القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد العزيز المبرد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
القلم المسلم سيف مشروع في ساحة الجهاد الفكري، وميدان المواجهة المعرفية، ولن يغلب قلم يكتب: "بسم الله"، وينشر كلمة: الله، وإذا كان أهل الكفر، يغمسون أقلامهم في محابر الشرك، وظنون البشر وآرائهم، فقلم الإسلام يرتوي من محبرة القرآن والسنة، ثم يكتب: بسم الله، ولكن يعظم الخطر...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشـهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له، وأشـهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بما وصى الله به عباده من تقواه، فاتقوه واخشوه حق الخشية، ولتقم حياتكم على التقوى، وموتكم عليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأنتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمرآن: 102].
أيها المؤمنون: لقد جاءت أول رسالة من السماء تنوه بالقلم وشأنه، والقراءة وخطرها: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْلإنسَان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق: 1-4].
وهذا الخطاب موجه إلى نبي أمي، وأمة أمية لا تقرأ ولا تحسب، وكأنه إشارة إلى تحول عظيم قادم في شأن هذه الأمة، وفيه إيماء إلى الدور الذي تؤديه آله الكتابة، فالقلم من أوسع وأعمق أدوات الفكر أثرا في حياة الإنسان، ولذلك جاءت الإشارة إليه في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة في حياة البشر، جاءت الإشارة إليه أول كلمة من القرآن، كما جاء القسم الإلهي العظيم به في أول سورة القلم: (نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم: 1-2].
فآلة القلم التي عظمت قيمتها بقسم الله بها هي مطية الفكر، وأداة العلم، وناقلة المعرفة بها، تستطيع الأمة نشر دعوتها، وبث عقيدتها والإعلان عن منهجها في الحياة، ونظرتها للخلق والخالق، وتصورها للبداية والمصير، ففي القسم بالقلم ما يشير إلى الدور الحضاري الفكري الذي ينتظر هذه الأمة، فبأسنة الأقلام بلغت دعوة الإسلام بلاد الروم والفرس، ومماليك اليمن والأحباش، بلغتها أقلام الإسلام قبل أن تبلغها سيوفها والرماح، وبأسنة الأقلام حفظ تراث الأمة، وخطت المصاحف، ودووين السنة، ومدونات الفقه واللغة، وبها حفظ التاريخ والأدب، بأقلام المسلمين رصدت حركة عصور السلف بكل دقة وبراعة، فإذا قرأت فيما خطته الأقلام، فكأنما تعيش مع القوم وتسمع حديثهم، وما دام قلم المسلم يكتب باسم ربه الذي خلقه، فالكلمة التي يخطها كَلِمَةً طَيِّبَةً: (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) [إبراهيم: 24 - 25].
ما دام قلم المسلمين، يكتب باسم ربه، فلن تقوم على الإسلام شبهة, ولن يستبد بالمسلمين جهل ولا عماية، فالقلم المسلم سيف مشروع في ساحة الجهاد الفكري، وميدان المواجهة المعرفية، ولن يغلب قلم يكتب: بسم الله، وينشر كلمة: الله، وإذا كان أهل الكفر يغمسون أقلامهم في محابر الشرك وظنون البشر وآرائهم، فقلم الإسلام يرتوي من محبرة القرآن والسنة، ثم يكتب: بسم الله، ولكن يعظم الخطر على أمة الإسلام إذا أمسك بالأقلام منافقوها وجهالها ومخدوعوها والمفسدون، وباتوا يخبطون بأقلامهم في أديم أمتهم، ويسخرون من أهل الفضل فيها، ثم يصبَّحون مجتمعاتهم بكل بلية على صفحات الصحف، أو في شبكات المعلومات، وأولئك الكتبة الآثمون أصناف عدة أشرها وأضرها وأشدها فتكاً بالأمة المنافقون، وذلك أن الكتابة الصحفية تعتمد على جمال الأسلوب، وجاذبية العرض، وتلك مهارة لها سلطان على القلوب شهد لهم القرآن: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة: 204].
فأتوا لهم تعجب السامعين بمسلسل أفكارهم، وجمال عباراتها، وروغان معانيها، وفي حقيقتها ومحصلتها النهائية إفساد وزلزلة للثوابت، وطعن في أهل الخير من علماء الأمة، يسخرون منهم في حياتهم وبعد مماتهم، مستغلين في سبيل ذلك كل ظرف مؤلم، وحدث حرج، فأقوالهم المنمقة، وأفكارهم المصففة، هي في حقيقتها إفساد في الأمة، وبلبلة وفتنة، ورغم ذلك يقولون عن أنفسهم: أهل رؤية ناقدة، ورواد إصلاح، وصدق الله -عز وجل-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11-12].
فأبرز سمة من سماتهم: أنهم أوتو سلطان القول والصورة: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 55].
فظواهرهم حسنة، ولكن حشوهم شرٌ وفساد وحنق على المجتمع.
ومن أعظم مصائب الأمة اليوم: ظهورهم على ساحات ثقافتها، فإذا ما وقع خطب أو ألمت نازلة، كانوا هم أول من يقول كلمة، وأول من يصدر رأيه وبيانه، فتعليقاتهم على الأحداث، وتقسيمهم للمواقف، هو أول ما يعلق في نفوس الناس، ويثبت في أذهانهم، وقد نبأنا القرآن، وأن فينا سماعون لهم: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [التوبة: 47].
فلا زالوا يستخفون بالحجاب، ويلمزون المؤمنين والمؤمنات، مستغلين كل حدث، حتى اضمحلت الغيرة في نفوس كثير من الرجال، وتخرقت جلابيب الحياء والعفة عند بعض النساء، ولا زالت أقلامهم تنهش كل فضيلة، وتلدغ كل ذي دين، ولا زال الناس يقرؤون ما يكتب لهم.
ويتبع أولئك المنافقين، بعض جهال الكتبة الذين خلب ألبابهم بريق الشهرة، فصاروا يسايرون التيار، ويهذون بما لا يعرفون، ويتبعون كل فكرها ومعرفتها.
ولقد حرم الله الكذبة العابرة التي تقال في المجلس العارض، فكيف بكذبة الكاتب، وفرية القلم التي تخلد على مرِّ العصور، وتطير في الأفاق، وليسألن عما كتبوا.
وما من كاتب إلا سيفنى | ويبقى الدهر ما كتبت يداه |
فلا تكتب بكفك غير شيء | يسرك في القيامة أن تراه |
فالصحفي الذي ينشر للخلائق خبرا باطلا، أو تحليلا مغرضاً، أو تعليقاً زائفاً، ويخدع الناس في القضايا الكبرى، والمغرض الذي يرمي بالبهتان، ويقذف بالتهم، وتشيع قالته في الناس، ذلك متوعد بأفضع العذاب وأشنعه، ففي خبر البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما حدث به مما رآه من أنواع عذاب أهل النار، فكان مما قال عليه الصلاة والسلام: "أما الذي رايته يُشق شدقة، فكذاب يكذب الكذبة، فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة".
ومثل ذلك من يكذب على الناس في شبكات المعلومات، أو أي وسيلة ينشر بها كذبته، ويبث بها بذاءته: (فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79].
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
اتقوا الله -يا مسلمون-: إن مما يشغل الناس أوقات فراغهم النظر في مواقع المعلومات المشهورة، أو الصحف المنشورة، والناس صنفان: صنف إيجابي الاطلاع، ينظر بعين الناقد، وروح الغيور، فإذا رأى خيراً تواصل معه وشجعه، وأثنى على أهله، وإذا رأى زوراً أنبرى له يفنده، ويرد عليه، ويناصح كاتبه، أو يحث من هو أقدر على مناقشته ومحاورته، ليرتدع عن غيه، ويكف عن باطله، ومن الناس من هو سلبي الاطلاع لا تشبع عيناه من قراءة الصحف، وهو مع ذلك لا يحق حقا، ولا يبطل باطلا، فهو كل على أمته، فذلك إن لم يستطع أن يتحرك نحو الدفاع الحقيقية، فلا أقل من أن يعرض عن اللغو، ويكف عن قراءة سيئ الصحف، ففي كفه عنها فضيلة الإعراض عن اللغو، وتلك من شمائل المؤمنين: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55].
وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون: 3].
بل، فالقراءة السلبية لما يكتبه المبطلون قد تكون مرتبة من مراتب النفاق، وخذلان الدين: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [النساء: 140].
فكفك عن اقتناء تلك الصحف والمجلات والمواقع؛ فيه حفظ لقلبك ودينك، وإبقاء على مالك، وفيه ردع لها ولأهلها الذين يتقوون بأموال المسلمين على النيل من دينهم.
أما القادرون من أهل الأقلام على المنافحة عن دين الله وأهله، وعن الحق وقضاياها، فإنهم غير معذورين بسكوتهم، إنهم مطالبون بالذود عن العقيدة والأخلاق، إنهم مطالبون أن يُبينوا للناس حقيقة الفرق بين حرية الفكر، وجريمة الكفر، وبين المناقشة والمشاقة لله ورسوله، ولئن كتبوا بسم الله فليكون لأحرفهم نور وضياء، فالذي يكتب لنصرة الرحمن ليس كمن يكتب لنصرة الشيطان، والذي يكتب غيرة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ليس كمن يكتب طلباً للشهرة، وسعياً للظهور، والكاتب المحتسب ليس كاكاتب الأجير.
لا يستوى قلم يباع ويشترى | ويراعه بدم المحاجر تكتب |