العالم
كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
واستخدمه من بعده أفراد من أمته في الأمر العظيم يبلغونه، وينذرون عنه، ومن ذلك: أن حذيفة رضي الله عنه لما رأى اختلاف الناس في المصاحف أسرع إلى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه فأخبره بالذي رأى من اختلاف الناس، وقال: " أنا النذير العريان فأدركوا الأمة.ولما قتل عثمان رضي الله عنه قدم الحجاج بن خزيمة فقال لمعاوية رضي الله عنه: " أنا النذير العريان أنعي إليك أمير المؤمنين عثمان
الحمد لله؛ أرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، ونستغفره لأخطائنا وذنوبنا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق الخلق ليعبدوه، وأغدق عليهم من النعم ليشكروه ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) [إبراهيم: من الآية34].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، بشر أمته وأنذرهم، وهداهم وعلمهم، دلهم على الخير ليأتوه، وحذرهم من الشر ليتقوه ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ) [الأحزاب:45-46].
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه واتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله تعالى لنا في كتابه العزيز ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) [النساء: من الآية131]. وبها وصانا رسوله صلى الله عليه وسلم لما وعظ أصحابه رضي الله عنهم فقالوا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: " أوصيكم بتقوى الله " صححه الحاكم.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- كما أمركم الله تعالى، وكما وصاكم رسوله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم وأن الساعة قريب، وأن عذاب الله شديد.
أيها الناس: بعث الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم هداية للعباد، ونجاة لهم من العذاب، وأنزل عليه الكتاب، ورزقه جوامع الكلام، وسدد منطقه؛ فلا يقول إلا حقا ( إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) [النجم:4-5].
ولما قالت الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، إنك تداعبنا! قال عليه الصلاة والسلام: " إني لا أقول إلا حقا " رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: " اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق " رواه أبو داود بإسناد صحيح.
إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أعذب الحديث بعد كلام الله تعالى وأحسنه، وأجمعه وأحكمه؛ فيه القصص والأخبار، والمواعظ والرقاق، والحكم والأمثال، وما من عبد يداوم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها ويحفظها ويشغل وقته بها، ويقضي عمره فيها، مع تطبيقه لها - إلا نوَّر الله تعالى بصيرته، وأصلح سريرته، ووجد لذة لا يجدها أهل السلطان في سلطانهم، ولا أهل المال في أموالهم، ولا أهل الدنيا في ملذاتهم، ودونكم أخبار أهل السنة، وتراجم حفاظ الحديث؛ اقرؤوها إن شككتم في ذلك.
ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكون مثلا من الأمثال، يقصد به توضيح المعنى، وزيادة العناية والاهتمام بالأمر، والله تعالى قد ضرب لنا الأمثال في كتابه العزيز، وليس كل الناس يعقلها. قال عمرو بن مرة رحمه الله تعالى: " ما مررت بآية من كتاب الله تعالى لا أعرفها إلا أحزنني لأني سمعت الله تعالى يقول: ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) ".
وهذا مثل عظيم ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لحاله مع أمته، وبين فيه الفرق بين من أطاعه ومن عصاه منهم، يروي هذا المثل العظيم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق " رواه البخاري ومسلم.
فشبه حاله مع أمته صلى الله عليه وسلم بالنذير العريان، وأصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة نزع ثوبه، وأشار به إليهم إذا كان بعيدا منهم؛ ليخبرهم بما دهمهم، وأكثر من يفعل هذا طليعة القوم ورقيبهم، وإنما يفعل ذلك؛ لأنه أبين للناظر، وأغرب مشهدا، وأشنع منظرا، وأقوى تأثيرا، فهو أبلغ في استحثاثهم على التأهب للعدو.
وقيل: معناه: أنا النذير الذي أدركني جيش العدو فأخذ ثيابي فأنا أنذركم عريانا.
وقد جاء ما يكشف هذا المعنى في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: خرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرار فقال: " يا أيها الناس، تدرون ما مثلي ومثلكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هم كذلك أبصر العدو فأقبل لينذرهم، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه: أيها الناس أُتيتم، أيها الناس أتيتم، ثلاث مرار " رواه أحمد بإسناد حسن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم هو النذير العريان الذي أنذر أمته، وبالغ عليه الصلاة والسلام في نذارته؛ رحمة بأمته، وشفقة عليهم، ونصحا لهم، حتى كان يرفع صوته بنذارته؛ كما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: " صبحكم ومساكم " رواه مسلم.
ولما نزلت ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا، ثم نادى " يا بني عبد مناف، إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف: يا صباحاه " رواه مسلم.
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نذير، وأمره بالنذارة قد تكرر في القرآن الكريم كثيرا، وجاء بأساليب عدة، وصيغ متنوعة؛ ففي آيات يأمره الله تعالى بالنذارة ( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ) [الأنعام: من الآية51]، ( وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) [إبراهيم: من الآية44]، ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) [المدثر:1-2].
وفي آيات أخر يخبره الله تعالى أن النذارة هي وظيفته التي أرسله إلى الثقلين من أجلها ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) [الرعد: من الآية7]، ( لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) [يّـس:6] ، ( إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) [فاطر:22-24].
وفي آيات أخرى يأمره الله تعالى في محاجتة للمشركين، والرد عليهم حين يطلبون الآيات بأن يخبرهم أن الآيات ليست من شأنه، وإنما هي من أمر الله تعالى، وأن مهمته هي إنذارهم فحسب ( وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ )، وفي الأعراف ( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )، وفي هود ( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ )، وفي الحجر ( وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ )، وفي الحج ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) [الحج:49]، وفي ص ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) [صّ:65]، وفي الآية الأخرى ( إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين )، وفي الذاريات ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) [الذريات:51-52].
وما كانت نذارته صلى الله عليه وسلم إلا استمرارا وتكميلا لنذارة الأنبياء قبله؛ كما قال الله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) [فاطر: من الآية24]، وفي الآية الأخرى ( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى ) [النجم:56].
أي من جنس الرسل السابقين الذين أنذروا أقوامهم عذاب الله تعالى.
وأما موضوعات النذارة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام فهي ما يضر البشر ويوبقهم في الدنيا والآخرة من الشرك والمعصية؛ تحذيرا وتنفيرا منهما؛ إذ هما سبب العقوبة في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فكان من نذارته صلى الله عليه وسلم لأمته تحذيرهم من اتباع سنن المعذبين قبلهم ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) [فصلت:13].
وأما إنذارهم عن قرب الساعة، وعن عذاب الآخرة، ففي آيات عدة ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) [مريم:39]، ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) [غافر: من الآية18] ، ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) [الشورى:7] ، ( يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ) [النازعـات:42-45] ، ( فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) [الليل:14-16].
والقرآن العظيم قد بين مسالك الشر وطرقه، وأسباب العذاب وموجباته؛ ولذلك كان الوسيلة العظمى، والهداية الكبرى التي أنذر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) [الأنعام: من الآية92]، ( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ) [الأنبياء:45]، ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) [الأنعام: من الآية19].
والمعنى: أوحي إلي هذا القرآن لأنذر به المخاطبين وهم أهل مكة، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة، قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: " من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ".
ونذارته صلى الله عليه وسلم لا ينتفع بها إلا المؤمنون، الذين آمنوا بالله تعالى، وصدقوا المرسلين؛ ولذلك خاطبه الله تعالى بقوله سبحانه ( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) [فاطر: من الآية18]، وفي الآية الأخرى ( إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ) [يّـس: من الآية11].
وأما أهل التكذيب والشك من الكفار والمنافقين فإنهم لا ينتفعون بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحذرون ما أنذرهم ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) [البقرة:6]، وفي الآية الأخرى ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) [الأحقاف: من الآية3].
وبإرسال النذر من المرسلين عليهم السلام، يحتج الملائكة على المعذبين من المكلفين في الدار الآخرة ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ) [الملك:8-9].
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني أنا النذير العريان " فاستخدم هذا اللفظ البليغ المؤثر الذي يدل على شدة الحال، وهول المطلع، وفخامة الأمر المنذر عنه وهو عذاب الله تعالى.
واستخدمه من بعده أفراد من أمته في الأمر العظيم يبلغونه، وينذرون عنه، ومن ذلك: أن حذيفة رضي الله عنه لما رأى اختلاف الناس في المصاحف أسرع إلى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه فأخبره بالذي رأى من اختلاف الناس، وقال: " أنا النذير العريان فأدركوا الأمة ".
ولما قتل عثمان رضي الله عنه قدم الحجاج بن خزيمة فقال لمعاوية رضي الله عنه: " أنا النذير العريان أنعي إليك أمير المؤمنين عثمان ".
ولما كثرت الفتن في وقت الأعمش رحمه الله تعالى قال: " أنا لكم النذير العريان، كف رجل يده، وأمسك لسانه، وعالج قلبه ".
أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا العظة والاعتبار، وأن يمن علينا بقوة اليقين والإيمان، إنه سميع قريب، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله؛ نحمده كما أمر، ونشكره فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا نقمته فلا تعصوه؛ فإن ربكم سريع العقاب، وهو شديد المحال.
أيها الناس: في هذا المثل العظيم الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لحاله مع أمته في نذارته واستجابتهم يتبين نصحه عليه الصلاة والسلام لنا، وحرصه على نجاتنا، فشبه صلى الله عليه وسلم نفسه بالرجل الذي أنذر قومه العدو، وشبه إنذاره بالعذاب القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذب الرجل في إنذاره ومن صدقه.
وأكد ذلك بتأكيدات ثلاثة أحدها: قوله: إني رأيت الجيش بعيني، والنبي صلى الله عليه وسلم قد رأى من أحوال المعذبين ما رأى، وكثيرا ما أخبر عن ذلك فقال مرة: " عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي فلم أر كاليوم في الخير والشر " متفق عليه، ومرة أخرى قال: " وأُريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع " متفق عليه، وليس من رأى كمن سمع، والمؤكد الثاني في الحديث قوله: " وإني أنا النذير "، والثالث: قوله: " العريان "؛ لأنه الغاية في قرب العدو، ولأنه الذي يختص في إنذاره بالصدق. ثم قال: " النجاء النجاء " أي: اطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش.
فانقسم الناس تجاه هذا الإنذار إلى قسمين ذكرهم في الحديث فقال عليه الصلاة والسلام: " فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا- أي ساروا الليل كله مبتعدين عن خطر العدو- فانطلقوا على مهلهم فنجوا"، وبين عليه الصلاة والسلام حال الطائفة الثانية بقوله: " وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم " وليختر كل إنسان أن يكون من أحد الطائفتين ما دام الوقت وقت اختيار، وأما إذا دهم العبد الموت فلا اختيار.
ونجاة العبد في إيمانه وعمله الصالح، وهلاكه في معصيته لله تعالى، وكلما تخفف العبد من علائق الدنيا وأثقالها كان أحرى لنجاته، وأسرع في اللحاق بركابهم، وأما من أثقلته الدنيا بزخارفها وزينتها، وحلالها وحرامها فحري ألا يلحق بركب الناجين لثقل ما معه من أحمال، وعسر سيره بها.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المؤمنون- واقبلوا نذارة الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، فقد بان لكم صدقه، وعلمتم نصحه، وأيقنتم بخبره، فهو يخبر عمن خلقكم وابتلاكم بالدين، ومن سيحاسبكم على أعمالكم، فأعدوا لذلك اليوم عدته ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ) [الحاقة:18].
وصلوا وسلموا ...