقتل بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، ويعبدون الأصنام من دون الله؟ بل كان الواحد منهم يصنع إلهه من التمر ويعبده أول النهار، فإذا أمسى وجاع أكله، ألم يكونوا أذلة أمام كسرى وقيصر؟ فما الذي رفعهم؟!.
ما ارتفع أولئك الركب الكرام من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما انتقلوا من حظيرة الجاهلية إلى عز الإسلام إلا بالإيمان, وهذا شاهد اجعله أمامك في كل وقت، فإنه لما نطق رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- في أرجاء مكة قائلاً: "أيها الناس: قولوا: لا إله إلا الله، إني رسول الله لكم بين يدي عذاب شديد". قالوا: يا محمد: إن كنت تريد بهذا الذي تدعو إليه ملكاً ملكناك علينا، وإن كنت تريد بهذا الذي تدعو إليه شرفاً سودناك علينا حتى صرت السيد المطاع فلا نقطع بأمر دونك، وإن كنت تريد بهذا الذي تدعو إليه مالاً جمعنا لك من الأموال حتى تصير أكثرنا مالاً.
وهذه هي عروض الجاهلية في كل زمان ومكان، فالقوميون اليوم يقولون: الوحدة العربية وبعدها الوحدة الإسلامية.
ومن طلب العز بغير الدين أذله الله، فالعز بالوحدة العربية ذل؛ لأنه لا عز إلا بالإسلام. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما جئت أريد ملككم، ولا الشرف فيكم، ولا أموالكم، ولكنني جئت أدعوكم إلى كلمة واحدة تدين لكم بها العرب وتخضع لكم بها العجم. قولوا: لا إله إلا الله". فصاحوا جميعاً صيحة واحدة، وقالوا: أما هذه فلا.
ولكن الصحب الكرام من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هم الذين قالوها، وما زال الإسلام ينتشر وينتصر حتى امتدت الفتوحات الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها، ودك المسلمون قصور كسرى وقيصر مهللين مكبرين رافعين رؤوسهم؛ لأنهم قالوا: لا إله إلا الله، وهي قولة حق وصدق وإخلاص، فعملوا بمقتضاها، ولم يرتكبوا ما يناقضها، فأعزهم الله ورفع شأنهم.
فعندما دخل ربعي بن عامر -رضي الله عنه- على كسرى ملك الفرس، فقال له كسرى: ما الذي جاء بكم؟ فقال ربعي بن عامر: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
أيها المؤمنون: هكذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم، حتى صارت الأمة الإسلامية هي القائدة وهي الرائدة بين الأمم.
أما اليوم فقد انعكست -ولا حول ولا قوة إلا بالله- الأمور، وأصبح الكفار يتكلمون فنسمع، وأصبح أعداء الإسلام يحاربوننا بالغزو الفكري، وبالأفكار الجاهلية، وبالتبشير وغيره، ونحن ننظر!.
فلماذا تغيرت الصورة؟ لأننا حتى الآن ما اعتصمنا بالله وبهذا الإيمان حق الاعتصام؛ ولأننا حتى الآن لا يزال فينا ويوجد بيننا ومن يتكلم بلغتنا من يريد أن يبحث عن العزة في القوميات الجاهلية والقوانين والأنظمة الجاهلية.
أيها المسلمون: إن العزة لا تكون إلا بالله، والعزة لا تكون إلا بالصراط المستقيم الذي بينه لنا رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-.
فما هو هذا الإيمان الذي به عزة المؤمنين؟ لقد بينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنا بياناً واضحاً:
أن نسير على هذا الإيمان على وفق منهج أهل السنة والجماعة أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. وإن الإيمان الذي به عزة المسلمين هو الإيمان الذي يولد عملاً، وليس إيمان النفاق، ولا إيمان المجاملات الباردة في دين الله, إنه الإيمان الذي يحرك الغيرة في قلب العبد المؤمن إذا رأى حرمات الله تنتهك, إنه الإيمان الذي يجعل الإنسان لا يسير في هذه الحياة وكأنه أبله لا يفقه من أموره شيئاً، بل ينظر ماذا يخطط له الأعداء ويتدبر، فينظر ماذا يريد الأعداء في حربهم للمسلمين فيقف في وجوههم، وينظر ماذا يريد المنافقون وأذنابهم فيقف ضد مخططهم، هذا هو الإيمان الذي به العزة والرفعة والمكانة للأمة الإسلامية.
فالإيمان الذي نريده، هو الإيمان القائم على العبادة الخالصة لله الواحد القهار الملك الجبار الذي بيده ملكوت كل شيء، فهو الذي يحيى ويميت، وهو الذي يذل ويعز، وهو الذي بيده الأمر كله، وحياتنا وأرزاقنا وآجالنا وأمراضنا كلها بيد الله -سبحانه وتعالى-, فالإيمان الحق هو الذي يجعل العبد يخلص في جميع أمور العبادة لله وحده لا شريك له.
والإيمان الذي به العزة هو الذي يجد العبد طعمه وحلاوته في أموره وحياته كلها، كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ، مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" رواه مسلم.
إن الإيمان الذي به عزة المؤمنين هو الإيمان الذي يوقظ صاحبه إذا وقع في الذنوب والخطايا، وليس المؤمن هو الذي لا يخطئ أبداً, فهذا ثابت بن قيس بن شماس -رضي الله عنه-، كان رجلاً جهوري الصوت، فإذا تكلم بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- صار صوته مرتفعاً، فلما نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات:2] وسمع بهذه الآية جلس في بيته حزيناً، فسأل عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل: يا رسول الله: إنه في بيته جالس، وإنه يقول: أنا من أهل النار، وقد حبط عملي لأنني أرفع صوتي على صوت النبي -صلى الله عليه وسلم-. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مروه فليأت إليَّ، إنه من أهل الجنة". رواه أحمد- المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير.
فرفع الصوت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أنه منهي عنه؛ إلا أن الأعظم في ذلك هو الاعتراض على حكمه وسنته ومنهجه، كما يفعل اليوم كثير من الناس، بل وكثير من المسلمين يرفعون أصواتهم فوق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيريدون حكم الجاهلية وأنظمة وقوانين الجاهلية، ويضربون بحديث وشرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرض الحائط، وهذا هو رفع الصوت على الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
فلنتق الله -عباد الله- ولنجعل نصب أعيننا مقولة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عند ذهابه لفتح بيت المقدس، وهي كلمة مشهورة يجب أن نقف عندها دائماً، قال عمر: "إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا طلبنا العزة بغيره أذلنا الله".
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
عباد الله: من المظاهر التي يجب أن تكون لعزة المسلم في عصرنا الحاضر: التمسك بهذا الدين عقيدة وشريعة، فالتمسك بهذا الدين عقيدة بأن نعتصم بها، ونربي عليها أنفسنا، عقيدة لا تقبل المساومة ولا التقصير؛ وشريعة لا نرضى بها بديلاً، نحكمهما في جميع شئوننا، كما قال تعالى:(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].
ومنها: الدعوة إلى الله، وإلى هذا الدين بكل ما نملك؛ فإذا اعتز المسلم بإيمانه دعا إليه.
ومنها: وزن الأمم والأفراد بميزان الإيمان، فالإنسان الذي يحمل هذا الإيمان ويعتز به يزن الناس به، فأمامه أن الكفار لا وزن لهم، ولا قيمة لهم ولا كرامة؛ لأن الله أهانهم وأذلهم،(أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)[الأعراف:179]؛ فميزان المؤمن هو ميزان الولاء والبراء.
ومنها: أن الإنسان إذا اعتز بهذا الدين رفض كل ما سواه, فكل أنظمة البشر إذا جاءت مخالفة لكتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهي مرفوضة لا قيمة لها ولا وزن.
ومن الأمور التي تبنى عليها عزة المؤمن في العصر الحاضر وفي كل عصر: اليقين بأن المستقبل للإسلام. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أعطانا عدة بشارات، البشارة الأولى: "لتفتحن القسطنطينية وروما"، وروما هي عاصمة إيطاليا، وفيها دولة الفاتيكان أم النصرانية في العالم، "قيل: يا رسول الله: تفتح القسطنطينية أولاً أو روما أولاً؟" قال:"القسطنطينية أولاً"، وروما ستفتح بوعد الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
والبشارة الثانية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث الصحيح: "ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ, ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ, عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ وأهلَه, وذلًّا يذلُّ اللهُ به الكفرَ" مجمع الزوائد للهيثمي (6/17) رجاله رجال الصحيح.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا ممن اعتصم به وتوكل عليه واعتز بدينه.
اللهم إنا نسألك أن تغرس في قلوبنا الإيمان، وأن تثبتنا عليه إلى أن نلقاك. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ويقام فيه علم الجهاد.
ثم صلوا ...