الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | فهد بن سعد أبا حسين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
إذا علمت بأن من أسماء الله :"الجبار" انكسر قلبك بين يديه، وطلبت الحاجات منه وحده؛ لأنه هو الجبار؛ الذي يجبر القلوب المنكسرة، ويغني الفقير، وييسر على المعسر كل عسير، ويجبر المصاب بتثبيته وتوفيقه للصبر، وإعاضته على ذلك أكمل الأجر، ويجبر قلوب الخاضعين لعظمته، الخاضعين لكبريائه. واعلم -رعاك الله- بأن الجبروت لله وحده، وأما المخلوق فتجبره مذموم؛ لأنه مهما تجبر فهو موصوف بصفات النقص، تؤذيه البقة، وتأكله الدودة، أسير جوعة، وصريع شبعة، فلا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد:
من أسماء الله -جل وعلا-: "القاهر"، ومن أسماءه: "القهار".
قال الخطابي -رحمه الله-: "القهار" هو الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلهم بالموت" [النهج الأسمى (2/ص182)].
فهو سبحانه القهار الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، ودانت له الخلائق، وطاحت عند صولته صولة المخلوقين، وبادت عند سطوته قوى الخلائق أجمعين، وتواضعت واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه، جل جلاله، وتقدست أسماؤه.
فإذا علمت -يا عبد الله-: بأن من أسماء الله: "القاهر والقهار"؛ فاعلم أن الخلق كلهم يموتون، والله حي لا يموت، فأعتى الخلق وأشدهم، وأغناهم وملكهم، لا يستطيع أحد منهم رد الموت عن نفسه، ولو أوتوا من القوة والجبروت ما أوتوا: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)[الأنعام: 61-62].
وإذا علمت بأن الله -سبحانه- هو القهار، فاعلم أنه سبحانه هو المستحق للعبادة والألوهية، وما سواه من الآلهة، فإنما هي مخلوقات عاجزة مقهورة، لا تملك أن ترد الضر عن نفسها، فكيف تقهر غيرها: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف: 39].
وإذا قرأ المؤمن: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 18] وقع في القلب الخوف من الله.
ثم إذا قرأ: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) علم أن هذا القهر يجري على مقتضى الحكمة والخبرة والسداد؛ فتطمئن النفوس وتسكن [انظر: ولله الأسماء الحسنى، للشيخ عبد العزيز الجليل (ص417)].
وإذا علمت بأن من أسماء الله: "القهار"، فإنك حينئذ لا تخاف إلا من الله وحده، فهو الواحد القهار، فلا يوجد غيره قهار: "وهو القاهر فوق عباده" فلا تخاف حينئذ إلا من الله، ولا تتعلق إلا به -سبحانه-، ولا تتوكل إلا عليه -سبحانه-.
ومن أسماء الله -جل وعلا-: "الجبار".
والجبار هو المصلح للأمور؛ فجبرُ الفقير يكون بالغنى، وجبرُ الكسير يكون بإصلاحه؛ فهو سبحانه الجبار المصلح للأمور.
وهو سبحانه الجبار الذي قهر الخلق على ما أراد من أمر ونهي.
وهو الجبار الذي قهر الجبابرة بجبروته، وعلاهم بعظمته، لا يجري عليه حكم حاكم، ولا يجري عليه أمر آمر: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23].
ومن تأمل في جبروت الله -سبحانه- ازدادت عظمة الله في قلبه.
أرأيت هذه الأرض كلها، بجبالها وأنهارها، وبحارها وأرضها، وأشجارها وأحجارها، وبيوتها وقصورها، كلها خبزةٌ بيد الجبار يوم القيامة! عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تكون الأرض يوم القيامة خبزةٌ واحدة يتكفؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة"[رواه البخاري برقم (6520) ومسلم برقم (2792)].
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر جبروت الله -سبحانه- في ركوعه، فيقول: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة"[رواه أبو داود برقم (873) والنسائي (2/223)].
فإذا علمت بأن من أسماء الله :"الجبار"، انكسر قلبك بين يديه، وطلبت الحاجات منه وحده؛ لأنه هو الجبار؛ الذي يجبر القلوب المنكسرة، ويغني الفقير، وييسر على المعسر كل عسير، ويجبر المصاب بتثبيته وتوفيقه للصبر، وإعاضته على ذلك أكمل الأجر، ويجبر قلوب الخاضعين لعظمته، الخاضعين لكبريائه.
واعلم -رعاك الله- بأن الجبروت لله وحده، وأما المخلوق فتجبره مذموم؛ لأنه مهما تجبر فهو موصوف بصفات النقص، تؤذيه البقة، وتأكله الدودة، أسير جوعة، وصريع شبعة، فلا يليق بمثل هذا أن يتكبر أو يتجبر.
وقد توعد سبحانه الجبابرة بالعذاب الشديد؛ فقال سبحانه: (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم: 15-17].
وقال سبحانه: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر: 35].
وقال صلى الله عليه وسلم: "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين" [رواه أحمد (2/336) وغيره].
وفي المقابل فإن قلب المنكسر لربه جبره قريب، ولهذا كان دعاء المظلوم والمضطر والمريض والمسافر ونحوهم مجاباً؛ للكسرة التي في قلوبهم.
ومن ذلك قولك في الدعاء: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني".
فسؤال العبد لربه أن يجبره، يتضمن الدعاء بإصلاح حاله، وتقويم أموره، وسائر شؤونه، وإزالة ما فيه من الوهن والضعف والنقص [انظر للفائدة: التوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين، للشيخ السعدي (ص121)].
وإذا علمت بأن من أسماء الله: "الجبار"؛ علمت أن الله جبر خلقه على ما أراد أن يكونوا عليه من خلق، لا يمتنع عليه شيء منهم أبداً، والله -جل وعلا- جبر خلقه على ما شاء من أمر ونهي؛ فشرع لهم من الدين ما ارتضاه لهم: (إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة: 1].
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد...
ومن أسماء الله -جل وعلا-: "العلي": (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255].
ومن أسماءه: "المتعال": (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) [الرعد: 9].
ومن أسماءه: "الأعلى"، قال سبحانه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى: 1].
ومعنى: "العلي" يعني ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته سبحانه؛ فهو سبحانه العلي على خلقه بارتفاع مكانه على أماكن خلقه، فكل شيء تحت قهره وسلطانه.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "وجميع معاني العلو ثابتة له سبحانه:
- علو الذات: يعني على جميع الكائنات وبايَنَها.
- وهو العلي بقدره: وهو علو الصفات وعظمتها، فصفات الله عظيمة لا يماثلها ولا يقاربها صفة أحد، بل لا يطيق العباد أن يحيطوا بصفة واحدة من صفاته.
- وهو العلي بقهره، حيث قهر كل شيء، ودانت له الكائنات بأسرها؛ فجميع الخلق نواصيهم بيده، فلا يتحرك منهم متحرك ولا يسكن إلا بإذنه" أ. هـ باختصار [انظر: فتح الرحيم الملك العلام (ص37)].
فالله -جل وعلا- علا عن كل نقص، وعلا عن كل عيب وسوء، وهو سبحانه فوق كل شيء.
هو الأعلى، وكلامه الأعلى، ووجهه الأعلى، وسمعه الأعلى، وبصره وسائر صفاته عليا.
ولما كان الرب -سبحانه- كذلك كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه؛ كما ذكر ابن القيم -رحمه الله-[هذا الكلام مقتبس من كلام ابن القيم، انظر: للفائدة جهود الإمام ابن القيم في تقرير توحيد الأسماء والصفات (ص1231)].
فالواجب على العبد أن يثبت لله العلو المطلق بكل معانيه، دون تعطيل أو تأويل؛ فقد تضمنت هذه الأسماء علو ذات ربنا -سبحانه-، وأنه عال على كل شيء، ولا شيء فوقه، بل هو فوق العرش كما أخبر عن نفسه سبحانه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طـه: 5].
فإذا علمت بأن الله -سبحانه- له العلو المطلق؛ فاعلم أن الإيمان بعلوه سبحانه يورث في النفس خضوعا وإخباتا لمن هذه صفاته.
وإذا علمت بأن الله -سبحانه- له العلو المطلق، فاحذر من العلو في الأرض، وتجنب الظلم والتكبر، فمهما علا العبد وظلم، فإن الله -سبحانه- هو العلي المتعال فوقه.