البحث

عبارات مقترحة:

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

المصور

كلمة (المصور) في اللغة اسم فاعل من الفعل صوَّر ومضارعه يُصَوِّر،...

الرب

كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...

الرضا بما قسم الله

العربية

المؤلف محمد ويلالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. تعريف الرضا لغةً واصطلاحًا .
  2. أقوال مأثورة عن الرضا .
  3. ثمرات وجود الرضا في قلب العبد .
  4. رضا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
  5. النظر في أحوال الناس لتحقيق الرضا .

اقتباس

وهذا الفهم السليم للرضا هو الذي يهوّن المصاب، ويخفف وطأة الرُّزء، ويضعف سَوْرة الخطب. قال علقمة في قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11]، قال: هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله -عزّ وجل-، فيسلم لها ويرضى". وقال عامر بن قيس: "أحببتُ الله حباً هوَّن عليَّ كلَّ مصيبة، ورضَّاني بكل بليَّة، فلا أُبالي مع حبي إياه علامَ أصبحت، وعلام أمسيت". عند ذلك يستوي عند المسلم حال الفقر وحال الغنى.

الخطبة الأولى:

عرفنا في الجمعة الماضية، ضمن سلسلة من مكارم الأخلاق، وصية جليلة من أعظم وصايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تتعلق بضرورة اتقاء المحارم التي نهى الله تعالى عنها، ونهى عنها رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وعرفنا أن من فعل ذلك استحق حقيقة الوصف بالعابد لله المخلص في عبادته، وانطلقنا في ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم- في وصاياه لأَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ". الترمذي وحسنه في صحيح الجامع.

والوصية الثانية التي اشتمل عليها هذا الحديث البديع، تتعلق بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ".

والرضا خلافُ السُّخْط/ السَّخَط، كما في الدعاء الذي علمناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ". مسلم. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخِط فله السَّخَط". صحيح سنن الترمذي.

وعرّفوه اصطلاحًا بقولهم: "سكون القلب إلى اختيار الرب". وقيل: "سرور القلب بِمُر القضاء". وقيل: "هو: استقبال الأحكام بالفرح". وقيل: "ارتفاع الجَزَع في أي حكم كان".

وليس الرضا هو الاستسلام، لأن الاستسلام هو الانهزام وعدم بذل الجهد لتحقيق الهدف، أما الرضا فهو استفراغك الوسع في تحقيق الهدف، لكن لم توفق إليه، فترضى بما قسم الله لك من غير جزع، أو ضجر، أو سخط، كالذي تزوج ولم يرزق الولد، والذي أصيب بمرض لم يستطع دفعه، والذي ابتلاه الله بالفقر وضيق ذات اليد، فاجتهد في تحصيل الغنى فلم يوفق. هنا يأتي التحلي بصفة الرضا بما كتبه الله وقدّره، فتحيل القلب إلى سرور دائم، وتشعر النفس بنعيم مقيم.

قال عبد الواحد بن زيد: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، وسراج العابدين".

وقال أبو عبد الله البَرَاثي: "من وُهب له الرضا، فقد بلغ أقصى الدرجات".

فالرضا هو قبول حكم الله في السراء والضراء، والعلم أن ما قسمه الله هو الخير كله. قال الحسين بن علي -رضي الله عنه-: "من اتّكل على حسن اختيار الله تعالى، لم يتمنّ غير ما اختار الله له".

وقال أبو عثمان الحيري: "منذ أربعين سنة، ما أقامني الله في حال فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته".

وهذا الفهم السليم للرضا هو الذي يهوّن المصاب، ويخفف وطأة الرُّزء، ويضعف سَوْرة الخطب. قال علقمة في قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11]، قال: "هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله -عزّ وجل-، فيسلم لها ويرضى".

وقال عامر بن قيس: "أحببتُ الله حباً هوَّن عليَّ كلَّ مصيبة، ورضَّاني بكل بليَّة، فلا أُبالي مع حبي إياه علامَ أصبحت، وعلام أمسيت".

عند ذلك يستوي عند المسلم حال الفقر وحال الغنى. قال ابن عون: "لن يصيب العبدُ حقيقة الرضا، حتى يكون رضاه عند الفقر كرضاه عند الغنى".

فهل تعلم -يا عبد الله- أن الأرزاق بيد الله مقسومة، ومقاديرَها عند الله معلومة محسومة، وأن الفقر قد يكون أفضل لك من الغنى؛ قال السفاريني: "فمن عباده من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغناه لفسد عليه دينه. ومنهم من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقره لفسد عليه دينه، فمهما قسمه لك من ذلك فكن به راضيًا مطمئنًا، لا ساخطًا ولا متلونًا، فإنه -جل شأنه- أشفق من الوالدة على ولدها".

يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى قسّم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله تعالى يُعطي المال من أحب ومن لا يُحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب". صحيح الأدب المفرد.

إن الأرزاق مكفولة، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فكيف يبتغي بعض الناس الزيادة بالطرق الحرام، أو بالاعتداء على الأبرياء بسرقة أموالهم، أو التحايل على ما في أيديهم، أو ظلمهم والاعتداء عليهم، أو إشهار السلاح في وجوههم، أو قَطْع طريقهم، مما أصبحنا نسمع به في الصباح والمساء؟! يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يحملن أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله -تعالى- لا ينال ما عنده إلا بطاعته". صحيح الترغيب.

وفي الحديث: "قد أفلح من أسلم ورُزِق كفافًا، وقَنَّعَهُ الله بما آتاه". مسلم.

اقنـع بـرزق يسير أنت نائله

واحذر ولا تتعرض للإرادات

فما صفا البحر إلا وهو منتقص

ولا تَكـدَّر إلا بـالزيادات

ها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد البشر، ومجتبى رب العالمين، عاش من ألوان الفاقة والحاجة ما قد لا يقدر عليه غيره، فواجهها بالرضا والقناعة.

وصف عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أثاث بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا -ورق شجر يدبغ به مسكوبًا-، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أهبٌ مُعَلَّقَةٌ -جلود غير مدبوغة-، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِى جَنْبِهِ، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ؟!". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟!. فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟!". البخاري.

ولقد بشر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المبتلين بالفقر والضيق والحاجة أنهم أسبق إلى الجنة من غيرهم، فقال: "يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام". صحيح سنن الترمذي. وفي رواية: "بأربعين خريفًا".

بل تعظم البشارة حين نعلم أنهم يدخلون الجنة بغير حساب؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أدى العبد حق الله، وحق مواليه، كان له أجران". قال: فحدثتها كعبًا، فقال كعب: "ليس عليه حساب، ولا على مؤمن مُزْهِد -قليل المال-". مسلم.

إن الغني هـو الغني بنفسـه

ولو أنه عاري المناكب حافٍ

ما كل ما فوق البسيطة كافيًا

وإذا قَنِعت فبعض شيء كافٍ

الخطبة الثانية:

إن تحقيق صفة الرضا يقتضي إجالة النظر في أحوال الناس الآخرين، لتعلم مقدار نعم الله عليك، التي قد يغبطك عليها الملايين من البشر.

فإن كنت فقيرًا، فإن أزيد من مليار شخص في العالم يعيشون تحت خط الفقر، أي: بأقل من خمسة عشر درهمًا في اليوم، وأزيدَ من مليار آخرين يعيشون دون الحد الكافي من الطعام والحاجات الأساسية، ويموت قرابة ثلاثين ألف طفل يومياً بسبب الجوع، ومليار شخص في البلدان النامية لا يحصلون على كمية كافية من المياه.

وإن كنت مريضًا فإن مرضى السكري حولك تجاوزوا ثلاثمائة وخمسين مليونًا، منهم مائة وأربعين مليونًا في الصين والهند وحدهما، وقرابة ثلاثة ملايين ونصف في المغرب، ومرضى الكبد تجاوزوا خمسمائة مليون شخص، ما يقارب المليونين منهم في المغرب، ومرض فقدان الذاكرة والاضطرابات السلوكية (الزهايمر) يصيب الآن أزيد من خمسة وعشرين مليون شخص عبر العالم، منهم أزيد من ثمانين ألفًا في المغرب.

وإن كنت تحسّ بالحزن وكدر العيش، فإن أزيد من مليار شخص حول العالم يعيشون حالات اكتئاب، منهم ربع المغاربة تقريبًا، ومن الطريف أن الصينيين افتتحوا مقهى مخصصًا للمكتئبين، يتيح لزبائنه أن يعبروا عن حالاتهم النفسية، ويساعدُهم على البكاء والتنفيس عن أحزانهم مقابل خمسين درهمًا تقريبًا.

وإذا كان أثاث بيتك متواضعًا، فإن ربع الإنسانية يعيشون بلا كهرباء، ونصف سكان الهند لا يملكون دورات المياه.

أليست هذه الحقائق كفيلة بأن تقدر نعم الله عليك، فتعلم أنه فَضَّلك على كثير من المبتلين، وعصمك من كثير من الأكدار، والأسقام، والأوجاع؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، لم يصبه ذلك البلاء". صحيح سنن الترمذي.

وأثر عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "ما ابتُليتُ ببلية إلا كان لله عليَّ فيها أربعُ نِعم: إذْ لم تكن في ديني، وإذ لم أُحرَم الرضا، وإذ لم تكن أعظمُ منها، وإذ رجوت الثواب عليها".

رضيـت بما قسمَ الله لي

وفوّضتُ أمري إلى خالقي

كما أحسن الله فيما مضى

كذلك يُحسن فيما بَقِي