النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - التوحيد |
أيها المؤمنون: السماء من بالكواكب زينها! والجبال من نصبها! والأرض من سطحها وذللها! وقال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) [الملك: 15]. الطبيب من أرداه! المريض وقد يأس من عافاه! الصحيح من بالمنايا رماه! والأعمى من يقود خطاه! الجنين في ظلمات ثلاث من يرعاه! الثعبان من أحياه والسم يملأ فاه! الشهد من حلاه! اللبن من بين فرث ودم من صفاه! الهواء تحسه الأيدي ولا تراه من أخفاه! النبت في الصحراء من أرباه! النخل من شق نواه! الجبل من أرساه! الصخر...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحمده وأشكره، وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، صاحب الحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد: فاتقوا الله -تعالى- وتوبوا إليه.
تأمل في الوجود بعين فكر | ترى الدنيا الدنيئة كالخيال |
ومن فيها جميعا كيف يفنى | ويبقى وجه ربك ذو الجلال |
وقفات خاشعة، وتفكر وتأمل، في توحيد الرب، في توحيد الله -جل وعلا- وتدبر في ملكوت الله، هذا الكون الذي نعيشه، ونتقلب في نعمه، لله في كل شيء منه آية تدل على وحدانيته، وكمال ربوبيته، وكمال قدرته وعظمته، وكمال حكمته ورحمته، يخلق ما يشاء ويختار، وما كان ليعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وإذا تأملنا كتاب الله العزيز رأيناه يقرر ذلك بكل وضوح وجلاء، ويدعونا القرآن لتوحيد الله، والحديث عن مخلوقاته، والإعجاز في آياته يظهر كل يوم، ولذلك رأينا القرآن الكريم يمتلئ بتفضل الله على العباد في خلق هذه المخلوقات وتنوعها، وتفضل الله بها علينا.
عباد الله: تعالوا بنا نؤمن ساعة: فإنه الله علي بذاته، كامل في صفاته، قدير خلق السماوات والأرض، وما بينهما، في ستة أيام، فما ناله من تعب ولا لغوب، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) [يونس: 3].
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)[فاطر: 44].
وسنتـأمل بعضا من صفات الله -جل وعلا-، ومخلوقاته، ونتدبر قدرة القادر في خلقه؛ لنزداد إيمانا مع إيماننا، ذكرى للغافلين اللاهين؛ علهم يستيقظون، فيقدرون الله حق قدره.
وهو علم بالله؛ يقود إلى خشيته ومحبته، فمن كان به أعلم كان له أخشع: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 28].
(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 191].
تأملوا كتاب الله -عز وعلا- وهو يرتاد آفاق السماء، يجول في جنبات الأرض، يفتح البصر والبصيرة على إتقان ليس له مثيل، ويريك عظمة الله وقدرته في المخلوقات، ثم يسألك الله في القرآن: (أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تعالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[النمل: 63].
حديث يتكرر في القرآن تحركه المشاعر، وتستجيب له الفطر المستقيمة، وينبه الغافلين؛ لعلهم يتذكرون: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة: 164].
لا ترى في السماوات على عظمها خلل ولا فطور، رفعها بغير عمد وأمسكها؛ لكي لا تقع على الأرض: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[ق: 6-7].
نجوم وكواكب سيارة في نظام بديع، وملايين السنين الضوئية، وتوازن أذهل كل من عرفه، واطلع عليه، من علماء وبشر من مسلم وكافر، وأقسم الله بمواقعها: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ)[الواقعة: 75].
في السماء ملائكة لا يحصيهم إلا الله فما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله -تعالى-، راكع أو ساجد، يطوف منهم كل يوم بالبيت المعمور في السماء، سبعون ألفا، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة؛ كما في الحديث الصحيح.
وفي الأرض أنواع من الدواب ما لا يحصيه إلا الله -تعالى- كلهم على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، وهي تسبح لله: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44].
ومن قوته وعظمته سبحانه: أن الأرض وما فيها قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، قال صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب على المنبر: "يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك فأين ملوك الأرض؟" ثم قرأ عليه الصلاة والسلام على المنبر: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر: 67].
فذكر تمجيد الرب لنفسه، وهو يقول: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فيقول ابن عمر: "فجعل المنبر يرجف برسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعظيما للرب" قال ابن عمر: "حتى إن لأقول أساقط برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟" [أخرجه البخاري].
هذا المنبر وعيدانه الجماد ترجف من عظمة الله، وكثيرا منا، وكثيرا من الناس عن هذه الآيات معرضون، بل إن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون.
أيها المؤمنون: السماء من بالكواكب زينها، والجبال من نصبها، والأرض من سطحها وذللها، وقال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) [الملك: 15].
الطبيب من أرداه! المريض وقد يأس من عافاه! الصحيح من بالمنايا رماه! والأعمى من يقود خطاه! الجنين في ظلمات ثلاث من يرعاه! الثعبان من أحياه والسم يملأ فاه! الشهد من حلاه! اللبن من بين فرث ودم من صفاه! الهواء تحسه الأيدي ولا تراه من أخفاه! النبت في الصحراء من أرباه! النخل من شق نواه! الجبل من أرساه! الصخر من فجر منه المياه! البحر من أطغاه! الليل من حالك دجاه! الصبح من أسفره وصاغ ضحاه! العقل من منحه وأعطاه! الجبار من يقسمه! المظلوم من ينصره! المضطر من يجيبه! الضال من يهديه! الفقير من يغنيه! من خلقك يا ابن آدم! من صورك وشق سمعك وبصرك! من سواك فعدلك! من أطعمك ورزقك ومن آواك ورزقك؟!
إنه الله! إنه الله! إنه الله! الذي أحسن كل شيء خلقه لا إله إلا هو: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)[النمل: 88].
ولعل ما في النفس من آياته | عجب عجاب لو ترى عيناك! |
والكون مشحون بأسرار إذا | حاولت تفسيرا لها أعياك! |
قل للطبيب تخطفته يد الردى | من يا طبيب بطبه أرداك؟ |
قل للجنين يعيش معزولا بلا | راع ومرعى من الذي يرعاك؟ |
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت | شهدا وقل للشهد من حلاك؟ |
واسأل شعاع الشمس يدنو | وهو أبعد كل شيء ما الذي أدناك؟ |
آيات عظيمة نصبها الله لخلقه دلالات، وأوضح له آيات بينات؛ في الأنفس والأرض والسماوات، ليهلك عمن هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة!.
هذا القرآن المعجز في كلامه، العجيب في ألفاظه، أعجز العرب بلغاته، وأنزل فيه أحكامه، يسمعه العربي الجاهلي من أول وهلة فيؤمن ويدخل في الإسلام.
وما يزال الناس في عجب من آياته؛ لأنه كلام الله، وكلام الله لا ينفذ، ولو كانت جميع الشجر في الأرض بغاباتها؛ أقلاما، والبحر مدادا لهذه الأقلام؛ ما نفذت كلمات الله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[لقمان: 27].
آيات بينات بالغة دالة على عظمة الله -سبحانه وتعالى-، وعلى أحقيته في التفرد بالعبادة، لا شريك له، فما من دقيق ولا جليل، ولا خفي ولا جلي، في الأرض ولا في السماء إلا وقد أحاط الله به علما: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[الأنعام: 59].
كيف سخر الله الشمس والقمر دائبين لمصالح الناس بانتظام بديع، وسير سريع، لا يخرجان عن فلكيهما قدر أنملة، لا يرتفعان ولا ينخفضان، حتى يأذن الله بخراب العالم؟!
عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له حين غربت الشمس: "أتدري يا أبا ذر أين تذهب؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت! فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[يس: 38][متفق عليه].
اختلاف الليل والنهار؛ طولا وقصرا، وبردا وحرا، يعز الله في هذه الليالي والأيام من يشاء، ويذل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل فيها من يشاء: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)[غافر: 61].
هذا خلق الإنسان ذكره الله في القرآن -قبل الاكتشافات-؛ كما في قوله تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[المؤمنون: 14].
يتأثر الجنين بصحة الأم ومرضها: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78].
هدانا الله لصنع الفلك: (إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[الشورى: 33].
ثم تأمل! البحر العظيم وما فيه من أسرار وكائنات: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا)[الفرقان: 53].
ينزل المطر على أرض قاحلة، فتصبح بعد ذلك رابية مخضرة بالزهور والأعشاب: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[فصلت: 39].
تأمل! يحرك الله الريح فيجعلها رخاءً وبشرى بين يدي رحمته، ولواقح وذاريات، أو يحرك الريح فيجعلها عذابا في البحر، وعقيما صرصرا في البر: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[لقمان: 11].
أين أولئك الذين يعظمون بشرا؟! رأيناهم يعظمون البشر في القبور! رأيناهم يحلفون بأولئك البشر! رأيناهم يتقربون إلى أولئك البشر! ويطلبون منهم الصحة والولد! أين أولئك من الله -سبحانه وتعالى-؟! أيشركون معه أحدا وهو خلقهم؟!
من آيات الله: ذلك السحاب المسخر بين السماء والأرض: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء)[الرعد: 13] ينشئوه الله إذا أراد، ويفرقه في وقت قصير: (وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية: 5].
انظر -يا عبد الله-: انظر إلى ما أودعه الله في الأرض من كنوز عظيمة سخرها لبني آدم: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ) [الرعد: 4].
ذهب وفضة، وحديد ونفط، ونحاس وألماس، وزروع تسقى بماء واحد، في أرض واحدة، فتختلف ألوانها وأشكالها، وطعومها ومنافعها: (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الرعد: 4].
هذه الدواب صغيرها وكبيرها، فيها القوي والضعيف، والضار والنافع، مخلوقات من جنس واحد، وهي متباينة؛ لكن خالقها واحد سبحانه وتعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[هود: 6].
لكن ربنا -جل في علاه- يرى على صغر تلك الدواب؛ عروق النملة السوداء، في الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، هو الذي: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103].
فسبحان من قدر فهدى! وخلق فسوى!.
كم لله من آية مما يبصره العباد وما لا يبصرونه، وتفنى الأعمار دون الإحاطة بجميع تفاصليها؟!.
آمن به الحيوان والشجر، والماء والصخر، فالجبل خاشع متصدع من خشية الله، وكل شيء يسبح بحمد الله، وكل الكون بكائناته يوحد وينقاد لله: (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[الأنعام: 102].
فكيف إذاً نجادل الإنسان في الله -عياذا بالله-؟ كيف تجد بعضا من الناس يجادل في الله وهو شديد المحال؟ كيف يبقى الإنسان في هذا الكون وهو ظلوم مبين؟ كيف تجد من يلحد وينكر وجود الله ويستهتر، ويشك في دين الله -عياذا بالله-؟: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[آل عمران: 83].
تعجب لكثير ممن تعمى أبصارهم عن الحق! فيكذبون الرسالة، ويستهزئون ويكابرون؛ ليقيموا حربا على تعاليم الإسلام، ودعاته.
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سفر، حتى إذا دفعنا إلى حائط من حيطان بني النّجار، إذا فيه جمل لا يدخل أحد إلا شدّ عليه، فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاء حتى أتى الحائط، فدعا البعير، فجاء واضعا مشفره إلى الأرض، حتى برك بين يديه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هاتوا خطامه" فخطمه، ودفعه إلى صاحبه، ثم التفت إلى الناس، فقال: "إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله؛ إلا عاصي الإنس والجن"[رواه أحمد].
فسبحان من هدى الكائنات للإيمان يوم ضل بعض بني الإنسان!.
الكون بكائناته تسبح الله وتمجده! فسبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء)[الحج: 18].
قال صلى الله عليه وسلم: "ما تَسْتَقِلُّ الشمسُ فيبقَى شيء من خلق الله إِلاَّ سَبَّح الله بحمدِه، إلاّ مَا كان من الشياطين، وأغبياء بني آدم" [رواه الطبراني وغيره].
يا مدرك الأبصار والأبصار | لا تدري له ولكنهه إدراكا |
إن لم تكن عيني تراك فإنني | في كل شيء أستبين علاك |
تدبر –أخي-: الكتاب الحكيم، واقرأ دائما في القرآن، وتدبر خلق الله؛ لتعرف نعمة الله عليك، ولتأكد توحيدك لله، وتعزز محبتك له -جل وعلا-، وارتباطك به!.
وبتعظيمنا لله؛ نزداد إيمانا، ونستيقظ من رقدة الغفلة!.
اللهم اجعلنا من المعتبرين بآياتك، الواصلين إلى مرضاتك، المؤمنين بك، الموحدين لك، وغير المشركين بك يا رب العالمين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد:
يا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
واعلموا: أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم.
واعلموا: أن أصدق الحديث كتاب الله، وأن خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار -عياذا بالله-.
وصلوا وسلموا -عباد الله- على من أمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال جل من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا)[الأحزاب:57].