المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
وإن شكر الله هو نعمةٌ يمنُّ بها الله على من يشاء من عباده، فيكون من الشاكرين: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) [الأحقاف:15]. فقيدوا نعم الله بالشكر، واستزيدوا منها بشكرها: (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
الخطبة الأولى:
الحمد لله أمر بشكره، وأذن للشاكرين بمزيد فضله. وأشهد ألّا إله إلا الله الشاكر العليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: إن قيل لك: إن فلاناً يتشكر منك، أو بلغك أن ذلك الرجل الذي قابلته، أو أن صاحباً قديماً لك يهدي لك شكره وامتنانه، أو عملت معروفاً لأحد من خلق الله فقال لك: شكراً. الله أكبر! كم لهذه الكلمات من أثر في نفس من وُجهت له، فهو مغتبط بها، فرح بمسمعها، يرددها وينقلها لأخص الناس به.
فالشكر الصادق يعمل أثره في النفوس، فهو يلين ما صعب من أخلاق الرجال، ويدفع سيء الأقوال والأفعال. ولا تقوى الطباع السوية على رد الشاكر، فعبارات الشكر قيد يصد بها سفه السفهاء، ولجام يلجم به طيش غير الأسوياء.
هذه بعض آثار الشكر بين الناس، فكيف إذا كان الشكر طبعاً لك، وركنا من أركان جميل أخلاقك؟ فأنت الشاكر، فغلب شكرك نكرانك، وذكرك نسيانك، فأكْرِمْ بها من صفة!.
مدح الله بها نوحاً أول رسله: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء:3]، وسطرها في مناقب خليله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [النحل:120-121]، ثم ها هو خليل الرحمن لم ينس أن يأمر بها قومه في أول ما أمرهم به، بعد أن أنكر عليهم عبادة أوثانهم، يقول -عليه السلام-: (فَبْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَعْبُدُوهُ وَشْكُرُواْ لَهُ) [العنكبوت:17].
وتفطّن لهذه الصفة نبي الله سليمان بن داود -عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- حينما مكنه الله من ملكة سبأ وقومها الذين يسجدون للشمس، وجاءه عرشها من اليمن قبل أن يرتد إليه طرفه، جاءه عرشها بقدرة الله بلمح البصر، فكيف قابل هذا النعمة؟ وكيف خرج من حظ الشيطان، وبطر النفس؟ تأمل: (فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40].
عباد الله: مما يعينك على الشكر أن تتعرف على نعم الله لديك. من هذا الذي يقدر أن يقول إن الله لم ينعم علي؟ نعم، قد تجد، وصدق الله العظيم: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات:6]، الإنسان بطبعه يجحد نعم الله، ولا يثمّن حقيقة ما يتفيأ من النعم، فالغفلة تنسي، والتعود على النعمة يطغي، وطول إلفها يرخص قيمتها.
وعلاج هذا بما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ, وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ, فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
حينما ينظر الإنسان إلى من فاتته بعض النعم التي هي عنده حينها سيعرف العاقل قدر نعمة الله، وأن الله خصه بفضله، ومنَّ عليه بجود وكرم منه.
فإن شكوت نقصاً في صحتك فهناك من هم أشدّ نقصا منك، وإن عاودك تعب أو ألم فتذكر من لازمهم التعب والألم فهم على فرشهم يئنون، وبشدة كرب يصبحون ويمسون. ومن رأى ليس كمن سمع!.
احتسب زيارة لإخوان لك على الأسرّة البيضاء، كيف ليلهم ونهارهم؟ واسأل عن أطولهم مدة، وأشدهم لمكانه ملازمة؛ ولا أظنك بعد هذا ستفعل شيئاً إلا أن تقول: اللهم لك الحمد! كم تنعم علي، ولا أشكرك!.
وأنت يا مبتغٍ مالا، وترى كلا أغنى منك، وأنت في بحبوحة عيش فاتت عليك: تذكر من تقلقهم وجبة النهار قبل وجبة الليل، ومن ركبتهم الديون، وهمهم في أجرة مسكنهم، ومصاريفَ تفاجئهم لم يعدوا لها عدة؛ "انظروا إلى من هو أسفل منكم".
أيها الأفاضل: عبادة الشكر هي عبادة السراء، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له"، فأين الشاكرون؟ أين مريدو الخير؟ قال -تعالى-: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].
الشكر بين الناس سبب لدوام العلاقة بينهم، والشاكرون هم عِلية القوم، فالقلوب تحبهم، والباذلون يسعدون بالوصول إليهم.
والبيوت إنما تطمئن حينما يشيع الشكر بين أفرادها، فالزوج شاكر لزوجته حينما تخدمه، وتسعى في مصالحة، وتكفيه مؤونة البيت. وشكر الزوج لا يلغي شخصيته، ولا يفتح على الزوجة باب المنة في أعمالها، فهذه وساوس تمليها النفس الناكرة الكنود.
وشكر الأب لأولاده سبب في دوام العلاقة بينهم، وذهاب الوحشة عنهم، وهو عون من الأب لأولاده ليبروه، ويحسنوا إليه، ومن أعان على خير فله مثل أجر فاعله.
وشكر الأولاد لوالديهم بِرٌّ منهم بوالديهم، وسبب لاستمرار الوالدين في عطائهم، وهو امتثال لأمر الله -تعالى-: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [لقمان:14]، وهو سعادة يدخلها الولد إلى قلب والديه، قد يصعب وصفها إلا أن تذوق طعمها إذا كنت في مقامهم.
ثم الشكر بعد ذلك مع خاصتك، فالأقارب ما تبادلوا الشكر بينهم إلا زادت صلتهم، وقوي الرحم الذي بينهم؛ فالشكر صلة، وسبب لدوام الصلة.
ثم الشكر بين عموم المتعاملين: عمال، وباعة، وموظفين، وطلاب، ومعلمين، به تتشجع النفوس، وتدفع الشحناء، وتحل البركة، ويشعرون بروح الفريق الواحد: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144].
الخطبة الثانية:
أما بعد: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله" حديث صحيح رواه أحمد وغيره.
فشكر الناس معين على شكر الله -تعالى-، لأن من شكر ذا الإنعام الصغير فإن عقله وشرعه يقوده إلى شكر المتفضل المنعم الكبير، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53].
وإن شكر الله هو نعمةٌ يمنُّ بها الله على من يشاء من عباده، فيكون من الشاكرين: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) [الأحقاف:15].
فقيدوا نعم الله بالشكر، واستزيدوا منها بشكرها: (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
شكر الله وفق له أناس فلا يزالون معترفين لله بفضله، فقلوبهم شاكرة، ثم يثنون على الله بنعمه بألسنتهم، وهو من التحديث الذي أمر الله به: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:11].
ولكن باباً من أبواب الشكر غفلنا عنه، وهو شكر الله بجوارحنا، واستعمال النعمة فيما يرضي خالقنا، فلم يشكر من استخدم قوته فيما يسخط الله... أو أنه وفر صحته للسهر الطويل، والتخبط فيما يقسي قلبه، ويبعده عن ربه، فلم يحفظ بصراً ولا سمعاً، ولم يصن منطقاً، وقد علم حرمة الأعراض، وكبر إثم الغيبة والنميمة والسباب؛ فأي نعمة يعيشها الإنسان وهو لم يقم بشكرها فهي نذير خطر على صاحبها.
فإذا رأيت ربَّك يوالي عليك نعمَه وأنتَ تعصيه فاحذر من قوله -تعالى-: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:182-183]. قال سفيان -رحمه الله-: "يُسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر".
أيها الإخوة: غداً يوم عاشوراء، وهو يوم من أيام الشكر، نجى الله موسى وقومه من الغرق، وأهلك فرعون وقومه، فصام موسى -عليه السلام- يوم النجاة شكراً لله على نعمته، ثم لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ووجد اليهود يصومونه صامه، وقال: "نحن أولى بموسى منكم معاشر اليهود"، وبين أن صيامه يكفر السنة الماضية.
فلا يفوتنكم صيام غد، صوموه، وذكروا به من قد يجهله أو يغلبه الكسل فلا يصومه من أهل البيت والصغار والعمال والخدم ونحوهم.
ومن وفق وصام هذا اليوم الجمعة التاسع فهو أفضل؛ لتتحقق مخالفة اليهود، ومن اقتصر على العاشر وصام السبت وحده فلا حرج، وبيّن أهل التحقيق من مشايخنا أنه لا يصح حديثٌ في النهي عن إفراد يوم السبت، والحديث الذي تداوله بعض الناس ضعيف شاذ، بل قال الشيخ ابن باز -رحمه الله- إنه باطل.
ومن كان عليه قضاء من رمضان فله أن يصوم عاشوراء ويدع القضاء فيما بعد، وله أيضا ً أن ينوي القضاء، وحيث وافق يوما فاضلاً فنرجو أنه يحصل الأجر الوارد.
أيها الإخوة: في صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء درس نبوي عظيم، وهو أن النعم تقابل بالشكر بعدها؛ اعترافا من العبد بقبولها، وتعظيما لمسديها، ولا يزال من طبع العارفين أن من أنعم عليه ربه بنعمة صحة أو ولد أو مال أو وظيفة أو نجاة من خطر فليبادر بعمل صالح، فلكل نعمة جدت عبادة تجددها: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:53].
وبذا تدرك خطأ الذين لا يعرفون الله إلا في الضراء إذا حلت بهم نازلة، وإذا خافوا من حصول مكروه شرع الواحد منهم يقول: لله علي نذر إن شفي المريض أو حصل كذا أن أصوم أو أتصدق! كأن الله لا يعطي إلا بمقابل! فإذا زال غمه وانكشف كربه (نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) [الزمر:8]، وطلب مخرجا من هذا الذي ضيق به على نفسه.
وخير الهدي هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد قام من الليل حتى تورمت قدماه، ثم يقول: "أفلا أكون عبدا شكورا؟". (بَلْ اللَّه فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ) [الزمر:66].
ثم اعلموا رحمكم الله أن من أفضل الأدعية ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأوصى به معاذ بن جبل، فقد قال: "يا معاذ، إني أحبُّك، فلا تدعنّ أن تقول دبرَ كلّ صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك، وحسن عبادتك".
فاستعينوا بنعمة الله على طاعته، واحذروا كفرانها، فإنها من أسباب نزع البركات، وقلة الأمطار وجدب الديار...