الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - فقه النوازل |
الوقار والسكينة والهدوء والانضباط داخل المسجد, يعين الفرد على النظام والوقار والأدب, فيدخل إليها الداخل فيزداد أدبه وإيمانه, ويشتد في الخُلق والحق بنيانه، ولهذا نرى أن الإسلام نهى عن الضحك واللعب واللغو في المساجد. والدولة الإسلامية لن تقوم والدين لن ينتشر والخير لن يعم؛ إلا بأولئك الرجال الذين تربوا في المساجد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي نسب المساجد إليه تشريفاً وتعظيماً, وأذن أن ترفع تبجيلاً وتكريماً, وجعلها أحب البقاع إليه لعظمة وظائفها تعبداً وتربية وتعليماً, شهد لعمَّارها بالإيمان, وكافأهم على عمارتها بالجنان, وأشركهم في ثواب روادها من البر والإحسان, أهوى إليها أفئدة المؤمنين وأقر فيها عيون المتقين, وجعلها مثابة للراكعين الساجدين, ومنتدى للتشاور في أمور الدنيا والدين, فكم عقد في ساحاتها من ألوية ظافرة, وكم بويع على منابرها لملوكٍ لدين الله ناصرة, ولعدوها قاهره, وكم انتظم في جوانبها من حلقات بفنون العلم عامرة, ولأطراف الأرض بأنوارها غامرة, وكم خرج من زواياها من عالم نحرير, وعابد شهير, وقائد كبير, وطبيب بكل إعجاب جدير.
والصلاة والسلام على من أولى المسجد كل عناية, وخصه بجزيل الرعاية, وبلغ في الاهتمام به إلى أبعد غاية, قدّم بناه على داره, وألصق بيته بجداره, واختصه من بين البيوت بقربه وجواره, ورغب في بنائه وتعميره, وأمر بنظافته وتطيبيه وتطهيره, وشرع من الأحكام والآداب ما يحفظ مكانته العالية, ومنزلته السامية, صلى الله عليه وعلى آله ذوي القدر العلي, والفخر الجلي, والصراط السوي, وعلى أصحابه عمار المساجد, والقدوة الصالحة لكل عابد وزاهد, وداع إلى ربه ومجاهد, وعلى التابعين لهم بإحسان من كل مهتد وراشد, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
عباد الله: المساجد بيوت الله, وهي أحب الأماكن إلى الله, وأنقى بقاع الأرض, وأطهر ساحات الدنيا, منها شع نور الهداية وبزغ فجر الدعوة, وفيها تزكّى الأنفس وتقر الأعين وتهدأ القلوب وترتاح الأرواح, ولهذا أمر الله -جل جلاله- بإقامتها وعمارتها وشهد لأهلها بالإيمان والهداية, ووصفهم بوصف الرجولة, فقال (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور : 36-37]، وقال (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة : 18].
بل أضافها ربنا -جل جلاله- إلى نفسه إضافة إجلال وتشريف, وتوعد من منع ذكره فيها وسعى في خرابها؛ بخزي الدنيا وعذاب الآخرة, فقال -سبحانه- (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
إن المساجد في عهد السلف الصالح -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- كانت منارات تُضيء الدنيا وتُصلح المجتمعات, وتُخرّج الرجال وترَبِّي الأجيال, وتزودهم بالغذاء الروحي والزاد الإيماني, وتُكسبهم الأخلاق الحميدة والسمات الفريدة, وتزيل عنهم أوضار الجاهلية ونزواتها الشريرة, ولم يقتصر دورها -كما هو الواقع اليوم- على أداء الصلاة وخطبة الجمعة وتلاوة القرآن؛ وإنما كان لها دور إيجابي فعال في كل نواحي الحياة؛ التعبدية والتربوية والتعليمية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية... فأخرجت قادة الدنيا الذين غيروا وجه التاريخ, وقادوا البشر وسادوا الأمم بعد أن كانوا بدواً رعاة للغنم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح : 29].
كانت المساجد في عهدهم جامعةً للعلم, ومحكمة للحق, ومركزاً للتجمع, ونقطة للانطلاقة, ومكاناً للعبادة, ومركزاً للقيادة, وبرلماناً للسياسة, وأساساً للدولة, عقدَ فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألوية الجيوش, واستقبل فيها الوفود, وأبرم فيها المعاهدات, وأقام الاجتماعات والمشاورات, فعندما وصل -صلى الله عليه وسلم- مهاجراً من مكة المكرمة إلى طيبة الطيبة كان أول مشروع قام به هو وضع حجر الأساس لبناء المسجد النبوي؛ ليكون مسجده -صلى الله عليه وسلم- روضة من رياض الجنة, وميداناً من ميادين التجارة الرابحة وسوقاً من أسواق الآخرة؛ يتعبد فيه العابدون ويلوذ به الحائرون, ويلجأ إليه الخائفون ويأوي إليه المساكين.
تعلقت بالمساجد أفئدتهم وطابت فيها نفوسهم, وأنست بالجلوس فيها قلوبهم, فلا يملون الجلوس فيها وإن طالت مدته, ولا يسأمون التردد عليها وإن بعدت مسافته, يحتسبون خطاهم إليها, ويستثمرون أوقاتهم فيها, ويتسابقون في التبكير إليها, ويجدون راحتهم بين جنباتها, ويتوجهون فيها إلى مولاهم وحده بالعبادة, قال تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) وعدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, وذكر منهم: "ورجل قلبه معلق بالمساجد" [البخاري( 1423) ومسلم 1712)].
أيها المسلمون, عباد الله: إذا أردنا أن تكون مساجدنا كمساجدهم تؤدي رسالتها كاملة, وتقوم بدورها في إصلاح اعوجاج الأمة وسد الخلل في مجتمعاتها, فعلينا أولاً وقبل كل شيء بإصلاح المساجد ذاتها؛ حتى تكون صالحة لصهر النفوس وإحداث التغيير, إذ كيف نطمع أن يكون المسجد مركزاً للدعوة ومنبراً للهداية, وقلعة للإيمان وحصناً للفضيلة وباباً للإصلاح, وبعضها لم يؤسس أصلاً على التقوى أولم يبنَ على الطريقة الشرعية الصحيحة, فإذا كانت المساجد قد بنيت لعبادة الله تعالى وتوحيده؛ فينبغي حتما أن تصان عن كل مظهر يتنافى مع التوحيد, فلا يتخذ المسجد قبرا ولا تبنى على القبور, فإن في ذلك مخالفة صريحة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً" [البخاري(1390)مسلم(529)].
كما يجب أن تصان المساجد عن كل ما لا يليق بها كالزخارف والرسومات, والضوضاء والخصومات ورفع الأصوات, وإنشاد الضالة وتعاطي التجارة, والإحداث فيها وصيانتها من الروائح الكريهة؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم, يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : 31] ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ, إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ" [رواه البزار: (1962)].
فإذا أسست المساجد على تقوى الله ورضوانه وهدي رسوله -صلى الله عليه وسلم- بعدها علينا أن نحيي دورها المنشود, ونسعى جاهدين بكل ما أوتينا من قوة لكي نعيد للمسجد رسالته السامية, ومكانته العالية التي كان عليها في صدر الإسلام؛ ليؤدي في عصرنا نفس الدور الذي أداه في عصر الرعيل الأول.
ففي الناحية التربوية يجب أن يكون المسجد هو بيت التربية, ومحضن الصلاح ودار الفلاح, لأنه المكان الخصب لتزكية الأرواح وتربية النفوس, ولذلك أمر الشارع الحكيم بجملة من الآداب لداخل المسجد, وحثه على التحلي بها والالتزام بموجبها؛ لأنه بدخوله يصبح ضيفاً على الرحمن بعيدا عن الشيطان.
كما أن اختلاط المسلم بالأتقياء والأصفياء والصالحين داخل المسجد والاستماع لتوجيهاتهم وإرشاداتهم؛ يُكسبه السلوك الحسن والأخلاق الحميدة والصفات النبيلة.
ولحلِق الوعظ ودروس الرقائق عظيم أثر في تنمية أخلاقيات المجتمع المسلم وتهذيبها, فتتجسد فيه كثير من الأخلاق الطيبة, ويبتعد عن السلوكيات السيئة؛ لما لهذه المواعظ من روحانية وتأثير في ترقيق القلوب ومعالجة ما في المجتمع من أدواء وعيوب، واستئصال لكل خلق ذميم حتى يعيش المجتمع المسلم نقيًّا راشداً مُرِبياً: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت : 45]، يقول القرطبي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أخبر بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر, وذلك لما فيها من تلاوة القران المشتمل على الموعظة، والصلاة تشغل كل بدن المصلي فإذا دخل المصلي في محرابه وخشع وأخبت لربه, وذكر أنه واقف بين يديه وأنه مطلع عليه ويراه, صلحت لذلك نفسه وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تعالى وظهرت على جوارحه هيبتها ولم يكد يفتر عن ذلك حتى تظلله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة".
كما أن الوقار والسكينة والهدوء والانضباط داخل المسجد, يعين الفرد على النظام والوقار والأدب, فيدخل إليها الداخل فيزداد أدبه وإيمانه, ويشتد في الخُلق والحق بنيانه، ولهذا نرى أن الإسلام نهى عن الضحك واللعب واللغو في المساجد.
والدولة الإسلامية لن تقوم والدين لن ينتشر والخير لن يعم؛ إلا بأولئك الرجال الذين تربوا في المساجد, ولهذا بدأ -صلى الله عليه وسلم- ببناء المسجد، وفي هذا يقول الشاعر:
لا بد من صنع الرجال ، ومثله صنع السلاح | وصناعة الأبطال علم في التراث له اتضاح |
ولا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح | في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح |
في صحبة الأبرار ممن في رحاب الله ساح | من يرشدون بحالهم قبل الأقاويل الفصاح |
وغراسهم بالحق موصول, فلا يمحوه ماح | من لم يعش لله عاش وقلبه ظمآن ضاح |
ومن الأدوار العظيمة التي يؤديها المسجد في إصلاح المجتمع: أنه يسهم إسهاماً كبيراً في تعليم العلم للناس, فتصبح المساجد جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة, تدرس فيها العلوم المختلفة ويتخرج منها علماء عمالقة في كل المجالات, وفي مختلف المهن والكفاءات.
فقد كانت لجابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم. وهذا أبو هريرة -رضي الله عنه- مرَّ ذات يوم بسوق المدينة فوقف عليها وقال: "يا أهل السوق ما أعجزكم!!" قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: "ذاك ميراث النبي -عليه السلام- يقسم وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه" قالوا: وأين هو؟ قال: "فـي المسجد!" فخرجوا سراعاً ووقـف أبو هريرة لم يبرح مكانه حتى رجعوا فقال لهم: "ما بكم؟" فقالوا: يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر شيئاً يقسم, فقال لهم أبو هريرة: "وما رأيتم في المسجد أحداً؟" قالوا: بلى رأينا قوماً يصلون وقوماً يقرؤون القرآن وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام فقال لهم أبو هريرة: "ويحكم فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-" [الطبراني في الأوسط(1429)].
وكان المسجد ملتقى الأدباء والشعراء والمتخصصين, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن عمر -رضي الله عنه- مرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك..." [مسلم (2485)].
وخذ مثلاً على ذلك: الحرمين الشريفين فلا تسل عن ضخامة إنتاجهما ونوعية خريجيهما, وسل عن جامع عمرو بن العاص قلب الفسطاط الفكري ومهد الحركة العلمية في مصر, والذي كان يشهد مئات الزوايا العلمية، والجامع الأموي في دمشق, وجامع المنصور ببغداد, وجامع القرويين بالمغرب, الذي امتاز بالنظام التعليمي الجامعي وطرق التدريس, فيه فكان له شروط دقيقة للتعيين ووظائف التدريس, وتخصيص كراسي الأستاذية والإجازات الفخرية, وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة والأساتذة, ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين فقصدها المسلمون وغير المسلمين من شتى أرجاء العالم, أما جامع الزيتونة بتونس فقد أبدع في شتى مجالات العلوم النقلية والعقلية, وضمت مكتبته العامرة ما يزيد عن مائتي ألف مجلد, وكذلك كان حال الجامع الأزهر الذي بدأ كغيره, مسجداً لإقامة الشعائر التعبدية وسرعان ما أصبح جامعة يدرس فيها العلوم المختلفة.
فبيت الله جامعة مثمرة منتجة تنجب فطاحل العلماء وكبار المقرئين في كل عصور الإسلام الزاهية, مما يؤثر ذلك على المجتمع إيجابيًّا؛ فيخرِج أناسًا صالحين نافعين لمجتمعهم يعملون بكتاب الله, ويبذلون الغالي والنفيس من أجل خدمة عباد الله.
وقد أشاد النبي -صلى الله عليه وسلم- بأهمية الدور التعليمي للمسجد وحث عليه فقال: "ومَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ..." [مسلم (2699)].
ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء, لما ورد عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قالت النساء للنبي -صلى الله عليه وسلم-: " غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك, فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن" (البخاري(101)].
وفتح المسجد بابه للمرأة لتشهد دروس العلم, ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم ومشاركة الرجل في الحياة العلمية, وقد أُعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- بإقبال الأنصاريات على العلم فقالت: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين" [البخاري: (50)].
فالمسجد مركز علم ودعوة لا يقف دَوْرُه عند الوعظ والفتوى والحل والحُرمة -مع شرف هذا-وإنما كان له دورٌ كبير أيضًا في تصحيح الأخطاء, ومعالجة التصرفات الخاطئة, وتعليم الناس الصواب, وإرشاد المجتمع إلى السبيل الأمثل والطريق الأقوم، وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلاً من بني أسد على صدقة, فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إليَّ فصعد النبي -صلى الله عليه وسلم- المنبر وحمد الله -سبحانه تعالى- وأثنى عليه ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيأتي ويقول: هذا لك وهذا لي؟! فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيُهدى إليه أم لا؟! والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته؛ إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر, ثم رفع يديه وقال ثلاثًا: ألا هل بلَّغْت؟!" [البخاري (7174) ومسلم (1832)]. وحديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس يوم الجمعة. فقال: "صليت يا فلان؟" قال: لا . قال: "قم فاركع ركعتين". وفي رواية "فصل ركعتين" [البخاري(930)مسلم(875)].
كذلك يقوم المسجد بتوعية المجتمع وتثقيفه وتعليمه من خلال خطبة الجمعة وحلق الذكر, وتقديم الفتاوى والاستشارات وتحديد المواقف إزاء النوازل والمستجدات؛ مما يساهم في توعية الناس وتثقيفهم في أمور دينهم ودنياهم.
يقول الله -جل جلاله وعز كماله-: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ -أي في أي مسجد كنتم- وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف : 29].
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل المساجد للمسلمين معابد يتقربون بها إلى ربهم ذي الآلاء والمحامد. الحمد لله الذي جعل في الأرض بيوتاً للعبادة وأمكنة تحصل فيها كل راحة وسعادة, والصلاة والسلام على رسول الله الذي جعل المسجد منطلقاً لكل ريادة, ومجتمعاً للمؤمنين ومركزاً للقيادة, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ذوي الشرف والسيادة, الذين عمروا المساجد طلباً لجنة الله والزيادة, وسلم تسليماً مزيداً.
أما بعد:
عباد الله: أما دور المسجد في الجانب الاجتماعي فحدث ولا حرج, فقد كان المسجد مقراً لاجتماعهم ومركزاً لمؤتمراتهم ومحلاً لتشاورهم وتناصحهم، فيه يتلاقون ويتآلفون ويتعارفون وعلى الخير يتعاونون يتلمسون فيه غائبهم ويودعون مسافرهم ويعودون مرضاهم.
فأهل الحي الواحد يجتمعون في المسجد كل يوم خمس مرات, يؤدون الصلاة جماعة وتسود بينهم روح الود والمحبة والتقارب والألفة، إذ تتكرر رؤية بعضهم لبعض والتقاؤهم في مكان واحد جنباً إلى جنب في صف واحد, مما يعمق الاتحاد والإخاء بينهم ويجعل منهم قوة متماسكة ووحدة متآلفة. فيقابل المسلم أخاه في المسجد فيسلم عليه ويبادله تحية الإسلام التي تعمق روح التضامن بين المسلمين.
وهذا هو الأصل في المساجد أن يربي في أبناء الأمة الإسلامية روح الألفة والجماعة والاتحاد, ويدفع بالجماعة المسلمة لتشكل للأمة مؤتمراً مصغراً لطرح مشاكلها وإيجاد الحلول لها وغير ذلك من الأدوار الفعالة.
وفي المسجد تتصافى النفوس والقلوب, فليس هناك طبقية تمنع دخول المسلم إليه مهما كان لونه وجنسه وقومه ولغته وسنه ومكانته الاجتماعية, فلا فرق هناك بين ملك ورعية وبين غني وفقير وعامل ووزير, ولا بين شريف ووضيع فالكل هنا سواسية كأسنان المشط.
أما الجوانب الاجتماعية العملية, فقد أسهم المسجد إسهاماً فاعلاً في خدمة الناس وإصلاح أحوالهم المعيشية والاجتماعية, فكان المسجد دار إغاثة ورعاية اجتماعية، تُستقبل وتقسم فيه الصدقات, ويدعى فيه الأغنياء إلى البذل والميسورين إلى الإنفاق على إخوانهم المحتاجين, وخصص النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده مكاناً لإيواء الفقراء الغرباء, الذين ليس لهم مأوى ولا محلة يسكنون فيها عرفوا بأهل الصفة.
كما كان المسجد داراً للقضاء وفض النزاع بين المتخاصمين، ومكاناً لعقد الزواج وعيادة للعلاج والتطبب, واستراحة لاستقبال المسافرين قبل أن يصلوا إلى أهلهم، وجمعية لكفالة الأيتام وتلمس همومهم ومعاناتهم, وإذا دهم المسلمين أمر أو نزلت بهم نازلة أو اجتاحتهم جائحة أو حدث لهم أمر طارئ, نادى فيهم المنادي الصلاة جامعة فيجتمعون في المسجد, وفي كل واحدة من هذه المسائل وردت أحاديث وآثار لولا خشية الإطالة لقمنا بسردها.
بل وصل الدور الاجتماعي للمسجد إلى درجة أنه كان مأوى للفارين من الهموم والغموم والمشاكل, فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم المسجد, فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: (أبو أمامة) فقال: "يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة" قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله قال: "أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته؛ أذهب الله -عز وجل- همك وقضى عنك دينك" قال: قلت بلى يا رسول الله قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, وأعوذ بك من العجز والكسل, وأعوذ بك من الجبن والبخل, وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" قال: ففعلت ذلك؛ فأذهب الله -عز وجل- همي وقضى عني ديني" [سنن أبي داود (1555)].
وللمسجد دور ريادي في معالجة مشكلة الفقر والقضاء عليها وإشاعة التعفف في المجتَمع, فقد أنزل الله في أهل الصفة قوله: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273]. فكان المسجد متكفلاً بهم مراعيًا لهم, لا يألو جهدًا ولو بالقليل في إطعامهم وإدخال السرور عليهم، "فإِذَا أَتَى النبيَّ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا, وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا" [أخرجه البخاري (6452)].
ومن حديث المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر النهار قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, لما رأى بهم من الفاقة, فدخل ثم خرج, فأمر بلال فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) إلى آخر الآية (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]والآية التي في الحشر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [الحشر: 18]، "تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة" قال: فجاء رجل من الأنصار بصرَّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت, قال: "ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام ورأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنه مذهبة" [مسلم (1017)].
ومن هنا وجب علينا -أيها المسلمون- أن نعيد للمسجد دوره الاجتماعي خاصة في هذا الزمن الصعب, الذي ضاقت فيه أمور الناس المعيشية وضعفت أحوالهم الاقتصادية, وذلك بجمع التبرعات وتوزيع الصدقات وتأسيس صندوق للإعانات, ومعالجة القضايا والمشاكل المالية والاجتماعية والاقتصادية.
وأما في الجانب السياسي والعسكري فقد كان للمسجد دور لا يتصور في خدمة المجتمع وإصلاح أموره في هذه الجوانب، فقد كان المسجد المعسكر الذي تعقد فيه الألوية ومنه تسير الجيوش لحماية المسلمين, وكان الجرحى فيه يعالجون والأسرى بسواريه يربطون, والوفود والسفراء فيه يستقبلون, وكان الأحباش يتدربون ويتبارزون ويتصارعون في المسجد, والرسول -صلى الله عليه وسلم- يشهد ذلك. ويراه أيضًا أزواجه -رضي الله عنهن- من خلفه. يقول المهلب -رحمه الله- في الفتح: "المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه".
كما كان للمسجد أعظم الدور في إلهاب حماس المسلمين, وتشجيعهم على الذود عن الحرمات والدفاع عن المقدسات, وشحذ النفوس للجهاد والقتال في سبيل الله, فصلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- خرج لملاقاة عدوه من النصارى بعد صلاة الجمعة, لسبع عشرة خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث و ثمانين وخمسمائة للهجرة, وخرج معه المسلمون من المساجد إلى الجهاد وهم يكبرون ويتضرعون فنصرهم الله. وللمسجد في خدمة الأمة وإصلاح المجتمع أدوار أخرى كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
عباد الله: إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ -حكومات وشُعُوباً وَمُؤَسَّسَاتٍ- أَنْ يَقُومُوا بِوَاجِبِهِمْ تِجَاهَ الْمَسْجِدِ ,وَيُعِيدُوا لَهُ دَوْرَهُ الرِّيَادِيَّ فِي التَّرْبِيَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ وَالأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ, وَأَثَرَهُ الْقِيَادِيَّ فِي تَوْجِيهِ الدَّوْلَةِ وَالْمُجْتَمَعِ, نَحْوَ الْوَحْدَةِ وَالأُلْفَةِ وَالْقُوَّةِ وَالنُّبُوغِ الْعِلْمِيِّ وَالتَّقَدُّمِ الْحَضَارِيِّ.
ويجب علينا جميعاً أن نحيي رسالة المسجد ونقوم بدورنا في بعثه وإحيائه في كل المجالات التي ذكرناها, كل على حسب مجاله وتخصصه, ولا يظن ظان أن الإمام أو الخطيب أو لجنة المسجد أو وزارة الأوقاف هم وحدهم المسئولون عليه، فكلنا مسئولون وكل واحد منا يجب عليه أن يشارك ويساهم في ترقية المساجد وتطويرها حسياً ومعنوياً, فالتاجر بماله ودعمه, والأمي بحثه ودعائه ويده, وطالب العلم بعلمه ودروسه وحضوره, والحافظ لكتاب الله بتعليمه وتحفيظه لغيره, والمدير والمربي بتوجيهاته وإرشاداته, والطبيب بخبراته واستشاراته, والمدرس في مجاله, ولو أن يساهم بحصص تقوية في المسجد للطلاب في المادة التي يتقنها.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن للمساجد أوتاداً. لهم جلساء من الملائكة فإن غابوا سألوا عنهم وإن كانوا مرضى عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم" [أحمد (2/418) وقال الألباني: حسن صحيح].
نسأل الله أن يجعلنا أنصاراً لدينه وخداماً لبيوته وأن يستعملنا في طاعته ويجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
اللهم اجعل مساجدنا مفتوحة دائماً للركع السجود نتقرب فيها إليك يارب يامعبود ونعمل على ما أمرتنا من الأوامر و الحدود طامعين أن ننال ما وعدتنا به في اليوم الموعود.
نسأله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا للقيام بأدوارنا في إحياء المساجد وإعمارها وأن يجعل مساجدنا على الوجه الذي يرضى به عنا وأن يجعلها شامخة دائماً وأبداً شاهدة لنا لا علينا إنه ولي ذلك والقادر عليه.