الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | رشيد بن إبراهيم بو عافية |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة - السيرة النبوية |
أيها الإخوةُ في الله: لنا رحلةٌ بالقلوب والعقول والأرواح، مع سِلْسِلَةٍ علميَّةٍ تربويَّة، حلقاتُها دُرَرٌ كريمةٌ طيّبة، يأخذُ بعضها بزمام بعض، نتعرَّفُ من خلالها حقوقَ المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ونكتشفُ كثيرًا من شمائله وأوصافه، ونُسلّطُ الضَّوءَ على ما غابَ من تلكَ الحقوق في واقعنا وممارساتنا اليومية، عسى أن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربّ العالمين، مُسْتَحِقِّ الحمدِ بلا انقطاع، مُسْتَوْجِبِ الشُّكرِ بأقصَى ما يُستطَاع، لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله سبحانه، سبّحت له السمواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكُها، والأرضُ وسُكّانُها، والبحارُ وحيتانُها، والنجومُ والجبال، والشجرُ والدّوابّ، والآكامُ والرّمال، وكلّ رطبٍ ويابس: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)[الإسراء: 44].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أمينُهُ على وحيه، وخيرتهُ من خلقه، ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيّد بالمعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة، المبعوث بالدّين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأجلاها، وافترض على العباد طاعته وتعزيره، ومحبّته وتوقيرَه، وسدّ دونَ جنّتِه الطرق، فلن تفتح لأحدٍ إلاّ من طريقِه، صلى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحابته الغُرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين وسلّم.
ثم أما بعد:
أيها الإخوةُ في الله: لنا رحلةٌ بالقلوب والعقول والأرواح، مع سِلْسِلَةٍ علميَّةٍ تربويَّة، حلقاتُها دُرَرٌ كريمةٌ طيّبة، يأخذُ بعضها بزمام بعض، نتعرَّفُ من خلالها حقوقَ المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ونكتشفُ كثيرًا من شمائله وأوصافه، ونُسلّطُ الضَّوءَ على ما غابَ من تلكَ الحقوق في واقعنا وممارساتنا اليومية، عسى أن نجدّدَ بها ديننا وإيماننا ويقينَنَا، وهذه الحلقاتُ النيِّرة ليست ردَّ فعلٍ على جهةٍ بعينها، بقدرِ ما هي تجديدٌ للدين، ومراجعةٌ للإيمان، وبعثٌ لحقيقةِ الشهادة في قلوبنا و أقوالنا وجوارحنا، ولا شكَّ أنَّ ذلك مع توحيد الله -تعالى- أعظمُ الواجبات في الإسلام على الإطلاق، فنسألُ اللهَ العظيمَ أن يجعلها تذكرةً للعالِمِين، وتعليمًا للجاهلِين، وتنبيهًا للغافلين، إنَّهُ سميعٌ مُجيب.
ومع الدُّرَّةِ الأولى منها نقول: محمدٌ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، أغلى الرجالِ، وأجلُّ الناس، وأفضلُ البشر، وأزكى العالمين، خلقه الله -تعالى- وسوَّاه، وطهَّرهُ واصطفاه، وأرسله إلى الناس كافَّةً بشيرًا ونذيرَا، في وقت أظلمت فيه النفوسُ والحياة، ليخرج الناس من عبادة العباد والشجر والحجر، إلى عبادة الخالق -جل وعلا- وحده لا شريك له، ومن ضيق الارتباط بالطين والتراب إلى سَعَة الآخرة، ومن جُورِ الأديان والعباد والبلاد إلى نعمة العدلِ والحقِّ والرحمة، ومن شقاء الكفر والفُسق والعصيان إلى راحةِ التقوى والطاعةِ والإيمان، فهو رحمةٌ مُهداة، ونعمةٌ مُسداة، ونورٌ يهدي به اللهُ في الظُّلُمات.
حقٌّ على كلِّ عبدٍ معرفتُهُ، والإيمانُ به، والتسليمُ لأمره؛ لأنَّهُ لا طريقَ للجنَّة إلاَّ طريقُهُ، فهو إمامُ المُرسلين، وخاتَمُ النبيِّينَ، وقُدوةُ الهادينَ المَهديِّين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار"[الصحيحة(3093- 157)].
حقٌّ على كلِّ مؤمِنٍ محبَّتُهُ، وتفضيلُ حُبِّهِ على نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، لأنَّ الوالِدَين أنجبَا بَدَنَكَ وأخرجاه بإذن الله من ظُلُمات الأرحام، ومحمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- أنجبَ رُوحكَ -بإذن الله- وأخرجها بالوحي من ظُلُمات الجهل والأوهام، إلى نُور الهداية والإيمان، فتسبَّبَ في تخليصها وعتقها من النَّار، لذلكَ وجبَ عليكَ أن تجعلَ حُبَّهُ أعظمَ من حُبِّكَ لنفسكَ ووالدك والدِّرهمِ والوَلَد؛ ففي الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
حقٌّ على كلّ عبد طاعتُهُ والتسليمُ لأمره ولهُ بذلك ضمانٌ بدخول الجنَّة؛ ففي البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا: ومن يأبى دخول الجنَّة يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى"[أخرجه البخاري].
أيها الإخوة في الله: كيفَ لا يبحثُ المسلمُ عن شمائل نبيّه -صلى الله عليه وسلم- ويتعرَّفُ حقوقَهُ وأوصافهُ وهو الذي لاقَى ما لاَقى من الهموم والآلامِ والمتاعب من أجل أن يصلَ إليكَ الحقُّ صافيًا نقيًّا، تدخلُ به الجنَّةَ وتنجُو به من النَّا؟!
تذكَّر يومَ الطائف وما لاقاهُ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من أهل ثقيف! تذكَّر الصَّفَّين من السُّفهاء الذين رجموهُ بالحجارة وكلمات السَّفه، حتَّى أدْمَوا وجْهَهُ وعراقيبَه! وهو مشغولٌ عنهم بالتفكير في همّ النجاة بنا من النَّار! عُرضَ عليه أن يُطبقَ عليهمُ الأخشبين فرفضَ صلى الله عليه وسلم عسى أن يُخرجَ اللهُ من أصلابهم من يوصلُ الهُدى إلى الجزيرة ومصر، والعراق والشام، والمغرب والأندلس، والصين والهند، وجميع بقاع الدُّنيا!.
كيفَ لا يبحثُ المسلمُ عن شمائل نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، ويتعرَّفُ حقوقَهُ وأوصافهُ، وهو الذي يقفُ يومَ الفزع الأكبر من بين سائر النبيّين يقولُ: "يا ربّ أمتي أمتي"؟! يقولُ ذلك من أجلي أنا ومن أجلكَ أنت لا من أجل نفسه! يقومُ يشفعُ في أهل الكبائر من أُمَّته، الذين يعصونَ أمرَهُ اليوم ويتجاوزُون! يقول محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- كما في المتفق عليه: "فيأتوني فأقول أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا، فيقال: "يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع" فأقول: يا رب أمتي أمتِي، فيقال: "انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان".
فأنطلق فأفعل ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد وأَخِرُّ له ساجدا، فيقال: "يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع".
فأقول: يارب أمتي أمتي، فيقال: "انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان" فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدا، فيقال: " يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع" فأقول: يارب: أمتي أمتي، فيقال: "انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنَى أدنى مثقال حبة من خردلة من إيمان فأخرجه من النار".
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة في الله: لقد علمَ الصحابةُ قيمَةَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وأيقنُوا أنَّهُ من أخرجَ أرواحَهم من ظُلُمات الجهل والشرك والأوهام، إلى نُور الهداية والتوحيد والإيمان، وتسبَّبَ في تخليصها وعتقها من النِّيران، علمَ الصحابةُ -رضي الله عنهم- أنَّهم لو حملُوهُ فوقَ رؤوسهم ما وَفَّوا حقَّهُ العظيم ولا نصيفَه! علمَ الصحابةُ -رضي الله عنهم- ذلك فكانُوا أفضلَ صاحبٍ وخيرَ نصيرٍ وأصدقَ وزيرْ! وراحت تلكَ الأيَّامُ الصادقةُ التي لم يبقَ منها غيرُ الذكرياتِ وأثرِ الحبرِ في الأوراق!.
قال عمرُ –رضي الله عنه-: "أما أنا فأتمنى لو أنها مملوءةٌ رجالاً مثل أبي عبيدةَ بنِ الجرَّاح، ومعاذِ بن جبل، وسالم مولى أبي حُذَيْفَة، وحُذَيْفَةَ بنِ اليمان فأستعملهم في طاعة الله -عز وجل- "[المستدرك(3/226) وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر: تهذيب الكمال للمزي(5/505)].
هذا سعدُ بن الربيع -رضي الله عنه-، وهو في آخر رمَق في أحد، لا يوصي بجني الثمار، ولا برعاية الصغار، وإنما يوصي أصحابَهُ بفداء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بنفوسهم قبل نفسه، قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: "إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له، يقول لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف تجدك؟" قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة: ما بين طعنة رمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقال: "وعلى رسول الله السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله، وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته"[رواه ابن هشام(2/94-95)، والحاكم(3/201) وصححه ووافقه الذهبي].
خُبَيْبُ -رضي الله عنه- يُرفع على الخشبة ليصلب؛ فيقولُ لهُ المشركون شماتةً واستهزَاءً: أتحب أن محمدا مكانك؟ فيقول لهم كلمةَ حبٍّ صادقٍ لا مثيلَ له: "لا؛ والله العظيم؛ ما أحب أن يفديَنِي بشوكة يشاكُهَا في قدمه؛ وهو في مكانه الذي هو فيه؟".
ما أجلّها من أيّام -معشر المؤمنين-، خلفَت من بعدها أيَّامٌ ضعُفَ فيها الإيمانُ، وتراجعت فيها الحقائقُ، وخارت فيها الهممُ والعزائم، فلله الأمر من قبل ومن بعد!.
أبو هريرة -رضي الله عنه- لما مات النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لم تفارقهُ صورتُهُ على الإطلاق حتى مات، كان إذا حدَّثَ بحديثه بعد موته تأخذهُ العبرةُ ويجهشُ بالبكاء شوقًا لرؤيته -صلى الله عليه وسلم- وسماع صوته؛ ففي تاريخ دمشق لابن عساكر عن عبد الوهاب المدني قال: "... مررتُ بالمدينة فإذا أبو هريرة جالسٌ في المسجد، حولهُ حلقةٌ يُحدّثُهُم، فقال: حدَّثني خليلي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-، ثمَّ استعبرَ فبكى، ثم عادَ فقال: حدَّثني خليلي -صلى الله عليه وسلم- نبيُّ الله أبو القاسم، ثم استعبرَ، فبكى، ثم قام".
أيها الإخوةُ في الله: حقٌّ علينا أن نتشبَّهَ بالصالحين، فنتعلَّمَ من شمائله -صلى الله عليه وسلم- وحقوقِهِ وأوصافِهِ ما يجعلنا نشتاقُ إليه بقلوبنا، ونستقيمُ على سُنّتِهِ في أقوالنا وأحوالنا وجوارحنا، عسى أن نكونَ من الشاكرين، وممَّن أحسنَ فسبقت له من الله العظيم الحُسنى.
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.