العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | علي عبد الرحمن الحذيفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والتوبةُ واجبةٌ علَى المكلَّفين جميعًا من كلِّ ذنبٍ صَغيرٍ أو كبيرٍ، قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) [التحريم: 8]. ومعنى التَّوبةِ: الرُّجوعُ إلى الله -عز وجل- بتركِ الذنبِ الكبيرِ أو الصغيرِ، والتوبةُ إلى الله مما يَعلَمُ من الذنوب ومما لا يَعلَم المُكلَّف، والتوبةُ إلى الله من التَّقصير في شكرِ نِعَم الله على العبد، والتوبةُ إلى الله مما يتخلَّلُ حياةَ المسلمِ من الغفلَةِ عن ذِكرِ الله تعالى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الرحيم التواب، غافرِ الذنبِ وقابِلِ التوبِ شديدِ العقابِ، الملكِ العزيزِ الوهابِ، أحمدُ ربي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يجتَبِي إليه من يشاءُ ويهدِي إليه من أنابَ، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المخصوصُ بأفضلِ كتابٍ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى الآل والأصحابِ.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون-؛ فإنَّ تقواه فوزٌ وفلاحٌ، وسعادةٌ ونجاح.
واعلموا -عبادَ الله- أنَّ عزَّ العبد في كمالِ الذلِّ والمحبَّة لربِّ العالمين -جل وعلا-، وأنَّ هوانَ العبد وصَغارَه في الاستكبارِ والتمرُّد على الله، والخروجِ على أمره ونهيِهِ، بمحبَّةِ ما يكرهُه الله، وبُغضِ ما يحبُّه الله، قال الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر: 10]، وقال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60].
والعبادة بجميعِ شُعبها وأنواعِها هي التي يتحقَّقُ بها الذلُّ والخضوعُ والمحبَّةُ لله تعالى.
ومِن أعظمِ أنواع العبادةِ: التوبةُ إلى الله -جل وعلا-؛ بل إنَّ التوبةَ العُظمى هي أفضلُ العِبادة وأوجبُها، وهي التوبةُ من الكفرِ، قال الله تعالى عن هودٍ -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود: 52]، وقال تعالى داعيًا المنافقين إلى التوبة: (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [التوبة: 74].
والتوبةُ واجبةٌ علَى المكلَّفين جميعًا من كلِّ ذنبٍ صَغيرٍ أو كبيرٍ، قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) [التحريم: 8].
ومعنى التَّوبةِ: الرُّجوعُ إلى الله -عز وجل- بتركِ الذنبِ الكبيرِ أو الصغيرِ، والتوبةُ إلى الله مما يَعلَمُ من الذنوب ومما لا يَعلَم المُكلَّف، والتوبةُ إلى الله من التَّقصير في شكرِ نِعَم الله على العبد، والتوبةُ إلى الله مما يتخلَّلُ حياةَ المسلمِ من الغفلَةِ عن ذِكرِ الله تعالى، عن الأغرِّ المُزنِيِّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس: تُوبُوا إلى الله واستغفِرُوه؛ فإني أتُوبُ إليه في اليومِ مائةَ مرة". رواه مسلم.
قال أهل العلم: "للتوبةِ النصوحِ ثلاثةُ شُروطٍ إن كانت بين العبدِ وربِّه:
أحدُها: أن يُقلِعَ عن المعصية.
والثاني: أن يندَمَ عليها وعلى فِعلِها.
والثالث: أن يعزِمَ أن لا يعودَ إليها أبدًا.
وإن كانت المعصيَةُ تتعلَّق بحقِّ آدميٍّ، فلا بُدَّ أن يردَّ المالَ ونحوَه، ويستحِلَّه من الغِيبة، وإذا عفَا الآدميُّ عن حقِّه فأجرُه على الله.
واللهُ قد رغَّب في التوبةِ، وحثَّ عليها، ووعَد بقَبولها بِشروطِها، قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82]، وأخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ جميعَ ساعاتِ الليل والنهار وقتٌ لتوبةِ التائبين، وزمَنٌ لِرجوع الأوَّابين، عن أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللهَ تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مُسيءُ النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل حتى تطلعَ الشمسُ مِن مغرِبِها". رواه مسلم.
ما أعظمَ كَرمَ الرحمن!! وما أجلَّ فضلَه وجُودَه على العبادِ، هؤلاء خلقُه يعصُونَه بالليل والنهار، ويحلمُ عليهم، ولا يعاجِلهم بالعقوبة؛ بل يرزُقهم ويُعافِيهم، ويُغدِق عليهم النعَم المتظاهِرَة، ويدعُوهم إلى التوبَة والندَم على ما فرَط منهم، ويعِدُهم المغفِرة والثوابَ على ذلك، ويفرَحُ بتوبةِ العبد أشدَّ الفرح، فإن استجابَ العبدُ لربِّه وتابَ وأنابَ وجَدَ وعدَ الله حقًّا، ففاز بالحياةِ الطيبة في الدنيا، وحُسنِ الثوابِ في الأخرى.
وإن ضيَّع التوبةَ زمنَ الإمهال، وغرَّته الشهواتُ والآمال عاقَبَه الله بما كسَبَت يداه: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]، ولا خيرَ فيمن هلَكَ مع رحمةِ أرحمِ الراحمين.
أيها المسلم: هل لك أن تعلَمَ بعضَ الحِكَم لمحبَّةِ الله -تبارك وتعالى- لتوبةِ عبدِهِ وفرَحِه بها أشدَّ الفرح؟! نعَم.
مِنَ الحِكَم العظيمة لمحبّة الله لتوبةِ التائبين: أنَّ أسماءَ الله الحُسنَى تتضمَّنُ صفاتِه العُلى، وتدلُّ على هذه الصِّفاتِ العُظمَى، وهذه الأسماءُ الحُسنَى تقتَضِي ظهورَ آثارِها في الكَون؛ فاسمُ الله "الرحمنُ الرحيم" يدلُّ على اتِّصافِ الله -جل وعلا- بالرحمة كما يليقُ بجلالِه، ويقتَضي أن يوجدَ مخلوقٌ مرحومٌ.
واسمُ الله "الخالقُ" يدلُّ على اتِّصاف الله تعالى بالقدرةِ على الإيجادِ والخَلقِ، ويقتَضي إيجادَ رب العالمين للمخلوقات من العَدَم.
واسمُ الله تعالى "التوابُ" يدلُّ على اتِّصاف الله بقَبول التوبةِ مهما تكرَّرت، ويقتضِي إيجادَ مُذنِبٍ يتوبُ من ذنبِه فيتوبُ الله عليه.
وبقيّةُ أسماءِ الله الحُسنَى على هذا النَّحوِ، كلٌّ منها يدلُّ على ذاتِ الله العَظيم، ويدلُّ على صفةِ الله العُظمَى التي يتضمَّنها ذلك الاسم، ويقتضِي كلُّ اسمٍ من أسماءِ الله الحُسنى ظهورَ آثارِه في هذا الكون، قال الله تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم: 50].
والمقصودُ: أنَّ قَبولَ توبةِ المُذنِب مُقتضَى اسمِ اللهِ التواب، وثوابُ التّائبِ أثرٌ من آثارِ هذا القَبول، قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى: 25].
ومِنَ الحِكَم لمحبَّةِ الله لتوبة التائبين: أن الله تعالى هو المُحسِن لذاته، ذو المعروف الذي لا ينقطِعُ أبدًا، فمن أطاعَ الله بالتوبة أحسنَ الله إليه وأثابَه في الدنيا والآخرة، ومن ضيَّع التوبة أحسنَ إليه في الدنيا، وعاقَبَه في الآخرة بسوءِ عمَلِهِ: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
ومن الحِكَم لمحبَّةِ الله تعالى لتوبةِ عبدِه: عفوُ الله وشُمُول رحمتِه للعُصَاة مع قدرتِه على العِقابِ، وفي الحديث: "إن الله كتَبَ كتابًا عنده فوقَ العرش: إنَّ رحمتي سبَقَت غضَبِي". إلى غير ذلك من الحِكَم التي لم نطَّلِع إلا على القليل منها.
وتصحُّ التوبةُ من بعضِ الذنوبِ، ويبقى الذنبُ الذي لم يتُبْ منه مُؤاخَذٌ به، والتّوبةُ بابُها مفتوحٌ لا يُغلَق، ولا يُحَالُ بين العبدِ وبينها حتى تطلعَ الشمس مِن المغرِب، فعند ذلك يُغلَق بابُ التوبة، ولا ينفعُ نفسًا إيمانها لم تكن آمنَت من قبلُ؛ عن زِرِّ بن حُبَيشٍ عن صفوانَ بن عسَّال -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله فتح بابًا قِبَل المغرِب، عرضُه سبعون عامًا للتوبة، لا يُغلَق حتى تطلعَ الشمسُ منه". رواه الترمذي وصحَّحه، والنسائي، وابن ماجه.
وقد وَعَد الله على التوبةِ أعظمَ الثواب وحُسن المآب، فقال تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم: 8].
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 68- 70].
قال بعض المُفسِّرين: "يجعَلُ مكانَ السيئةِ التوبةَ، فيُعطِيهِم على كلِّ سيئة عمِلوها حسنةً بالنَّدم والعَزم على عدَم العودةِ فيها".
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبده حين يتوبُ إليه من أحدِكم كان على راحِلَته بأرضِ فلاةٍ، فانفلَتَت منه وعليها طعامُهُ وشرابُه، فأيِس منها، فأتى شجرةً فاضطجَعَ في ظلِّها وقد أيِس من راحِلَته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمةٌ عندَه، فأخذ بخِطامها، ثم قال من شدَّةِ الفرح: "اللهم أنت عبدِي وأنا ربُّك"، أخطأ مِن شدَّةِ الفرح". رواه مسلم.
وأسعدُ الساعاتِ والأيام على ابنِ آدم: اليومُ الذي يتوبُ الله فيه عليه؛ لأنه بدونِ توبةٍ كالميِّتِ، وبالتوبةِ يكون حيًّا، عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال لما أنزل الله توبتَه في تخلُّفه عن غزوة تبوك: "وانطلقتُ أتأمَّمُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئونَني بالتوبةِ، ويقولون لي: لتَهنِكَ توبةُ الله عليك، فسلَّمتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأساريرُ وجهِه تبرُق، وكان إذا سُرَّ استنارَ وجهُه كأنه فِلقةُ قمر، فقال: "أبشِر بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذُ ولدَتك أمُّك". رواه البخاري ومسلم.
والتوبةُ عبادةٌ عالِيةُ المقام، قام بها الأنبياءُ والمرسَلون والمقرَّبون والصَّالحون، وتمسَّكوا بعُروتها، واتَّصفوا بحقيقتِها، قال الله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 117]، وقال تعالى عن الخليلِ إبراهيم وإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 128]، وقال عن موسى -عليه الصلاة والسلام-: (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف: 143].
والمسلمُ مضطرٌّ إلى التوبة، ومحتاجٌ إليها في حالِ استقامتِه أو في حالِ تقصيره، يحتاجُ إلى التوبةِ بعد القُرُبات وبعدَ فعلِ الصالحات، أو بَعد مُقارَفَةِ بعضِ المحرَّمات.
فيا أمَّةَ الإسلام: أُذكِّركم جميعًا ونفسي بالتوبةِ إلى الله، بالتمسُّك بالكتابِ والسنة، والبُعد عن البِدَع والخرافاتِ والمحدَثات، وكبائرِ الذنوب؛ ليحفظَكم الله -تبارك وتعالى- من شرورِ أعداء الإسلام ومكرِهم وكيدِهم، وليَقِيَكم عقوباتِ الذنوب؛ فإنَّ أعداءَ الإسلام لن ينالوا مِن المسلمين إلا بغيابِ التوبةِ النَّصُوحِ عن الأمَّةِ، ولم تتفرَّق الأمَّةُ الإسلامية إلا باختلافِ مشاربها وباختلافِ أفهامِها.
فتُوبُوا إلى الله -تبارك وتعالى- فاجعَلوا مشربَكم من معينِ كتاب الله وسنَّةِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، واجعَلوا أفهامَكم وتفسيرَكم للقرآن والسنَّة تبَعًا لفَهم الصحابةِ والتابعين ومن تَبِعهم بإحسانٍ؛ يُصلِح لكم أعمالَكم ودنياكم وأُخراكم.
قال الله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) [هود: 3].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، ونفَعَنا بهديِ سيِّد المرسلين وقوله القويم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العزيزِ الغفورِ، الحليم الشكور: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19]، أحمدُ ربي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له إليه تصيرُ الأمور، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه سابقُ الخلق إلى كلِّ عملٍ صالحٍ مبرور، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-؛ تفوزوا بمرضاته وجنَّتِه، وتنجُوا من سخَطه وعقوبته، يقول الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) [القصص: 67]، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقبَل الله توبَةَ أحدِكم ما لم يُغرغِر".
فسارِع -أيها المسلم- إلى التوبَةِ من كل ذنبٍ، السّرُّ بالسرِّ، والعلانيةُ بالعلانيةِ، وداوِم عليها بعد القرُبات أو الإلمامِ بشيءٍ من المحرمات، قال الله تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 54- 58].
وإيَّاك وأماني الشيطانِ وغرورَ الدنيا وشهواتِ النفس، والطمَعَ في فُسحةِ الأجَل، فتقول: سأتوبُ قبلَ الموت، وهل يأتي الموت إلا بغتةً؟! وأكثرُ الناس حِيل بينَه وبين التّوبةِ -والعياذُ بالله- لعَدَم الاستعدادِ للموت، وغَلَبة الهوى، وطولِ الأمل، فأتاهم ما يُوعَدون وهم على أسوَأ حال، فانتقلوا إلى شرِّ مآل.
ومِنَ الناس مَن وفِّق للتوبة النَّصُوح بعد أن أسرَفوا على أنفسِهم، أو قصَّروا في حقِّ الله أو حقوقِ العباد، فصارُوا من الصالحين والصّالحاتِ، ذِكرُ سِيرتِهم تُوقِظُ القلوبَ الغافِلَة، ويقتدِي بها السائِرُون على الصِّراط المستقيم، والآمُّونَ للنهج القويم.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.