الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
فإذا استقام قلب العبد ولسانه فعليه أن يجاهد نفسه على لزوم طاعة الله, واجتناب معصيته في جميع الأحوال, إذ الاستقامة تعني فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة, وترك المنهيات كلها ظاهرها وباطنها, والتمسك بأمر الله -سبحانه وتعالى- فعلاً وتركاً, والاستقامة على ذلك كله صغيره وكبيره, قليله وكثيره, جليّه وخفيّه, والثبات عليه حتى الممات....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمر بالاستقامة, وبشر من استقام بالسلامة, وعدم الخوف في الدنيا وعدم الحزن يوم القيامة, وأعطى المستقيمين ما تشتهي أنفسهم في دار الخلود والكرامة؛ جزاء لاستقامتهم على العمل الصالح ودوامه.
والصلاة والسلام على من شيبته آية الاستقامة, وأحب من العمل استمراره ودوامه، صلى الله عليه وعلى صحبه الملازمين للخيرات المداومين على الطاعات, المستقيمين على الخيرات والمبرات, وعلى آله البررة الكرام، وصحبه مصابيح الظلام, وعلى من تبعهم بإحسان وعلى سبيلهم استقام, وتابعيهم بإحسان في هذا المقام وكل مقام ومن تبع سبيلهم وعلى منهجهم استقام.
ثم أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله والاستقامة على منهج الله, والثبات على طاعة الله, والاستعداد ليوم العرض على الله (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89].
عباد الله: جاء الصحابي الجليل سفيان بن عبدالله الثقفي -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطلب منه أن يضع له منهجاً يسير عليه, وتلخيصاً لكل ما يحتاج إليه؛ بحيث لا يحتاج معه إلى سؤال أحد آخر من الناس, فقال: يا رسول الله, قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قل آمنت بالله ثم استقم" [مسلم (38)].
هكذا أجاب من أوتي جوامع الكلم بهذا الجواب الجامع الشامل الموجز البليغ, أجابه بهذه الكلمات التي حوت أصول الدين وخلاصة المنهج, وغاية ما يدرك به المسلم سعادة الدنيا والآخرة "قل آمنت بالله ثم استقم".
فالاستقامة هي لزومُ الطريق المستقيم والثبات عليه في كل آن وحين، ولهذا قرن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جوابه بين الأمر بأن يقول المسلم آمنت بالله وبين أن يستقيم على ذلك ويثبت عليه, فقال: "قل آمنت بالله ثم استقم".
يقول عمر -رضي الله عنه- وأرضاه: "الاستقامة أن تستقيم على الأمر, ولا تروغ روغان الثعالب". يريد بذلك: أن المستقيمين يداومون على الاستقامة في جميع أحوالهم وأوقاتهم، وليس وقتاً دون وقت, ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "الاستقامة لزوم المنهج القويم" فإذا استقام الإنسان على المنهج القويم والطريق الوسط المستقيم فهذه كرامة من أعظم الكرامات, بل هي أعظم الكرامات على الإطلاق, كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: "أعظمُ الكرامة لزوم الاستقامة".
عباد الله: ما أحوجنا إلى أن نذّكر أنفسنا وإياكم بهذا الموضوع المهم "موضوع الاستقامة", وما أعظمَ افتقارَنا إليها خاصة في هذا الزمن الصعب, الذي طغت فيه الشبهات وكثرت فيه الشهوات وقلّ فيه الثبات, وضاعت فيه معالم الدين واستهزئ فيه بالمستقيمين, وضعفت فيه الاستقامة فصار التذكير بهذا الأمر من أهم الأمور التي يحتاجها المسلم في هذا الزمان.
لذا تجد أن الله -جل جلاله- وعز كماله قد وصف رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالاستقامة وأنه الهادي إلى الاستقامة قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52] ومع ذلك أمره وذكره بها فقال له: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112] فماذا نقول نحن عن أنفسنا وكيف سيكون الأمر لنا نحن بالاستقامة؟!.
إن هذه الآية العظيمة شيبت الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن فيها أمراً بتكليف عظيم ليس بالهيّن, فالأمر بالاستقامة يعني الأمر بلزوم الطاعة واجتناب المعصية في جميع الأحوال والدخول في السلم كافة, والتمسك بالمنهج كله دون قصور أو تقصير أو إفراط أو تفريط, ولذلك قال: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) أي: لتكن استقامتكم على وفق ما أمركم ربكم به فلا تكون الاستقامة على مجرد هوى أو رأي أو استحسان, وإنما على وفق ما أمر الله به, (وَمَن تَابَ مَعَكَ) يستقيمون كذلك على نفس الأمر.
ثم أعقب الأمر بالاستقامة بالنهي عن الطغيان والمجاوزة والقصور والتقصير, وذلك لأن الأمر بالاستقامة يحتاج إلى يقظة دائمة وتقويم دائب وتحرٍّ مستمر للحدود والضوابط, فقال (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) [هود : 112] (وَلَا تَطْغَوْا) يعني استقامة بلا إفراط ولا تفريط ولا طغيان ولا مجاوزة.
إنه أمر عظيم وتكليف شديد من هوله وشدته ظهر الشيب في رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فقال له صديق هذه الأمة وأعظمها استقامةً -حينما رأى الشيب في رأسه-: يا رسول الله أراك شِبْتَ؟ فقال له: "شيبتني هودٌ وأخواتها" [الترمذي(3297 ) ]. ويقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما نزل على رسول الله آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية يعني (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) ".
لما أتتك (قم الليل) استجبت لها | العين تغفو وأما القلبُ لم يَنَمِ |
تُمْسِي تُنَاجِي الذي أولاكَ نِعْمَتَهُ | حتى تغلغلتِ الأورامُ في القَدَمِ |
أزيزُ صَدْرِكَ في جَوْفِ الظلامِ سَرَى | ودَمْعُ عينيكَ مِثلُ الهاطِلِ العَمِمِ |
الليلُ تَسْهَرُهُ بالوَحيِ تَعْمُرُهُ | وشَيَّبَتْكَ بِهُودٍ آيةُ (اْسَتَقِمِ) |
وأصل الاستقامة تعني استقامة القلب على التوحيد, فمن استقام قلبه على توحيد الله ومعرفته ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه, والتوكل عليه وخشيته في السر والعلن والإعراض عما سواه فقد استقام، ومن استقام قلبه استقامتْ جوارحه كلها, فإن القلب هو ملك الأعضاء وهي جنوده فإذا استقام الملك استقامت الجنود وإذا وقع القلب في الشرك والعياذ بالله رتعت الجنود والرعية.
فالجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب, وحركات البدن كلها تابعة لحركات القلب, فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت، وإن كانت حركة القلب فاسدة فسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب.
ولهذا فسَّرَ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الاستقامة في قوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30] "بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره", وسئل عن الاستقامة فقال: "أن لا تشرك بالله شيئًا, يريد الاستقامة على محض التوحيد", وقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "استقاموا يعني أخلصوا العمل لله", فهذا أبوبكر وعثمان وغيرهما من الصحابة والتابعين والمفسرين -رضي الله عنهم- أجمعين, يرون أن الاستقامة هي في الأساس استقامة القلب على التوحيد الخالص, ونبذ الرياء والشرك بالله -سبحانه وتعالى-.
وأعظم ما يراعي العبد استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان, فإنه ترجمانُ القلبِ والمعبِّرُ عنه, ولهذا لمّا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل بالاستقامة أوصاه بحفظ اللسان, فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه, ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه" [صحيح الترغيب(2554) ]. وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن أعضاءه تكفّر اللسان, وتقول: اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا" [الترمذي (2407) ].
فإذا استقام قلب العبد ولسانه فعليه أن يجاهد نفسه على لزوم طاعة الله, واجتناب معصيته في جميع الأحوال, إذ الاستقامة تعني فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة, وترك المنهيات كلها ظاهرها وباطنها, والتمسك بأمر الله -سبحانه وتعالى- فعلاً وتركاً, والاستقامة على ذلك كله صغيره وكبيره, قليله وكثيره, جليّه وخفيّه, والثبات عليه حتى الممات.
وثبت من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قرأ علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[ فصلت:30], فقال: "قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم, فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها [مسند أبي يعلى الموصلي (3441 ) ]. يشير النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى معنى من معاني الاستقامة ولازم من لوازمها, وهو الاستمرار والدوام والثبات عليها حتى يأتيك اليقين.
أيها الناس: ربما يتصور البعض أن تحقيق الاستقامة بهذا المعنى وبهذه الصورة أمر صعب أو محال, خاصة في ظل هذا الزمن الذي انبعثت فيه سيول المغريات, وعصفت بالقلوب فيه رياح الشهوات والشبهات, لكن لا بد أن نعلم أن من رحمة الله -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين أنه تكفل وتولى بهدايتهم إلى الاستقامة, قال تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج : 54] ويقول (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) [إبراهيم : 27].
فعلى المرء أن يبذل جهده في تحقيق الاستقامة ويسأل ربه العفو والغفران إذا ما قصّر أو أخل في حياته بشيء منها. يقول الله -عز وجل- على لسان رسوله الكريم (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) [فصلت : 6]. وقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن الناس لن يعطوا الاستقامة حقها فقال: "استقيموا ولن تحصوا, واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة, ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" [ ابن ماجة (273)].
ولهذا أمرنا الله في كل ركعة من ركعات صلاتنا أن نسأله الهداية إلى الاستقامة؛ ففي كل يوم وليلة على الأقل في سبعة عشر ركعة نهتف ونقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة:6-7]، لأن تحقيق الاستقامة أمر فيه مشقة بالغة, ومن هنا أمرنا ربنا أن ندعوه كل يوم وفي كل ركعة بأن يحقق لنا هذا الأمر ويهدينا إليه.
فلابد من تدبر هذا المعنى واستشعاره وفهمه, إذ كيف يستقيم لمؤمن طلب الاستقامة والهداية إلى الصراط المستقيم في كل صلاة بل في كل ركعة من صلاته, وهو لا يعرف معنى الاستقامة التي طلبها, ولا يعرف كيف يحصل عليها ولا يستشعر عظم الجزاء لمن وفق لها وهدي إليها؟, فتدبروا هذه الآية جيداً حينما تقرؤونها في كل ركعة.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم قلت ما سمعتم وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي حقق بالاستقامة معالي الأمور, وضَمِنَ الأمنَ للمستقيمين يوم البعث والنشور, وكتب لهم عظيم الحسنات والأجور. والصلاة والسلام على من بواسطته عرفت الغيوب, واستقامت الدروب, ورفع الشك عن القلوب, وأخبر أن الخير كل الخير في الاستقامة على دينه والثبات على سنته -صلى الله عليه وسلم-, وسلم تسليماً كثيراً مباركاً مزيداً.
ثم أما بعد:
عباد الله: إن الاستقامة على منهج الله -سبحانه وتعالى- والالتزام بشرعه ظاهراً وباطناً هي السعادة في الدارين, وهي الأمان من الزيغ والضلال, ومن شأنها أن ترتقي بالإنسان إلى أعلى درجات التقوى والإيمان.
فالمستقيم تجده دائماً مقبلاً على الخير, نافراً من الشر؛ لأنه علم أن فلاحَه ونجاحَه وفوزَه ونجاته إنما هو مرهون بالاستقامة, ومكفول في الثباتِ على دين الله ولزومِ الصراط المستقيم, فلا ينحرِف مع الأهواء ولا الشهواتِ ولا البدع والخرافات.
عرفَ الطريقَ المستقيم الموصِل إلى الله وإلى جنّتِه ومغفرته ورضوانِه, فلمّا عرَف طريق الحقِّ واستبان له الهُدَى ووضَح له السبيل استقَام عليه, ولازَمه ملازمةً دائمة, وهذا دليلٌ على رسوخِ الإيمان في قلبه, أمّا المتذَبذِب فإنه يستقيم يومًا وينحرف يومًا, ويصلح يومًا ويفسدُ يومًا, وهذا دليلٌ على أنّ الإيمانَ في قلبه غير مستقرٍّ ولا ثابت.
أيها المسلمون: اعلموا إن الاستقامة خَصْلَةٌ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ السَّائِرِينَ إِلَى اللهِ يَنَالُ, المَرْءُ بِهَا أعظم الكَرَامَاتِ ويَصِلُ عَبْرَها إِلَى أَعْلَى المَقَامَاتِ, وهي مفتاحٌ للخيراتِ وسببٌ لحصول الرزق والبركات, يقول الله -عز وجل-: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن : 16] وذكر أن أهل الكتاب لو أنهم استقاموا على دينهم وتمسكوا به لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة : 66].
ولأن الاستقامةَ على الدينِ والثباتَ عليه والصبرَ على التمسكِ به أمرٌ شاقٌّ وصعبٌ, فقد جعلَ اللهُ ثوابَ الاستقامة أعظمَ الثواب, وأمّن أصحابها من العذاب, وتولَّى المستقيمين على صراطه بعنايته وظلَّلَهُم برحمتِه, خاصةً عندَ اللحظاتِ العصيبةِ التي يفارقون فيها الدنيا, وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة, فيجازيهم الله -سبحانه وتعالى- بأن يريهم أثر الاستقامة وعاقبتها الحميدة, قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت : 30-31).
تتنزل عليه الملائكة عند حالة الاحتضار ولحظات السكرات فتقول لهم: لا تخافوا مما تستقبلون من أهوال القبر والقيامة, ولا تحزنوا على ما تركتموه من أولاد وأموال, وأبشروا بالجنة دار الخلد التي أعدها الله للمستقيمين, ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم وهم فيها خالدون, لا يزولون ولا يحولون, وفي هذا أمان لهم من الماضي والحاضر والمستقبل.
إن الاستقامة هي زاد السائرين إلى الله، الراغبين في الوصول إلى دار المقامة ومنازل الكرامة في جنات الخلود. فاستقيموا -أيها الناس- ترشدوا, وامتثلوا لما أمركم الله به تسعدوا, وتظفروا في الدنيا والآخرة.
واعلموا أنه على قدر استقامة العبد وثباته في الدنيا على الصراط المستقيم, يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم يوم القيامة، وعلى قدر سيره إلى الله في هذه الحياة, يكون سيره على ذلك الصراط, فليُبعد العبد كل المعوقات التي تعيق سيره إلى الله, حتى لا تكون هذه المعوقات هي الكلاليب التي تخطفه وتعوقه عن المرور على الصراط ومجاوزته، نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بالاستقامة على التوحيد والبعد كل البعد عن الشرك، والاستقامة على السنة والحذر كل الحذر من البدعة، والاستقامة على الطاعة واجتناب المعاصي، والاستقامة في الأقوال والأفعال وفي السر والعلن حتى ننالَ هذا الأجر العظيم والثواب الكبير الذي أعده الله للمستقيمين وحتى نحذر من هذه المزلة والمدحضة التي يقع فيها غير المستقيمين على الصراط المستقيم.
أيها الكرام: لابد لنا من الاستقامة ولابد لنا من اليقظة التامة, ولابد من ترويض النفس على الطاعة والبعد عن المعصية؛ حتى نكون من المستقيمين على صراط الله المستقيم, فنحشر مع الذين أنعم الله عليهم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
فهؤلاء هم رسل الله وأنبياؤه وأولياؤه المهديين الهادين، فمن طلب الاستقامة في غير سبيلهم ضل وعن الحق زل، وفي الغواية والضلالة نزل وحل (مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].
ولنعلم علم اليقين أن الحياة البشرية لا يمكن أبداً أن تصلح وتستقيم إلا بالاستقامة على منهج الله, والحكم بما أنزل الله وإقامة الحياة وفق شريعة الله -سبحانه وتعالى-.
كما أحذر نفسي وإياكم من الاستقامة المتصنعة التي هي استقامة في الظاهر, لا تعدو أن تكون أمام الناس, فتجد البعض منا يَحْرِص على مظهره الخارجي ليكون مستقيماً على أمر الله, ويحافظ على بعض الأمور الظاهرة كالسواك واللحية وتقصير الثوب وغيرها, ويظن أن هذه هي الاستقامة, فهذه الأشياء وإن كانت من السنن الواردة والمظاهر الحسنة, إلا أن الاستقامة هي استقامة الظاهر والباطن, وليست استقامة الظاهر فقط فالمستقيم في الظاهر وإن رآه الناس مستقيماً فإنه في الحقيقة ليس بمستقيم, فلا بد من التنبه إلى حقيقة الاستقامة وإصلاح القلب واللسان والجوارح كلها من كل ما ينافي الاستقامة.
نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهذا وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. كما نسأله أن يرزقنا الاستقامة على هذا الدين العظيم والتمسك والالتزام بسنة النبي الكريم والسير على نهجه القويم.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين, المستقيمين على طاعتك , والمتبعين لسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم انصر دينك وانصر من نصر دينك واجعلنا من أنصار دينك يا رب العالمين, اللهم عليك بالكفرة من أهل الكتاب الذين يصدون عن دينك ويكذبون رسلك ويعادون أولياءك
اللهم فرِّقْ جمعهم وشتِّتْ شملهم وأدر عليهم دائرة السوء واجعل تدميرهم في تدبيرهم يا حي يا قيوم.