الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
نهتم بأدوائنا الجسدية، ونقوم على علاجها، ونغفلُ عن أدواءٍ معنوية، تتلاعبُ بنا يمنةً ويسرة، نحو الغفلة وقلة الفكر والاتعاظ. فكم تُتلى من مواعظ!، ونستمع من آيات!، وتمر علينا من عِبَر! وقليل مَن يتَّعظ أو يتفكر!!
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله.
أيها الناس: نهتم بأدوائنا الجسدية، ونقوم على علاجها، ونغفلُ عن أدواءٍ معنوية، تتلاعبُ بنا يمنةً ويسرة، نحو الغفلة وقلة الفكر والاتعاظ. فكم تُتلى من مواعظ!، ونستمع من آيات!، وتمر علينا من عِبَر! وقليل مَن يتَّعظ أو يتفكر!!
قال الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة:281]. وفي حديثٍ حَسَن عند الإمام الترمذي -رحمه الله- عن أبي ذر الغفاري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنِّي أرى ما لاَ ترونَ، وأسمعُ ما لاَ تسمعونَ؛ أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لها أن تئِطَّ، ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلاَّ وملَكٌ واضعٌ جبْهتَهُ ساجدًا للَّهِ، واللَّهِ لو تعلمونَ ما أعلمُ لضحِكتم قليلاً، ولبَكيتم كثيرًا، وما تلذَّذتم بالنِّساءِ على الفرشاتِ، ولخَرَجْتُم إلى الصُّعداتِ تجأرونَ إلى اللهِ"(سنن الترمذي ٢٣١٢).
وفي هذا الحديث الشريف -عباد الله- مسائل:
أولها: عظمةُ الخالق -تبارك وتعالى-، وأنه خالق كل شيء، وعليم بكل شيء، خضع له كل ما في السموات والأرض. ومن صُوَر هذه العظمة اتِّساع ملكه، وخضوع عباده له، كالملائكة، القوم المكرمين، فقد غصَّت السموات بقُرُبَاتهم ودعائهم؛ كما قال هنا: "أطَّتِ السَّماء"، والأطيطُ صوتُ الأقتاب والرَّحل، وأطيط الإبل أصواتُها وحنينها.
والمراد كثرة الملائكة العُبَّاد، وكثرة الملائكة المسبِّحين، فلا يخلو موضع أربعة أصابع إلا ومَلَك راكعٌ أو ساجد.. قد خضعت جباههم لربهم، وطارت أرواحهم شوقًا إليه، كما قال -عز وجل-: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)[الأنبياء: 26-28]؛ فما هي عباداتكم يا بني آدم، وعند ربكم مَن له مقام معلوم، وقد خضعوا خضوعَ المنقطعين المتبتلين حتى تحركت السماء وأثقلت مِن عددهم وأصواتهم.
ثانيا: سعَةُ علمِ الأنبياء وتوفيق الخالق -عز وجل- لهم، فقد ألهمهم من أحوال الكون وعظمته ما يورث فيهم الخشية والانكسار، وحُسْن الاتعاظ، وهو ما يحملهم على الخوف والاستعداد لليوم الآخر. فإنَّ مَن خاف شيئًا تَهَمَّم له، واستعدَّ غاية الاستعداد، وبادر المبادرة (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[البقرة:63]، وصحّ حديث "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل"، والمراد التشمير السريع إلى الطاعات.
فهنالك طاعات سانحة، وحسنات عابرة، فإياكم والتسويفَ فيها، أو تأجيلها.
ولو علمت الخلائقُ ما تعلم الأنبياء من عظمة الله وأحوال القيامة، لقلَّ ضَحِكُهم، وعظُم جدّهم، وزالت غفلتُهم، واستيقظت قلوبهم، وهبّوا مسرعين إلى الله، ولم تُرَ أوقاتٌ لهم تضيّع، أو طاعاتٌ تهمل، أو معاصٍ تُرتكب، والله المستعان.
ثالثًا: إن العلمَ بالله وبعظمته ورسالاته، مما يُصلح القلب، ويحمل على الخشوع المراقبة "لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا"، والحاصلُ -معاشر أهل الإسلام- العكس قلّ العلم، وتعاظم الجهل، فكثر الضحك، وعزَّ البكاء والإشفاق من عذاب الله ومن فساد النفوس وتهافتنا على الذنوب. (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)[الطور:25-28].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها الإخوةُ الفضلاء: إن هذا الحديثَ -لمن تأمله- رسالةُ خوف واعتبار، ومحاسبةٍ واتعاظ.
رابعًا: إن العلم الإلهي والأخروي، مما يزهّد في الدنيا، تلك الدنيا التي نحتفل بملاذّها، وتتنافس في شهواتها، ونتقاتل على أموالها. فلو تعلمنا العلمَ الحقيقي، لهانت الدنيا في عيوننا، ولما تلذذنا بالنساء على الفُرُش، ولبتْنَا في حزنٍ وبكاءٍ، وخشية ومحاسبة.
والسبب أن القلب، يمتلئ بمحبة الله والإشفاق من ذنوبه، وذكرى يوم القيامة، فلا يبقى لديه إلا البكاءُ وحسنُ العمل؛ لأن ذكرى النار يقطع الملذات، ويذهب السعادات، ويحرض على الصدق والمسارعة (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى)[الليل:14-15]. ومن الشقاوة الانهماك الدنيوي المبالغ فيه، والذي ينسيك ربك وعبادته وذكر القيامة.
لكن لو حضر العلم، لخرجنا إلى الصُعدات أي الصحاري، نجأرُ إلى الله عبادةً وذكرًا واستغاثة؛ لأننا لا نطيق عذاب الآخرة، والله المستعان.
خامسًا: إن الدنيا، يا مسلمون ليست محلاً للضحك الوسيع، والمرح العريض، بل هي دار عبرة واتعاظ، ومراجعة لحالك، واستعدادًا لآخرتك؛ فاهنأ بها، ولا تصرفك عن حق الله، ولا تضيع شعائر الله، وفِي الحديث: "الدنيا ملعونةٌ ملعون ما فيها، إلا ذِكْرَ الله وما والاه وعالما أو متعلمًا"(أخرجه الترمذي ٢٣٢٢، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة ٢٧٩٧)، وتأمل من اتخذها لهوًا وضحكًا، كيف انتهى أمره، وصار حاله؟!
فالتمسوا عباد الله من الدنيا ما يبلغكم رضوان الله، ففيها خير وشر، وسعة وضيق، وفرح وحزن، واتعاظ وغفلة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "وَلَكِنِّي أَخْشى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيا علَيْكُم، كما بُسِطَتْ على مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنافَسُوها كما تَنافَسُوها، وَتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ "(صحيح مسلم 2961).
وصلوا وسلموا يا مسلمون على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة.