الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | سعد بن عبدالله البريك |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
وإن الشباب المسلم أحوج الناس إلى مربين أمناء، يدركون استغلال قوته في الخير، وتهذيب طاقاته فيما أباح الله بلا تمرد ولا انزلاق. وإن لم تجد هذه القوى وتلك الطاقات عنايةً من المربين وتوجيهاً من الناصحين، فإنها ستكون عامل هدم، ومعول فساد في المجتمع، وعندئذٍ لا تؤويهم إلا الطرق والأزقة التي تعلمهم كل بذئ من القول وقبيح من الفعل
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا شبيه ولا مثيل ولا نظير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) [لقمان:33].
معاشر المؤمنين: روى الإمام مسلم في صحيحه عن حنظلة الأُسَيْدي رضي الله عنه -وكان من كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه مرَّ بأبي بكر رضي الله عنه وهو يبكي، فقال: مالك يا حنظلة؟، قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله يذكِّرنا الجنة والنار كأنَّا رأْي عين، فإذا رجعنا عافَسْنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيراً، قال: فوالله إنا لكذلك، انطلِق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مالك يا حنظلة "؟، قال: نافق حنظلة يا رسول الله، نكون عندك تذكرُنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأي عين، فإذا رجعنا عافَسْنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيراً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو تدومون على الحال التي تقومون بها عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم، وفي طُرُقكم، وعلى فُرُشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ".
كم هو جميل أن يأخذ الإنسان فترة من الراحة تزيل التعب والإرهاق، وتجدد النشاط، وتقوي على العمل، وتزيد الطاقة والإنتاج.
قال علي رضي الله عنه: " أجِمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تملّ كما تملّ الأبدان ".
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: " إني لأستجم قلبي من اللهو المباح؛ ليكون أقوى لي على الحق ".
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: " لا بأس على المسلم أن يلهو ويمرح ويتفكه، على أن لا يجعل ذلك عادته وخلقه، فيهزل في موضع الجد، ويعبث ويلهو في وقت العمل ".
وكم هو جميل أن يرتاح المؤمن بعد كد، وأن يتنفس بعد عناء، ولكن الأجمل أن يعرف كيف يرتاح من عنائه، ومتى ينفس من تعبه جاعلاً من الراحة والترويح زاداً وعوناً له لراحته الكبرى حين يطأ بقدميه جنة عرضها السماوات والأرض ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) [الحديد:21].
والناس في الإجازة أقسام: منهم الرابح، ومنهم الخاسر. " كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ".
منهم من يقضيها بتعليم أولاده القرآن الكريم ويحضر بهم إلى المساجد؛ لتلقي كتاب الله، ويتعاهد حفظهم وتحصيلهم، ويعوِّدُهم على أداء الصلوات الخمس مع الجماعة، ويعينهم على حفظ آية أو تعلم حديث أو قراءة كتاب نافع، أو يلحقهم بمركز صيفي أو مخيم دعوي يزيدهم إيماناً وثقافة ويكسبهم مهارة ويملأ أوقاتهم بالمفيد النافع.
فهذا قد نصح أولاده، وحفظ أمانة الله فيهم، بسعيه في إصلاحهم؛ ليكونوا عوناً له في الحياة، وخلفاً وذخراً له بعد الممات، فقام بالواجب وبذل الأسباب والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
والبعض يشد الرحال إلى بيت الله الحرام، أو المسجد النبوي فيقضي أوقاته في الحرمين الشريفين بأنواع الطاعات. والصلاة الواحدة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فيما سوى المسجد الحرام، فهذا قد عرف قيمة الوقت ووفق لاستغلاله.
والبعض الآخر: يسافر لزيارة الأقارب وصلة الأرحام، فيقضي جزءاً من الوقت معهم وعندهم، مؤدياً حقاً من الحقوق، فهذا مأجور قد استفاد من وقته.
والبعض الآخر: يسافر للنزهة والترويح المباح في داخل البلاد وبين أظهر المسلمين يقضي وقته في ناحية من نواحيها محافظاً على دينه مروحاً عن نفسه، فعمله هذا مباح لا لوم فيه.
والبعض جعل الإجازة فرصة لاكتساب النافع المفيد فاكتسب علماً أو تعلم حرفة أو أتقن مهنة يستعين بها على أمور دنياه.
ولكن فريق من الناس: يظن أن العطلة إجازة من كل شيء، حتى عن أداء الفرائض وأوامر الشرع ومنهياته !. فيقضي أوقاته في اللهو واللعب وترك الواجبات وفعل المحرمات، أو يسافر إلى البلاد الكافرة؛ لينغمس في أوحال الرذيلة، وربما جرَّه الشيطان ورفاق السوء إلى لهو ومزمار، وميسر وقمار، ومسرح وراقصة وحانة خمَّار.
وربما اصطحب معه نساءه وأولاده؛ ليأخذوا حظهم من الشقاء، وليشاركوه في التعاسة؛ فتخلع المرأة لباس الستر وتلبس لباس ذوات الكفر.
أما الأولاد فيُتركون؛ ليسمعوا ما شاؤوا، وليقرأوا ما شاؤوا، وليشاهدوا ما شاءوا، فيرجعون محملين بمشاعر الإعجاب والتبعية للكفار، ويضحى قدوة الولد والبنت: المغنين والممثلين والراقصات والراقصين؛ روى أحمد والنسائي وصححه الحافظ أحمد شاكر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديّوث ".
والديوث هو: الذي يقر الخُبْث في أهله، وقيل هو الذي لا غَيْرَة له على أهله. وقديماً قيل: كل أمة ضعفت الغَيْرَةُ في رجالها ضعفت الصيانة في نسائها، وإن أقواماً من هؤلاء هم أولى بالحجْر عليهم ممن لا يحسن التصرف في ماله, فهذا مضيع لماله، وذاك مضيع لعرضه؛ فأيها أشد وأنكى؟.
كيف يستغل إجازته في طاعة الله من أقبل على مشاهدة الحرام وتمتع بالحرام، ومن فرَّغ وقته ونفسه لاصطياد الفرائس والتغرير بالأبرياء، ومن سهر ليله ونام نهاره فضيع الصلاة، ومن أمضى وقته وقضى أيامه وانصرمت لياليه وكثرت مجالسه دون ذكر لله تعالى؟؛ في الحديث الصحيح: " ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم"، والتِرة هي الحسرة والندامة.
إن الأولاد ثروة العمر، فهل نتركهم في هذه الإجازة نهباً لرفقةٍ سيئةٍ تنزع منهم في الصيف ما اكتسبوه في دراستهم من علم وأخلاق وأدب؟.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه | إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم |
هل من العقل أن نترك ثروة العمر لرفاقِ شرٍّ يقضون معهم سواد الليل ليبثوا فيهم سواد الفكر؟. وهل من الحكمة أن نتركهم إلى استراحات وأحواش وأزقة وشوارع تبعدهم من المساجد وبيوت الله ومجالس الذكر؟.
وهل حسن التصرف أن نغض الطرف عن سفرهم إلى خارج البلاد؛ ليعودوا بأمراض الخارج الفكرية والكفرية والصحية؟.
إن الإجازة ثروة في الوقت؛ فهل نهدرها فيما يغضب الله تعالى، فإذا انتهت أيام الامتحانات، لملمنا حوائجنا، وحزمنا حقائبنا، في رحلات طويلة تشغل معظم الصيف، إن لم يكن كله، إلى بلاد الكفار في شرق أو غرب؟.
ولسنا بحاجة إلى أن نفصِّل أحوال تلك المصائف؛ فما ظنكم ببلاد تُعد الفاحشة فيها هي الأصل، والعفة شذوذ وتخلُّف، وما بالكم ببلاد إذا لم تتخذ الفتاة عشيقاً لها بعد البلوغ فهي مريضة، وبحاجة إلى عرضها على طبيب الأمراض النفسية يدعوها إلى بذل عرضها لأول عابر سبيل تصادفه، لتنعم بالشقاء بعد ذلك؟.
أما حانات الخمور ومسارح الرقص ودور الخنا والزنا ففي كل شارع وناصية طريق. روى أبو داود والترمذي وصححه الألباني من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين "، قالوا: يا رسول الله لِمَ؟ قال: " لا تراءى ناراهما ".
قال الإمام الخطّابي: " فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراها " أ.هـ.
وقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وسِعَةً فَتُهَجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً ) [النساء:97].
قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى: " هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة، مع قدرته عليها حتى مات، فتقول لهم الملائكة: فيم كنتم؟ أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثَّرتم سوادهم وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير والجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم، والكون مع المسلمين ومعاونتهم على أعدائهم؟. ( قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ ) أي ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة، وهم غير صادقين في ذلك، ولهذا قالت الملائكة ( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وسِعَةً فَتُهَجِرُواْ فِيهَا ) وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد، أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل، لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعاً وفسحة من الأرض، يتمكن فيها من عبادة الله.
ثم قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم ( فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً ) " أ.هـ.
هذا حكم الله فيمن كان في أرضه وداره وهي دار كفر ثم أُمر بالهجرة إلى بلد الإسلام ولم يفعل؛ فكيف بمن يعيش في بلد الإسلام، بين أهل الإسلام، يقيم شعائر الإسلام، ويبصر ويسمع شرائع الإسلام تُطبَّق ويُحكَم بها، ثم يغادرها إلى بلاد الشرك والكفر بحجة السياحة والترويح؟.
كم أهلك الله من الأمم عند غفلتهم وسكرتهم وكفرانهم للنعم ونسيانهم أوامر الله وإعراضهم عنها؟.
لا نسب بيننا وبين الله سوى طاعته فمتى ما أطعنا الله واتبعنا أوامره فإن الله يحفظنا بعينه التي لا تنام ويكلؤنا بركنه الذي لا يضام، ومتى ما أعرضنا وعصينا وارتكبنا الحرام ولم ينكر بعضنا على بعض، هُنَّا على الله ثم أوشك أن يعمنا بعذاب من عنده ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَتٍ مّنَ السَّمَاء وَلأرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَسِرُونَ ) [الأعراف:96-99].
أيها الآباء: إن مرحلة الشباب من أخطر المراحل في حياة الناس؛ لأنها مرحلة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، ولما كان الشباب من العمر وسيسأل الإنسان عن عمره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الشباب في قوله: " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس "، وذكر منها: " وعن شبابه فيما أبلاه " رواه الترمذي.
وإن الشباب المسلم أحوج الناس إلى مربين أمناء، يدركون استغلال قوته في الخير، وتهذيب طاقاته فيما أباح الله بلا تمرد ولا انزلاق. وإن لم تجد هذه القوى وتلك الطاقات عنايةً من المربين وتوجيهاً من الناصحين - فإنها ستكون عامل هدم، ومعول فساد في المجتمع، وعندئذٍ لا تؤويهم إلا الطرق والأزقة التي تعلمهم كل بذيء من القول وقبيح من الفعل.
ويزداد الأمر علة، والطين بلة إذا اجتمعت تلك الطاقات مع مثيرات الغرائز، الموقظة للفتنة النائمة، المهيجة لها عبر أفلام ماجنة، ومجلات فاسدة ودعايات مضللة.
أيها الشاب: لا بد أنك تدرك أن حياة الإنسان أنفاس تتردد وتتعدد، وآمال تضيع إن لم تحدد، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، بل الوقت هو الحياة، وكثيراً ما نسمع المثل السائر: " الوقت من ذهب ". وأنا أقول لك: بل هو أغلى من الذهب ومن كل جوهر نفيس أو حجر كريم. وإن العاقل يفتدي وقته بكل غال ونفيس؛ لأن الوقت هو حياته وعمره، فمن ذا الذي يفرط في حياته وعمره؟.
إن من أكبر علامات المقت إضاعة الوقت، وإن من أمضى يوماً من أيام عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو علم اكتسبه، أو فعل محمود صنعه فقد عقَّ يومه وظلم نفسه.
أخي الشاب: حرام عليك وأنت في عمر الزهور عيشة الّلامبالي بوقته، تقطعه باللهو الباطل وسفاسف الأمور.
حرام أن تألف حياة العبث واللامسؤولية، بينما لا تكاد تطلع الشمس على أقوام ليسوا من أهل الإسلام إلا وتجدهم منهمكين في وسائل معاشهم، وتدبير شئونهم.
وإن سنن الله في كونه تأبى إلا أن يعطى كل امرئ حسب استعداده وجده وعمله. هل يليق هذا الضياع واللهو والانحراف بأمة خُلقت لقيادة البشرية بأسرها!، ووُجِدت؛ لتكون شاهدة على الناس يوم يقومون لربهم؟.
هل يليق ذلك بأمة شرفت بحمل أعظم رسالة! وحملت أثقل أمانة! وأنيط بها أضخم مسؤولية، وأكبر تكليف!؟.
هل نسيت أن الجِدَّ عصمةٌ من أمراض الفراغ وحصنٌ من التهتك والإغراق؟.. وقديماً قالت العرب: " لئن كان العمل مجهدة فإن الفراغ مفسدة ".
ألستم يا شباب الإسلام أبناء قومٍ كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منهم على الدينار والدرهم؛ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي ".
وورد عن عامر بن عبد قيس أحد التابعين الزهاد: أن رجلاً قال له كلمني، فقال له: عامر بن عبد قيس: أمسك الشمس -يعني أوقف لي الشمس واحبسها عن المسير حتى أكلمك-.
وهذا الإمام أبو يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم يُباحث وهو في النزع وخروج الروح بعض عُوَّاده في مسألة فقهية؛ رجاء النفع بها لمستفيد أو متعلم، ولا يخلي اللحظة الأخيرة من لحظات حياته من كسبها في مذاكرة علمٍ وإفادة واستفادة.
لقد كان أسلافنا الأوائل يُسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات؛ ضناً منهم بالوقت، وحرصاً على أن لا يذهب منهم هدراً.
ولقد أورث ذلك نتائج أشبه بالمعجزات، وإنجازات قريبة من الخيال، فحسبك منها حركة الفتوحات التي كانت على قدم وساق وخيول المسلمين التي أزكم أنوفها غبار المعارك وأعلى صهيلها الكر و الفر، فضلاً عن الخطوات الجبارة في التربية وإعداد النشء الجديد ناهيك عن وثبةٍ بعيدة المدى في التصنيف والتأليف والابتكار... هكذا كانت أحوالهم يوم عرفوا قيمة الزمن، وهكذا كانت إنجازاتهم يوم اتسعت مداركهم ونضجت عقولهم.
إن المستفيدين من الحياة هم الذين وفقهم الله لاستغلال أوقاتهم في طاعته، فأعدوا لكل يوم عمله ولكل شهر مشروعه ولكل عام خطته وجعلوا من أوقات الراحة لحظات نافعة وفرصاً نحو الخير دافعة.
إن المداومة والمسارعة في الخيرات فيها اغتنام للوقت من غير تكاسل أو تثاقل؛ ففي حديثه صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقرا منسياً أو غنى مطغياً، أو الدجال فشر غائب يُنتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ". رواه الترمذي.
وإن مما يحفظ الوقت: التنظيم وحسن الترتيب؛ فالزمن لا يتسع لكل شيء، ومن شغل نفسه بغير المهم ضيع المهم وفوّت الأهم، ومن وصايا أبي بكر لخليفته عمر رضي الله عنهما: " اعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار "، ولهذا جاءت عبادات كثيرة موقوتة بأوقاتها، التقدم عليها لا يجزي والتأخر من غير عذر يوقع في المأثم والمغرم.
ومن ظن أن المستقبل أكثر فراغاً فليعلم أن هذا وهم، وسراب فكلما كبرت السن كثرت المسؤوليات، وزادت العلاقات، وضاقت الأوقات، وضعفت الطاقات، فالوقت في الكبر أضيق والجسم فيه أضعف فبادروا ساعاتكم ولا تتعلقوا بغائب مجهول وما التسويف إلا تفويت للحق وخسران لليوم وتضييع للغد.
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه | وأراه أسهل ما عليك يضيُع |
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: جاء في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس, الصحة والفراغ ".
قال ابن الجوزي رحمه الله: " قد يكون الإنسان صحيحاً، ولا يكون متفرغاً، لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا -الصحة والفراغ- فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون" .
وعن ابن مسعود في قوله تعالى ( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) قال: " الأمن والصحة ". وقال مجاهد: " عن كل لذة من لذات الدنيا ".
فلنقدم لنا عملا، نلقاه عند الله شافعا، وويل ثم ويل لمن أهدر وقته في الملهيات والضياع واللهو، فأضاع دنياه وآخرته، ثم يوم القيامة يكون مع الذين يقولون: ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ) [فاطر:37] فيقول لهم الجبار: ( أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ) [فاطر:37].
مثل وقوفك يوم العرض عرياناً | مستوحشاً قلق الأحشاء حيراناً |
النار تلهب من غيض ومن حنق | على العصاة ورب العرش غضباناً |
اقرأ كتابك يا نفسي على مهل | فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا |
لما قرأت ولم تنكر قراءته | إقرار من عرف الأشياء عرفاناً |
خذوه يا ملائكتي | وامضوا بعبد عصى للنار عطشاناً |
المشركون غداً في النار يلتهبوا | والمؤمنون بدار الخلد سكاناً |
إننا نقطع بأيامنا هذه مراحل إلى المستقر الأخير، ووالله ليس بعد الدنيا من دار إلاّ الجنة أو النار.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها | وكل يوم مضى يدني من الأجل |
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: " يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم مضى منك بعضك ".
عباد الله: إياكم والاغترار بالدنيا فإنها تضحك مرة، وتبكي مرات، تفرح مرة، وتحزن مرات، عيشها قليل وظلها زائل ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَلاْنْعَمُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِلاْمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآيَتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [يونس:24].
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
اشغلوا أنفسكم في هذه الإجازة بخير، عليكم بحلق القرآن والذكر، عليكم بمطالعة الكتب النافعة، عليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام وأعمال البر، فإنها خير ما تعمر به الأوقات والإجازات.. فالعمر أعز شيء فلا تضيعوه ولا تفرطوا فيه؛ روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مجاهد قال: " ما من يوم إلا يقول ابن آدم: قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك إلى يوم القيامة فانظر ماذا تعمل فيَّ، فإذا انقضى طواه ثم يختم عليه فلا يُفَكُّ حتى يكون الله هو الذي يفك ذلك الخاتم يوم القيامة. ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أروحني من الدنيا وأهلها. ولا ليلة تدخل على الناس إلا قالت كذلك ".
وقد كان عيسى عليه السلام يقول: " إن الليل والنهار خزانتان فانظروا ماذا تضعون فيهما ".
وعن الحسن رضي الله عنه أنه قال: " ليس يوم من أيام الدنيا إلا يتكلم يقول: يا أيها الناس إني يوم جديد وإني على ما يُعمَل فَّي شهيد، وإني لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة ".
وقال رضي الله عنه: " اليوم ضيفك، والضيف مرتحل بحمدك أو بذمك ".
يقول ابن الجوزي: " وقد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيبا ً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق " أ.هـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " فالوقت منصرم بنفسه منقضٍ بذاته ولذا فمن غفل عن نفسه؛ تصرمت أوقاته وعظمت حسراته واشتد فواته، والواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه، فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك، فإنه عائد عليك لا محالة، لهذا يقال للسعداء في الجنة ( كُلُواْ وَشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ )، ويقال للأشقياء المعذبين في النار ( ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ) " أ.هـ.
اللهم آمنا في أوطاننا اللهم آمنا في دورنا اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم اجمع شملََنا وعلماءَنا وحكامَنا ودعاتِنا ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً.
اللهم اهد ضالنا اللهم من ضل وتنكب الصراط اللهم رده إلى الحق رداً جميلاً.
اللهم عليك بمن تسلط وآذى ونال من مقام نبينا صلى الله عليه وسلم اللهم سلط عليهم جنودك التي لا يعلمها إلا أنت يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم ابسط لنا في عافية أبداننا وصلاح أعمالنا وسعة أرزاقنا وحسن أخلاقنا واستر على ذرياتنا واحفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك اللهم أحسن خاتمتنا في خير عمل يرضيك عنا ربنا لا تقبض أرواحنا على خزي ولا غفلة ولا فاحشة ولا معصية ولا تمتنا بحق مسلم في عرض أو دم أو مال نسألك اللهم عيشة هنية وميتةً سوية ومرداً إليك غير مخزٍ ولا فاضح.
( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) [الأحزاب:56].
اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وارض اللهم عن البقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.