الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن قلوبنا غافلة عن شكر نعم الله التي نعيشها اليوم في واقعنا، ونتقلب فيها إننا في غفلة كبيرة عن أداء شكر الله.
لنسأل أنفسنا، هل شكرنا ربنا على نعمة الإسلام؟ فكم من المليارات من الناس في العالم من حرموا هذه النعمة، وعاشوا في ظلمات الكفر والطغيان. هل شكرنا ربنا على نعمة الاتباع أن جعلنا من أهل السنة أتباع الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته؟....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي لا تعد نعمه ولا تحصى، ولا تحصر آلائه ولا تستقصى، حمداً كثيراً وشكراً لا نفاد له، والحمد والشكر من أسباب نعماه، ثم الصلاة على المختار دائمة ما داوم الذكر والتسبيح أواه، وأشهد أن لا إله ولا مجير سواه، الشاكر الشكور، خلـق الخلق وأطعمهم لا يريد منهم جزاء ولا شكورا.
وأشهد أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الشاكرين، وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ثم أما بعد: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، والإكثار من شكره، والاستعداد ليوم العرض عليه.
عباد الله: إن نعم الله -سبحانه وتعالى- علينا تترى، وآلائه علينا تتوالى، نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، ومنن كثيرة، تحتاج منا إلى شكر المنعم، الذي أسدى إلينا هذه النعم، ومنّ علينا بهذه المنن، فحري بنا أن نقابل هذه النعم بالشكر ونجازي المحسن بالإحسان (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم : 34].
والشُكر هو: الاعتراف بنعمة المُنعِم على وجه الخضوع، وإضافة النِّعم إلى مُوليها، والثناء على المُنعِمِ بذكر إنعامه، وعكوف القلب على محبته، والجوارح على طاعته، وجريان اللسان بذكره.
فالشكر إذن ليس كلمة تقال باللسان وكفى، كما يقول البعض منا بلسانه فقط: "الحمد لله، والشكر لله" ثم يظن أنه بهذه الكلمات اليسيرة، والعبارات السهلة، قد أدى شكر الله عليه، وإنما الشكر الحقيقي يكون باللسان أولاً، اعترافاً وثناءً وحمداً لله المنعم، وبالقلب ثانياً، شهوداً ومحبة وإقراراً خالصاً ليس فيه رياء، ولا حسد، ولا كِبرْ، وبالجوارح ثالثاً، انقياداً وطاعة والتزاماً بالأوامر وابتعاداً عن النواهي، وعدم استسلام أو انشغال بالنعمة عن المنعم -سبحانه وتعالى-.
فالشُكر كما يقول العلماء مبني على خمس قواعد هي: خضوع الشاكر للمشكور، وحبّه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعمل النعمة فيما يكره المُنعِم.
فهل شكرنا الله -سبحانه وتعالى- على نعمائه بهذه الطريقة؟ أم أننا لا نشكر الله إلا قليلاً، وإن شكرناه شكرناه بألسنتنا بدون استحضار لمعنى الشكر، وقلوبنا ساهية غافلة، مشحونة بالأحقاد والكبرياء والحسد على من أنعم الله عليهم، وجوارحنا غارقة في المعاصي والآثام والذنوب، وصدق الله -سبحانه وتعالى- عندما بيّن أن الشاكرين قليلٌ من عباده، وأن أكثر الناس على خلاف هذه الصفة، فقال: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : 13].
عباد الله: إن من أسماء الله -عزَّ وجل- الشاكر والشكور، كما قال -سبحانه-: (وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147]، وفي آية أخرى، قال: (فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة : 158]، فقرن في الآيتين بين صفتي الشكر والعلم؛ فهو شاكر للمحسنين عليم بأعمالهم، وقال: (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:30]، وقال: (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:34] جمع في الآيتين، بين المغفرة والشكر؛ حيث يشكر الحسن ولا ينظر لما حصل فيه من الزلل بل يغفره، كما قرن بين الشكر والحلم حيث قال: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن: 17]، وغيرها من الآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي تثبت لله -سبحانه وتعالى- هذا الاسم العظيم، وهذه الصفة الجليلة.
يقول ابن القيم رحمه الله: "الشكور -سبحانه- هو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة؛ فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، ويشكر عبده بأن يثني عليه بين ملائكته وفي ملئه الأعلى، ويلقي له الشكر بين عباده ...".
فالرب -جل جلاله- وتعالت عظمته متصفٌ بالشكر، ويحبُّ من اتَّصف بصفة الشكر من خلقه، كما أن أبغضَ خلقه إليه من عطّل هذه الصفة أو اتَّصف بضدّها، فهو -سبحانه- شكور يحبّ الشاكرين له ولخلقه؛ ألا وإن مِن شكر الله أن تشكرُ من أسدى إليك معروفًا من خلقه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس" [صحيح أبي داود (4811 )].
أيها الناس: لقد أمرنا ربنا -جل جلاله وعز كماله- بالشكر، فقال: (وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل: 114]، وأمر به نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الزمر : 66]، وقال لنبيه موسى -عليه السلام- (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف : 144].
ووصف خليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بهذه الصفة العظيمة، فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل: 120، 121] كما وصف سيدنا نوح عليه السلام بكثرة الشكر لربه، فقال عنه: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء : 3].
أما نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقد جمع الله له بين مقامين: مقام الصبر ومقام الشكر، فكان سيد الأغنياء الشاكرين، كما كان سيد الفقراء الصابرين، فحصل له من الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، وحصل له من الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه؛ فكان -صلى الله عليه وسلم- أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر، وربه -عزَّ وجلَّ- قد أكمل له مراتب الكمال، فجعله في أعلى مراتب الأغنياء الشاكرين، وفي أعلى مراتب الفقراء الصابرين، فصلوات الله وسلامه عليه عدد خلقه أجمعين, يقول الله -سبحانه وتعالى- مخاطباً رسوله -صلى الله عليه وسلم- (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [سورة الضحى].
لقد تحدث القرآن عن الشكر كثيراً، في آيات كثيرة، وبأساليب مختلفة، فمرة يأمر بالشكر وينهى عن ضده، يقول الله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة : 152] ، ومرة يخبر أنه لا يعذب الشاكرين من عباده، (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء : 147]، ومرة يذكر أن حفظ النعم، واستمرارها، وعدم زوالها، وزيادتها، مقرون بالشكر، فإن شُكرت قرّت واستقرت، وإن كُفرت زالت وفرت، قال -عز وجل-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : 7].
والكفر بنعم الله مؤذن بزوالها عمن كفر بها قال -سبحانه-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، ومرة يطلق -سبحانه- جزاء الشاكرين إطلاقاً، ويعدهم بأحسن الجزاء وأوفاه، ويجعل أجرهم وجزاءهم عليه -سبحانه- فقال: (وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، وقال: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:145].
وأخبر -سبحانه- أن الشاكرين هم أهل عبادته، وأن من لم يشكره لا يكون من أهل عبادته، فقال ربنا: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل: 114]، وبين أن رضاه في شكره فقال تعالى: (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر:7 ]. وبيّن -جل جلاله- أن الشاكرين هم المخصوصون بفضله ومنته عليهم من بين عباده، فقال: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:53]. بل قسّم الله الناس إلى قسمين شكور وكفور، فقال:( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان:3].
فهذه النصوص المتعددة عن الشكر تدلنا -يا عباد الله- على أهميته، وفضله، وعظيم منزلته عند الله -سبحانه وتعالى-، ولذلك ذكره ربنا كثيراً في كتابه الكريم به وبهذه الأساليب المتنوعة، لأن العبد حينما يشكر ربه على النعم فهو دليل على صلاح نفسه، واستقامتها، واعترافها بفضل المنعم ومصدر النعمة، ومن كان هذا حاله فإنه لن يبطر بالنعم، ولن يتباهى بها، أو يترفع على غيره بها، ولن يحسد غيره ممن أنعم الله عليهم بنعمه، كما أنه لن يضـيع نعمة الله عليه في غير مكانها، وسيعمل على تنميتها، فيكون ذلك له عوناً ورضاً وزيادة في التقرب إلى الله، وزيادة في نعم الله عليه. وبمشاهدة النعمة يتولد في قلبه الحب والتعظيم للمنعم، ويخبت لطاعة من أنعم بها عليه.
إن ربنا -سبحانه وتعالى- يحب أن يحمد ويشكر على فضله، ويكره أن يكفر به وبنعمته كما قال -سبحانه وتعالى-: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7] وإن كان -سبحانه- غني عن شكر الشاكرين، فلا يزداد ملكه شيئاً بشكر الناس له، ونسبتهم الفضل إليه، كما أنه لا يتضرر بكفرهم؛ لأنه الغني الحميد، والمنتفع بالشكر أولاً وآخراً هو الإنسان نفسه، كما أنه المتضرر بالكفر, كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40].
أيها الناس: اعلموا أن الشكر شكران: شكر خاص, ويكون على نعمة التوحيد والإيمان والهداية؛ وهذا أكمل الشكر، وأعلاه، وأتمه، وأشمله، وشكر عام, على المطعم، والمشرب، والملبس، والمسكن، والمركب ونحوها، وكلما ازداد العبد علماً ومعرفة بحقيقة النعمة ومقدارها ازداد طاعة، ومحبة، وإنابة وإخباتاً، وشكراً وتوكلاً على الله -سبحانه وتعالى-.
فلنشكر ربنا كثيراً ولنكثر من ذكره وشكره على ما أولانا من النعم وتفضل به علينا من الفضائل، فلله الحمد والشكر على كل خير أعطانا, وله الحمد والشكر على ما صرف عنا من الشر, وله الحمد والشكر على ما أنعم به علينا وعلى غيرنا من الآلاء والنعم, وله الحمد والشكر أنِ ابتدأنا بالنعم قبل أن نسأله, وله الحمد والشكر على دوام النعم خاصة نعمة الإسلام التي لا يعدلها نعمة.
ومن تأمل أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى أن أدعيته -عليه الصلاة والسلام- لا تكاد تخلو من ذكر الحمد والشكر, يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه المشهور بدعاء الاستفتاح: "اللَّـهُـمَّ رَبَّنَا لَكَ الْـحَـمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَـهُـمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْـمَـجْدِ، لا مَانِعَ لِـمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِـمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْـجَدِّ مِنْكَ الْـجَدُّ" [مسلم (477)].
أيها المسلمون: إن قلوبنا غافلة عن شكر نعم الله التي نعيشها اليوم في واقعنا، ونتقلب فيها إننا في غفلة كبيرة عن أداء شكر الله.
لنسأل أنفسنا، هل شكرنا ربنا على نعمة الإسلام؟ فكم من المليارات من الناس في العالم من حرموا هذه النعمة، وعاشوا في ظلمات الكفر والطغيان. هل شكرنا ربنا على نعمة الاتباع أن جعلنا من أهل السنة أتباع الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته؟ فكم من الملايين من الناس اليوم من حرموا هذه النعمة، ولم يوفقوا لها؛ بل تجد أكثرهم في ظلمات البدع وغيابات الأهواء ومسالك التقليد.
هل شكرنا ربنا وحمدناه على نعمة الهداية والتوفيق لأداء الطاعات وإقام الصلاة, فكم من الناس من لم يوفق لهذه النعمة ولم يسدد للطاعة والخير.
لنسأل أنفسنا من سوّانا؟ من خلقنا وصورنا؟ من آوانا؟ من كفانا؟ من كسانا من عري، وأطعمنا من جوع؟ من يسر أمورنا؟ من رزقنا وأعاننا وأغنانا؟ هل شكرنا ربنا على هذه النعم التي لا نستطيع أن نحصرها أو نعدها؟! (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الملك : 23]، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل : 78]، (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الأعراف : 10]، وقوله: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص : 73].
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم المنان صاحب الجود والفضل والامتنان واسع العطاء والإحسان الذي بحر جوده لا ينفد، وجميل هباته لا تنقضي، وسعت رحمته كل شيء، فسبحانه من إله شكور كريم منان لطيف وهاب رؤوف رحيم ودود يحب شكر عباده وتوبتهم وطاعتهم، وهو الغني الحميد.
والصلاة والسلام على سيد الشاكرين, وإمام الصابرين, وقدوة الخلق أجمعين, سيدنا ونبينا وقائدتنا وقدوتنا محمد بن عبدالله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم أما بعد:
عباد الله: إن العبد إذا شكر الله على ما أعطاه من النعم آتاه الله أشرفَ منها، وإذا ضيَّع الشكرَ استدرجه الله، يقول الحسن -رحمه الله-: "إن الله يمتِّع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابًا". وإذا رأيت ربَّك يوالي عليك نعمَه وأنتَ تعصيه فاحذره؛ لأن ذلك استدراج منه قال -سبحانه-: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) [القلم:44]، قال سفيان -رحمه الله- في معنى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ): "أي: يُسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر".
فعلينا أن نشكر الله دائماً ونسأله أن يعيينا على شكره, وأن يُذكرنا به في كل وقت وحين وخاصة إذا غفلنا عن ذلك ونسينا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك" فقال: "أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" [النسائي (1286)].
أيها الناس: إن أول ما يجب على الإنسان فعله إذا رأى نعمة الله عليه أن ينسبها إلى ربه ومولاه، فيعتقد موقنًا أن الله هو المنعم المتفضل بها عليه، ويتبرأ من كل حول له أو قوة في جلب تلك النعمة، فعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أنه قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" [البخاري(801)] [مسلم (71)].
كما يجب علينا أن نستعمل نعم الله التي أنعم بها علينا في طاعته، ولنحذر كل الحذر من عصيان الله بها، فإذا أنعم الله عليك بنعمة، فلتكن نعمته عوناً لك على طاعته، وتحقيق عبادته، وتسخير تلك النعم لما فيه خير العباد وصلاح البلاد.
فكم رأينا من أناس بطروا وبغوا بنعم الله، واستكبروا بها على عباد الله، أو سخروها في الإضرار بالناس، والتعدي عليهم، ونسوا أن الله -سبحانه وتعالى- سائلهم عن كل نعمة أنعمها عليهم، هل أدوا شكرها وقاموا بحقها أم لا؟ كما قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر : 8].
واسمعوا إلى هذا الحديث العظيم الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم, أن يقال له: ألم نصلح لك جسمك ونرويك من الماء البارد" [صحيح الجامع(2022)]، فكل نعيم نلناه في الدنيا ولم نشكر الله عليه، سيحاسبنا الله عنه يوم القيامة، حتى الماء البارد، فلا إله إلا الله، كم نعمة أنعم الله بها علينا في هذا الزمان الذي جمع الله لنا فيه بين النعم السابقة والمنن الحاضرة، نعمُ تحيط بنا من كل جانب وتحدق بنا من كل جهة ومع كل ذلك فلا تجد أكثرنا شاكرين.
بل للأسف نرى من يزدري نعمة الله، ويتضايق ممن يُحّدث بنعم الله، وينظر دائماً لمن هو أعلى منه شأناً وأحسن حالاً، ويكره من يقول أننا مقارنة بغيرنا في نعمة عظيمة، وخير كثير، وهذا لا شك خطأ كبير وغفلة عظيمة لأن صاحبها نسي كل النعم التي أنعم الله بها عليه في بدنه وماله وولده وسائر حياته، ولم يتذكر إلا النعم التي أفتقدها ونظر إلى غيره ممن يملكها وهذا ما جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجه أمته بقوله: "انظُروا إلى من هو أسفَل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فَوقَكم؛ فهو أجدَر أن لا تزدَروا نعمةَ الله عليكم" [البخاري(6490)] لأنه لن يعرف قدر نعمة الله عليه إلا إذا نظر لمن هو أسوأ حالاً منه.
نحن لا ننكر أن كلّ واحد منا قد مرت به كثير من المنغصات والاختلالات، وفقدان لبعض الحاجات، لكن ذلك لا يجيز لنا أن نقول مثل هذا الكلام، بل يجب علينا أن نحمد الله ونشكره على كل حال، وأن نعمل على تثبيت النعم، وتوسيعها، واستعادة ما فقدناه منها، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمرِ المؤمن، إنّ أمرَه كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلاّ للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبَر فكان خيرًا له"[مسلم(2999)].
ومن نظر إلى حال إخوانه، ممن هم أسوأ منه حالا،ً لوجد أنه أحسن منهم وأفضل، وأحواله مقارنة بأحوالهم في خير وسعة، فليسأل الله العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال : 26].
فالشكر لله يكون في جميع الأحوال، في السراء والضراء، والعافية والبلاء، لأن الصبر والشكر كل منهما داخل في حقيقة الآخر، لا يمكن وجوده إلا به، فالشكر هو العمل بطاعة الله، وترك معصيته، والصبر أصل ذلك، إذ الصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر.
فيجب أن نفهم المسألة بهذه الطريقة، ولا يلبّس علينا إبليس الأمر، فيجعلنا ننسى نعم الله، أو نزدريها ونستنقصها، أو يكون حالنا كحال بعض الناس اليوم لسانهم حالهم يقول: "ما رأينا خيراً قط"، فهؤلاء -والعياذ بالله- وقعوا في فخ إبليس، الذي تعهد بصدهم عن الشكر بكل الطرق والمحاولات، كما قال الله على لسانه: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف : 17].
فأوصي نفسي وإياكم بشكر رب العالمين، وأن نربي أنفسنا وأبناءنا وأهلنا على ذلك ما استطعنا، ولا شك أن الواحد منا لن يستطيع مهما بلغ أن يؤدي شكر الله على كل نعمة أنعمها عليه، فهي كثيرة ظاهرة وباطنة، لا تعد ولا تحصى، ولكن حسبنا أن لا نغفل عن هذه العبادة العظيمة، وليكن شكر الله -سبحانه وتعالى- على نعمه ومننه ظاهر علينا؛ نشكره بألسنتنا، وقلوبنا، وجوارحنا، وليكن لنا في رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قدوة، حيث قام من الليل حتى تفطرت قدماه، فلما قيل له لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال صلوات ربي وسلامه عليه: "أفلا أكون عبدًا شَكُورًا؟!" [البخاري(4557)].
بل كان -صلى الله عليه وسلم- إذا تجددت له نعمة، أو اندفعت عنه نقمة، خر ساجداً لله سجود شكر، كما في حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان إذا جاءه أمر يُسرّ به خر ساجداً شكراً لله تعالى" [أبو داود(2774)] "وأتاه بشير يبشره بظفر جندٍ له على عدوهم وكان رأسه في حجر عائشة فقام وخر ساجداً -صلى الله عليه وسلم-" [أحمد(5/45)].
وأخيراً أوصي نفسي وإياكم -أيها المسلمون- بدعاء عظيم، نقوله في كل صباح ومساء، حيث أخبرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أن من قاله في الصباح، فقد أدى شكر يومه، ومن قاله في المساء، فقد أدى شكر ليلته، عن عبدالله بن غنام، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال من قال حين يصبح: "اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قالها حين يمسي أدى شكر تلك الليلة" [النسائي(7)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على هذا النبي العظيم والقائد الكريم الذي أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم -أيها المؤمنون- من جنه وإنسه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لشكرك، راجين لوعدك، حافظين لأمرك.
اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، ربنا اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك مطيعين، إليك مخبتين إليك أواهين منيبين، ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، واهدي قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وثبت حجتنا، واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم أغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا، واكشف كروبنا، وأعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، واعف عن تقصيرنا في طاعتك وشكرك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.