الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أعلام الدعاة |
الإجازة الصيفية عُمُرٌ من حياتِك طويلٌ فاستثمرها.. استثمر كلَ يومٍ.. بل كلَ ساعةٍ.. بل كلَ دقيقةٍ.. بل كلَ ثانيةٍ.. تقرب إلى اللهِ تعالى بعملِ الصالحاتِ.. رتِّل قرآنًا.. احفظ آيةً.. راجع حفظًا.. اشرح حديثًا.. اقرأ كتابًا.. بِرَّ والدًا.. صِل رَحِمًا.. ساعد محتاجًا.. أطعِم مسكينًا.. اكفل يتيمًا.. أكرِم ضيفًا.. زُر جارًا.. قدِّم هديةً.. أدِ عمرةً.. صُم يومًا.. صلِّ نافلةً.. انشر خيرًا.. احضر درسًا.. الزم شيخًا.. وزِّع شريطًا.. نسِّق محاضرةً.. قل...
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اَللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ..
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
بعثَ الوزيرُ عليُ بنُ عيسى طبيبًا نصرانيًّا ليعالجَ الشيخَ.. فدخلَ على شيخٍ كبيرٍ.. تجاوزَ الثمانينَ من عُمُره.. وقد أصابه المرضُ فسألَه عن حالِه وعن برنامجِه اليومي؟ فأخبره الشيخُ رحمَه اللهُ تعالى عن أوقاتِ يومِه:
كانَ إذا استيقظَ صلى الفجرَ ثم بقيَ في مصلاه حتى تطلعَ الشمسُ ثم يبقى مع أهلِه في بيتِه وينامُ القيلولةَ قبلَ الظهرِ ثم يصلي الظهرَ ثم يبقى يصنِّفُ إلى العصرِ ثم يذهبُ إلى صلاةِ العصرِ فيصلي العصرَ ثم يقعدُ للتدريسِ إلى المغربِ، ثم بعدَ المغربِ يبدأُ في تدريسِ الفِقهِ واستقبالِ الطُّلابِ إلى صلاةِ العِشاءِ ثم يُغلقُ عليه بعدَ صلاةِ العشاءِ بابَ دارِه فلا يدخلُ عليه أحدٌ إلا في أمرٍ ضروريٍ، وينقطعُ للتَّصنيفِ مع المحافظةِ على حزبِه من القرآنِ الكريمِ، وكان يقرأُ كلَ ليلةٍ حظًا وافرًا.. برنامجًا حافلاً حوى حقَ اللهِ تعالى وحقَ النفسِ وحقَ الأهلِ وحقَ الناسِ.. حوى العلمَ والعبادةَ ونفعَ الناسِ.
فقالَ الطبيبُ النصرانيُ العبارةَ الخالدةَ: "واللهِ لو كنتَ في ملتِنا؛ لَعُدِدتَ من الحواريين الذين هم رسلُ المسيحِ عليه السلام".
إخوة الإيمان: إن هذا الشيخَ هو ابنُ جريرٍ الطبري رحمَه اللهُ تعالى صاحبُ المؤلفاتِ العظيمةِ.. الذي قال لتلاميذِه يومًا: أتنشطونَ لتفسيرِ القرآنِ؟ قالوا: كم يكونُ قدرُه؟ قال ثلاثونَ ألفَ ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمارُ قبلَ تمامِه ! فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، وأملاه في سبعِ سنين.
ثم قالَ لهم: أتنشطونَ لتاريخِ العالمِ من آدمَ إلى وقتِنا هذا؟ قالوا كم قدرُه؟ فذكرَ نحوًا مما ذكرَ في التفسيرِ، فأجابوه بمثلِ ذلك ! فقال: إنّا للهِ ! ماتتْ الهممُ ! فاختصره في نحوٍ مما اختصر التفسير.
قال الخطيب: وسمعتُ السِّمْسِميَ يحكي أن ابنَ جريرٍ مكثَ أربعينَ سنةٍ، يكتبُ في كلِ يومٍ منها أربعينَ ورقة.
هذا مثالٌ يا أهلَ الإسلام إلى سلفِكم وكيفيةِ استغلالِهم لأوقاتِهم.. فكيف بكم أيها الأحفادُ؟
عبادَ الله: أليس الوقتُ هو الحياةُ.. ألستَ مسئولاً عنه؟.. بلى واللهِ.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ».
ألستم تقرءون في كتاب الله تعالى: (وَالْفَجْرِ).. (وَالضُّحَى).. (وَالْعَصْرِ).. (وَاللَّيْلِ).. يقسم الجبارُ جلَ جلالُه بالأوقاتِ تعظيمًا لشأنِها.. وإنها واللهِ لعظيمةٌ.
إن المؤمنَ لا يمكنُ أن يفرطَ بأي ساعةٍ من ساعاتِه وهو يعلم أن هذا اليومَ إذا ذهبَ فلن يعودَ إلى يومِ القيامةِ.. جاء معاويةُ بنُ خَديج يبشِّرُ أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ الخطاب رضي اللهُ تعالى عنه بفتْحِ الإسكندريَّة.. فوصلَ المدينةَ وقتَ القيلولةِ فظنَّ أنَّ عمرَ نائمٌ يستريحُ فمالَ إلى المسجدِ، ثم عَلِمَ أنَّه لا ينام في ذلك الوقت، فقال عمرُ رضيَ اللهُ عنه: ماذا ظننتَ يا معاويةُ؟ قال: ظننتُك قائِلاً –أي نائمٌ القيلولة-.. فقالَ عمر لمعاوية: لئن نِمتُ النَّهار، لأضيعنَّ حقَّ الرَّعيةِ، ولئن نمتُ الليلَ، لأضيعنَّ حقَ اللهِ، فكيف بالنَّومِ بين هذينِ الحقَّينِ يا معاوية..
اللهُ أكبرُ يا عمر.. ليتك ترى المقاهي والاستراحاتِ التي بُنيت لتضييعِ الأوقاتِ..
يُذكر أن الشيخَ جمالَ الدينِ القاسمي رحمه اللهُ مَرّ بمقهى.. فرأى روادَ المقهى وهم منهمكونَ في لِعبِ الورقِ والطاولةِ وشربِ المشروباتِ، ويمضون في ذلك الوقتَ الطويلَ.. فقال رحمَه الله: لو كان الوقتُ يُشترى لاشتريتُ من هؤلاءِ أوقاتِهم.
أخي.. اغتنمْ أوقاتِك كما أوصاكَ نبيُك صلى اللهُ عليه وسلم: «اغتنمْ خمسًا قبلَ خمسٍ.. حياتَكَ قبلَ موتِكَ.. وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ.. وشبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ.. وغِنَاكَ قبلَ فقرِكَ.. وفراغَكَ قبلَ شغلِكَ»، لذلك كانَ ابنُ عمرَ رضي الله تعالى عنهما يقولُ: "إِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ".
دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ | إِنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِ |
إننا في هذه الحياةِ نحتاجُ إلى قُدُواتٍ في اغتنامِ الأوقاتِ.. فابحثْ عن حريصٍ على وقتِه وهم موجودونَ والحمدُ لله تعالى وتعلم منه فإنه أنفعُ لقلبِك.. هذا حمادُ بنُ سلمةَ يقول: "ما أتينا سليمانَ التيمي في ساعةٍ يُطاعُ اللهُ عزَّ وجلَ فيها إلا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعةِ صلاةٍ وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعةُ صلاةٍ وجدناه إما متوضئًا، أو عائدًا مريضًا، أو مشيعًا جنازةً، أو قاعدًا في المسجدِ، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي اللهَ عز وجل".
فماذا كانَ أثرُ هذه القدوةِ الحسنةِ على حمادِ بنِ سلمةَ رحمه اللهُ تعالى؟ قال عنه تلميذُه الإمامُ عبدُالرحمنِ بنُ مهدي رحمه اللهُ تعالى: "لو قيلَ لحمـادِ بنِ سلمة: إنك تموتُ غدًا ما قَدِرَ أن يزيدَ في العملِ شيئًا".
إياكَ والخسارةَ في التعاملِ مع الفراغِ كما قال عليه الصلاة والسلام: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» فلا تكن من الكثيرِ الخاسرين وكن من القليلِ الرابحين.. كن شحيحًا على وقتك.. بخيلاً به.. قال أبو بكرٍ بنُ عياش: "أحدُهم لو سقطَ منه درهمٌ لظلَّ يقولُ: إنا للهِ ذهبَ درهمي، وهو ذهبَ يومُه ولا يقولُ: ذهبَ يومي ما عملتُ فيه".
يحكى عن ألبرت أينشتاين الفيزيائي الألماني الشّهير، أنّه من شدّةِ حرصِه على الوقتِ كان لا يلبسُ الأقمصةَ بأكمامٍ ذواتِ الأزرارِ؛ لأنّ غلقَها وفتحَها يضيعُ عليه وقتًا ثمينًا.. هذا وهو لا يرجو اللهَ واليومَ الآخر.. ولكن عندنا في الإسلام أمثلةٌ أعظم..
يقول أبو الوفاءِ بنُ عَقيل رحمه اللهُ تعالى: "إني لا يحلُ لي أن أضيعَ ساعةً من عُمُري، حتى إذا تعطّلَ لساني عن مذاكرةٍ ومناظرةٍ، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حالِ راحتي وأنا مُستطرحٌ، فلا أنهضُ إلاّ وقد خطرَ لي ما أسطرُه، وأنا أقصرُ بغايةِ جُهدي أوقاتَ أكلي، حتّى أختارَ سَفَّ الكعكِ وتحسّيه مع الماءِ على الخبزِ؛ لأجلِ ما بينهما من تفاوتِ المضغِ توفُّرًا على مطالعةٍ أو تسطيرِ فائدةٍ لم أدركها فيه".
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ. أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ، لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد: أخي المبارك.. لقد أقبلتِ الإجازةُ الصيفيةُ فماذا أعددتَ لها من أمر الدنيا والآخرةِ..
كانَ ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه يقولُ: "إني لأكره أن أرى الرجلَ فارغًا، لا في عملِ الدنيا، ولا في عملِ الآخرةِ".
إن هذه الإجازةَ عُمُرٌ من حياتِك طويلٌ فاستثمرها.. استثمر كلَ يومٍ.. بل كلَ ساعةٍ.. بل كلَ دقيقةٍ.. بل كلَ ثانيةٍ.. تقرب إلى اللهِ تعالى بعملِ الصالحاتِ.. رتِّل قرآنًا.. احفظ آيةً.. راجع حفظًا.. اشرح حديثًا.. اقرأ كتابًا.. بِرَّ والدًا.. صِل رَحِمًا.. ساعد محتاجًا.. أطعِم مسكينًا.. اكفل يتيمًا.. أكرِم ضيفًا.. زُر جارًا.. قدِّم هديةً.. أدِ عمرةً.. صُم يومًا.. صلِّ نافلةً.. انشر خيرًا.. احضر درسًا.. الزم شيخًا.. وزِّع شريطًا.. نسِّق محاضرةً.. قل أذكارًا.. ادعُ دعاءً.. انصر مظلومًا.. أغِث ملهوفًا.. أعِن عاجزًا.. عُد مريضًا.. اتبع جنازةً.. واسِ مبتلىً.. عَزِّ مصابًا.. اسقِ عطشانًا.. أمط عن الطريق أذىً.. وهكذا تقلبْ في طاعةِ اللهِ تعالى.
ولا تنسَ نصيبَك من الدنيا..
اعمل صيفًا.. أتقِن صنعةً.. احضُر دورةً.. احرِز شهادةً.. تعلم لغةً.. حسِّن خطًا.. اكتُب مقالاً.. طوِّر موهبةً.. ابتكِر اختراعًا.. اكسِب صديقًا.. حصِّل مهارةً.. اصنَع برنامجًا.. مارِس رياضةً.. نمِّ هوايةً.. نظِّم رحلةً.. صمِّم مسكنًا.. وتذكر قولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ».
اللهم بارك لنا في أوقاتنِا وأعمارِنا وأرزاقِنا يا ربَ العالمين.. اللهم علمْنا ما ينفعُنا وانفعَنا بما علمتَنا واجعلنا من عبادِك الصالحين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم اختم بالصالحاتِ أعمالَنا واجعلْ خيرَ أيامِنا يومَ لقائِك. ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذابَ النار.