العربية
المؤلف | بدر بن نادر المشاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - السيرة النبوية |
لقي من الحياة مشاقها ومن الشدائد أحلكها, نشأ يتيما فاقد حنان الأمومة, وتوفي والده ولم تأنس عينه برؤيته, وأذاه قومه بالقول والفعل، قال أنس -رضي الله عنه-: "ضربوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرة حتى غشي عليه". اتهموه بالجنون ورموه بالسحر ووصفوه بالكذب، وقالوا الكافرون هذا ساحر كذاب. وفي الغار كرب وهم وخوف وحزن, وهو يقول إذ يقول لصاحبه: "لا تحزن إن الله معنا" وفي أحد كسرت رباعيته وشج وجهه وسال دمه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى فمن اتق الله نجاه ومن أعرض عنه ترداه.
أيها المسلمون: اختار الله -جل وعلا- من البقاع والبلاد خيرها, ومن النفوس أشرفها, واصطفى من البشر رسلا, جعل أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم موازين توزن بها الأقوال والأخلاق والأعمال, ومعرفة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها, وكل عبد سيسأل عنه في قبره.
ولذلك هو سيد ولد أدم وفخرهم في الدنيا والآخرة, محمد بن عبد الله بن عبدالمطلب اصطفاه الله -جل وعلا- من بني هاشم واصطفى بني هاشم من قريش وهم من سلالة نبي الله إبراهيم -عليه السلام-, صفوة الخلق هو خير خلق الأرض نسبا على الإطلاق قال -صلى الله عليه وسلم-: "فأنا خيرهم نسبا وخيرهم بيتا" (رواه الترمذي).
نشأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتيم الأبوين فاقداً تربيتهما وحنانهم (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) [الضحى:6] متقلباً بين أحضان متوالية برعاية من الله -جل وعلا-.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحب عبادة الأوثان والخنوع للأصنام, حفظه ربه في صغره وصانه في شبابه فما استلم صنما ولا مس وثنا, فزوج قبل البعثة بامرأة نبيلة شريفة لبيبة هي أعظم الناس شرفا وأوفرهن عقلا خديجة -رضي الله عنها-, بعثه الله والأرض مملوءة بعبادة الأوثان وأخبار الكهان وسفك الدماء وقطيعة الأرحام, فدعا إلى عبادة الله وحده صابرا على ما يلقاه من تكذيب وإعراض وجفاء.
لقد رفع الله له ذكره وأعلى شأنه, معجزاته باهرة ودلائله ظاهرة, منصور بالرعب مغفور الذنب, أول من ينشق عنه القبر وأول الناس يشفع يوم القيامة, وأكثر الأنبياء, تبعا وأول من يقرع باب الجنة وأول من يعبر الصراط.
كان عبدا لله شكورا يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، قرة عينه في الصلاة يقوم لله مخلصا خاشعا, يقول عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه-: "أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء" (رواه أحمد). وقال عن نفسه -صلى الله عليه وسلم-: "والله إني لأتقاكم لله جل في علاه" (متفق عليه).
كان كثير التعبد لله قام بالطاعة والعبادة خير قيام, ومن طول قيامة كان يصلي في ركعة واحدة ويقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء, وكان عليه الصلاة والسلام جميل الصوت في تلاوة القرآن. يقول البراء -رضي الله عنه-: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في العشاء (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) فما سمعت أحد أحسن صوتا أو قراءة منه" (متفق على صحته).
وكان -صلى الله عليه وسلم- معظما لربه, رفيع الأدب مع خالقه لا يدعي لنفسه شيئا مما لا يملكه إلا الله، قال الله -جل وعلا- (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:188]. وجاءه رجل فقال له: "ما شاء الله وشئت", قال له: "أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحد" (رواه النسائي).
كان -صلى الله عليه وسلم- لسانه لا يفطر عن ذكر الله, تقول عائشة -رضي الله عنها-: "يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ" (رواه مسلم), وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إنا كنا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مئة مرة: ربي اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
كان يحب الصلاة ويوصي بها, فما حالنا مع الصلاة هذه الأيام؟!. يقول أنس: "كانت عامة وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- حين مرض "الصلاة, الصلاة, وما ملكت أيمانكم" قال: حتى جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه أن يوصي بها حتى فاضت روحه" (رواه أحمد). وكان يحث صغار الصحابة على نوافل الصلاة, قال لابن عمر وهو فتى: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" (متفق عليه).
يقينه بالله عظيم موقنا بأن كلام الله فيه شفاء, إذا مرض يرقي نفسه بكلام الله, قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفثُ" (متفق على صحته).
أيها المسلمون : إن رسولكم -صلى الله عليه وسلم- كان أشد الناس تواضعا وأحسنهم بشرا, كان يجالس الفقراء ويأكل مع المساكين, ويخصف نعله ويخدم أهله ونفسه, وشرب من القربة البالية وحمل مع صحابته اللبن, في بناء المسجد لا يغيب عن الناس, ولا يعيب على الخدم ولا يوبخهم، قال أنس: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع سنين, فما عاب علي شيء قط".
يوقر الكبار, يتواضع للصغار, إذا مر على صبيان سلم عليهم, رأى أبا عمير -رضي الله عنه- وكان صبيا فقال مداعبا له: "يا أبا عمير ما فعل النغير" (متفق عليه), يقول أنس: "ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (رواه مسلم)، واليوم هناك مئات من الأطفال يعانون من العنف الأسري.
كان متواضع بعيد عن الفخر والخيلاء والكبر والاستعلاء, كان عليه الصلاة والسلام لا يحب الإطراء لنفسه مع أنه نبي لله قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم, إنما أنا عبد لله, فقولوا عبد الله ورسوله" (رواه البخاري).
كان يعظم الرسل من قبله, قال له رجل: "يا خير البرية", فقال له: "ذاك إبراهيم" (رواه مسلم), ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطرأ بل أمر كل أحد أن يتواضع لله, كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصا على هداية الناس، وكان يعود غلاما يهوديا مريضا فقعد عند رأسه وقال له النبي: "أسلم" فأسلم الغلام وقام وهو يتهلهل ويضحك. (رواه البخاري).
يتواضع للصغير ويغرس في قلبه العقيدة, قال لابن عباس: "يا غلام: إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, إذا سألت فأسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله" (رواه الترمذي).
يتلطف في تعليم صاحبته ويظهر ما في قلبه من حبه لهم, وما أحوجنا اليوم إلى التعامل الطيب مع بعضنا, ومع من كانوا أصغر منا وأكبر منا, يتلطف مع معاذ وهو يأخذ بيده ويقول: "يا معاذ: والله إني لأحبك, وأوصيك يا معاذ, لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
أيها المسلمون: إن رسولكم كان كثير البذل والعطاء لا يرد سائلا ولا محتاجا, قال حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي طلبته فأعطاني, ثم سألته فأعطاني, ثم سألته فأعطاني". (متفق عليه). كريم اليد واسع الجود, جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين ورأى رجل عليه برده فقال: "أكسينها ما أحسنها" فأعطاه إياها. (رواه البخاري).
رسولنا طيب لا يأكل إلا طيبا, يتوارى عن أي شبهة في المطعم أو المشرب, قال: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي, فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها" (متفق عليه).
كان يجل صاحبته يعظم مكانتهم وإن كانوا حديثي السن, قال عن أسامة بن زيد وهو لم يتجاوز حين ذاك الثامنة عشر من عمره قال: "أوصيكم به فإنه من صالحيكم" (رواه مسلم). ما أحوجنا أن نحتوي شبابنا اليوم, والذي يتهاون في الشباب ولا يلقي لهم بالا, يتهاون في عماد عظيم, كان رسول الله إذا مرض أحدهم عاده وحزن لمصابه, زار سعد بن عبادة يوم مرضه، فوجده مريضاً مغمى عليه؛ فبكى عليه الصلاة والسلام.
وفياً مع صحابته لم ينسَ فضلهم وإيثارهم, آخر يوم صعد فيه المنبر قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي -أي جماعتي- وموضع ثقتي وعيبتي, وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم, فاقبلوا من محسنهم, وتجاوزوا عن مسيئهم السابق" (رواه البخاري).
هذا أقل حق لصحابة رسول الله فما بال بعض القوم يتهجمون على صحابة رسول الله يصف عثمان -رضي الله عنه- معاملة النبي لصحابته قال: "صاحبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر والحضر ,وكان يعود مريضنا, ويتبع جنائزنا, ويغزو معنا, ويواسينا بالقليل والكثير" (رواه الإمام أحمد).
هذا ورسولكم ذاق من الحياة مرها ومن اللئواء أشدها, دخلت عليه امرأة ومعها ابنتان تسأل فلم تجد عند رسول الله شيئا, تقول عائشة: "غير تمرة واحد" (متفق عليه). وربط على بطنه الحجر من الجوع، قال عمر -رضي الله عنه-: "لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ -أي التمر الرديء- مَا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ " (رواه مسلم). لا يجد ما يملأ به بطنه من شدة الجوع.
كان الصحابة يعرفون الجوع في رسول الله إذا تغير صوته, يقول أبو طلحة -رضي الله عنه- إذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضعيف يوما أعرف أنه جوعان, وتأتي أيام على بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما فيها إلا الماء، جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله إني مجهود -يعني تعبان جوعان- فأرسل إلى بعض نساءه فقالت: "والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء" ثم أرسل إلى أخرى فقال مثل ذلك حتى قلن كلهم مثل ذلك. هذا رسول الأمة -صلى الله عليه وسلم- ويا ليتنا يوم أن شبعنا شكرنا الله -تبارك وتعالى- على النعم وأدينا حقوقها.
كان النبي كامل الخوف من ربه مع ما لقاه من الجوع, فقد كان يجد التمرة على فراشه وهو جوعان ويقول: "والله لولا أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها" (رواه البخاري).
لقي من الحياة مشاقها ومن الشدائد أحلكها, نشأ يتيما فاقد حنان الأمومة, وتوفي والده ولم تأنس عينه برؤيته, وأذاه قومه بالقول والفعل، قال أنس -رضي الله عنه-: "ضربوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرة حتى غشي عليه". اتهموه بالجنون ورموه بالسحر ووصفوه بالكذب، وقالوا الكافرون هذا ساحر كذاب.
وفي الغار كرب وهم وخوف وحزن, وهو يقول إذ يقول لصاحبه: "لا تحزن إن الله معنا" وفي أحد كسرت رباعيته وشج وجهه وسال دمه, لاقى من الجوع حرارته ومن العدو بأسه, وضعوا السم في طعامه وسحروه في أهله, وتوالت عليه المصائب وتكالبت عليه المحن، أين أصحاب الهموم ؟! لكم في رسول الله أسوة، ومع ذلك ربه يقول له (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)
يبيت عليه الصلاة والسلام حزينا يبث أشجانه وأحزانه إلى زوجته, يقول: "ياعائشة: لقد لقيت من قومك ما لقيت". (رواه البخاري).
مات له ست من الأولاد في حياته فلم تثنيه تلك الكروب عن الدعوة, صبر على كبد الحياة ولأوائها, يقول عن نفسه: "أوذِيتُ في الله وما أوذِي أَحَدٌ مِثلي، وخِفْتُ في الله، وما خاف أحَدٌ مِثلي" (رواه أحمد).
كان رقيق القلب ملئ بالرحمة إذا سمع بكاء الصبي في الصلاة تجوز -يعني اختصر- في صلاته؛ مما يعلم من شد وجل أمه من بكاءه, يزور البقيع ويتذكر الآخرة ويبكي, كان يزور ابنه إبراهيم الطفل الصغير, زاره عند مرضعته وكان عليه أثر الغبار, ثم يرى الغبار على ثوب ولده هذا الصبي الصغير ويلتزمه النبي ويقبله ويشمه من عطف الأبوة, ثم فجأة يسقط في حضنه ويموت فتدمع عيناه وهو يقول: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن, وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون, وما نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون" (متفق عليه).
رسولكم كامل العقل, سامي الأخلاق لم يضرب أحداً بيده, ما أحوجنا إلى هديه تقول عائشة: "ما ضرب رسول الله شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما" (رواه مسلم).
أعف الناس وأشرفهم لم تمس قط يده امرأة لا تحل له, كان كامل الوفاء مع أهل بيته وصحابته -رضي الله عنه- كان يذبح الشاة ثم يقطع أعضائها ثم يبعثها إلى صواحب خديجة بعد وفاتها؛ وفاء لها -صلى الله عليه وسلم-, فأين الوفاء بين الأزواج, ولو حكت بيوتنا لذكرت من الأمور ما تدمى له القلوب.
صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين من الغزوة كالمودع لهم, يكرم صحابته ولا يؤثر لنفسه شيئا دونهم, يقول عثمان -رضي الله عنه-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يواسينا بالقليل والكثير, وسع الناس بخلقه, حليم لا يجزي بالسيئة, ولكن يعفو ويصفح, ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها".
يجذبه الأعرابي يريد مالا فيلتفت إليه متبسما خذ ويعطيه سؤله, عفا عمن سحره ولم يعاقب من وضع له السم في طعامه, وصفح عمن قاتله لما كان فتح مكة وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يحطم الأصنام ثم أتاه أبو سفيان, وأبو سفيان كما تعرفون أذى النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل إسلامه فلما أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد فتح مكة, كان أبو سفيان على مداخل مكة يرفع سيفيه يريد أن يقتل النبي, فالتفت إلى رسول الله وهو قادم على مكة والناس ينظرون إلى ذلك الموقف المهيب فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى أبي سفيان, فالتفت إليه وقال رسول الله للناس: "أيها الناس من دخل البيت -أي المسجد الحرام- فهو آمن, ومن دخل دار أبو سفيان فهو آمن, ومن دخل داره فهو آمن" فسمع أبو سفيان إطراء النبي له فالتفت لابن عباس قريبا منه فقال له: "أسمعت ما سمعت", قال: "نعم" قال "أو يقول محمد هذا" يعني محمد ينزلنا منزلتنا ؟ قال "إن محمد ينزل الناس منزلتهم".
ثم أنزل سيفيه كالذي استحى من رسول الله فدخل النبي فحطم الأصنام, ثم دخل في داخل الكعبة وفي جوفها وحطم ما بداخلها من الأصنام, يقول ابن عباس: فالتفت إلى أبي سفيان وقال: "أترى محمد يقبلني" يعني لو ذهبت إليه يريد الإسلام قال: "نعم يقبلك" قال: " كيف يقبلني وقد قتلت أصحابه وقلت فيه ما قلت" قال: "إن أقبلت عليه فقل له كما قال أخوة يوسف ليوسف" قال: "وما قال أخوة يوسف ليوسف؟" قال: قالوا له: (قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ).
توجه أبو سفيان قبل قليل مشركا معاديا يريد قتل رسول الله, لحظات ويتغير الموقف فيقبل على الرسول ويخرج من باب الكعبة, فأتاه من الميمنة وصد عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقدم عمر بسيفه خشية أن يؤذي رسول الله, ثم التفت إليه من جهة اليسار وصد عنه حتى وقف وجها لوجه وقال: "يا محمد (تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)" ثم كررها وهو ينظر من موقعه إلى العباس والعباس على الجبل يشير بيده يعني كرر الكلام وهو يقول: "يا محمد (تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)" قالها ثلاثا ثم رفع رأسه -صلى الله عليه وسلم- فإذا بالدموع على وجهه فنظر إلى أبي سفيان وقال كلمته المشهورة: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
محمد عليه الصلاة والسلام وحق لأمة رسولها هذا النبي أن تفخر وأن ترفع رأسها, عليه الصلاة والسلام, كان لين الجانب دائم البشر, يقول جرير بن عبد الله: "ما رآني رسول الله إلا تبسم" (رواه البخاري).
يتفقد أصحابه ويؤثر أهل الفضل بأدبه وجميل المعاشرة وحسن الصحبة, يصل الرحم, عف اللسان لم يكن فاحشا ولا متفحشا, بل كان أشد حياءً من العذراء في خدرها, لا يحب تعظيم الألفاظ ولا تشدقها.
جاءه ناس إليه فقالوا: "يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وياسيدنا وابن سيدنا" فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم على محمد عبد الله ورسوله ولا يستهوينكم الشيطان ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" (رواه النسائي).
وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-, فَأَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ, حِينَ قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ, فَقَالَ: "هَوِّنْ عَلَيْكَ, إِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ, إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ, كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ".
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يتكلم في طعامه لضيفه, لا يتكلف مجهودا ولا يطلب معدوما, أحبه الصحابة حبا جما, إن قال استمعوا له ولقوله, وإن أمروا تبادروا إلى أمره, يقول أنس: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله, جمع من الأخلاق أطيبها ومن الآداب أزكاها".
قال شيخ الإسلام: "لم يحفظ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- له كذبة واحدة, ولا ظلم أحد ولا غدر بأحد, بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد, مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة, وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة".
وكان -صلى الله عليه وسلم- مع ما لقاه عليه الصلاة والسلام إلا أنه كان يقول: "يعجبني الفأل" يعجبه الفأل -صلى الله عليه وسلم- الكلمة الطيبة. (رواه مسلم).
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:128].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أيها المؤمنون: إن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بشر من البشر يغضب ويجوع ويحزن وينام, ليس له من خصائص الربوبية ولا الألوهية شيء, وإنما هو رسول يبلغ رسالة ربه، يقول الله -جل وعلا- (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [الكهف:110] وقال الله عنه (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر:30].
وهو نبي بشر -عليه الصلاة والسلام- لا يرفع فوق قدره, ولا ينقص من منزلته, واجب اتباعه وامتثال أمره, قال في فتح المجيد: "وإنما يحصل تعظيم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء بهديه، وإتباع سنته، وبطاعته تتنزل الرحمات وتتوالى الخيرات". (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:132] وقال -جل وعلا-: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54].
وإن محبته وطاعته مقدمة على الوالد والولد, قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (رواه البخاري).
وباتباعه -صلى الله عليه وسلم- يرغد العيش ويهنأ الجميع قال الله -جل وعلا-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
وسعادة العبد في الدارين معلقة بالتمسك بهديه -صلى الله عليه وسلم- والعزة على قدر متابعته, والفلاح باقتفاء أثره.
اللهم ارزقنا محبة نبينا -صلى الله عليه وسلم- واجعلنا لهديه متبعين ولسنته فاعلين وعلى طريقته سائرين يا رب العالمين.
اللهم إنا أحببنا رسولنا وحبيبنا ونبينا وقدوتنا -صلى الله عليه وسلم- حبا كبيرا أشد من حبنا لأنفسنا ووالدينا وأنفسنا والناس أجمعين اللهم اجمعنا به -صلى الله عليه وسلم-.