العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
من أجلّ صفات العاقل: أنه ينظر ويتفكر، ويتأمل ويتذكر، فإذا حقق هذه الأوصاف، وزان تفكره بزينة الشرع، واستنار عقله، بوحي الله -فهو على بينة من ربه- صارت حياته عظات، وهمه في الباقيات الصالحات. أيها الإخوة: أخذت الأرض بعض زينتها بالأمطار التي نزلت عليها، والمؤمل من ربنا أن يتابع علينا فضله، وأن يغيثنا ما تكتمل به الزينة والبهجة. وهذه الأجواء وهذه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
فمن أجل صفات العاقل: أنه ينظر ويتفكر، ويتأمل ويتذكر، فإذا حقق هذه الأوصاف، وزان تفكره بزينة الشرع، واستنار عقله، بوحي الله -فهو على بينة من ربه- صارت حياته عظات، وهمه في الباقيات الصالحات.
أيها الإخوة: أخذت الأرض بعض زينتها بالأمطار التي نزلت عليها، والمؤمل من ربنا أن يتابع علينا فضله، وأن يغيثنا ما تكتمل به الزينة والبهجة.
وهذه الأجواء وهذه الأمطار مدعاة للنفوس أن تسيح في الأرض، وأن تستطيب البقاء في الأرض الفضاء، تنظر إلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت؟
آيات كونية تدل على مكونها: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) [ق: 8].
يخرج الناس هذه الأيام فرادى وزرافات، شبابا وعائلات، إلى أرض الله الواسعة، منهم من قنع بقريب الأماكن، ومنهم من شدَّ رحله إلى أطراف قصية وجهات شمالية، أو جنوبية.
ولهؤلاء دعاؤنا بالحفظ والسلامة.
فاللهم احفظهم حالين ومرتحلين.
والتذاكر الذين يجب أن نبدأ فيه ونعيد، هو: التذاكر بما يحفظ لنا هذه النعمة، ويحرسها من النقص، أو الزوال.
أجل -أيها الإخوة-: سهولة التنقل والترحال نعمة امتن الله بها على عباده، فقوم سبأ قال الله عنهم: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) [سبأ: 18].
وما ذكره الله عن هؤلاء القوم هو -والله- حالنا هذا اليوم سيرنا في ليلنا كسيرنا في نهارنا راحة وأمن، وبيننا وبين ما نقصده من الأماكن قرى ظاهرة، بل إنها أعظم من القرى التي قد تجد فيها ما تريد وقد لا تجد، وقد تجد من يضيفك وقد لا تجد أو تجد ذلك بمعروف ومنة.
أما طرقنا فتسير وأنت أمير في سيرك، تقف حيث شئت، وتشتري من محطات الطريق ما شئت، وإن شئت أن تقيل أو تبيت، فقرارك بيدك، وحاجتك مقضية لك.
لا تتكلف حمل زاد يثقلك، ولا وقود لسيارتك يشغلك.
مستمتع في نزولك كما تستمتع في صعودك، وسعادتك أكمل حينما تصل إلى مقصودك.
بعد هذا كله حري بك: أن لا يراك الله حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك.
فالصلاة قرة عين المسافر والحاضر، ولا خير في عمل يشغلك عن الصلاة.
فالصلاة صلة بين العبد وخالقه في إقامته وسفره، وفي حال جده وهزله، فالمسلم لا يستهين بأول أمر سوف يحاسب عليه يوم القيامة، وقد جعل الله للصلاة كتاباً موقوتاً تؤدى فيه، فلا يجوز تأخيرها عن وقتها، فالمسلم يقوم يصلي وإن طابت له جلسة مع أصحابه، وتفكه في أعذب حديث معهم، والمسلم يصلي وإن وجد لذة في نومه، ودفء في فراشه، بل هو يصلي وإن سحرته متابعة برنامج تلفزيوني، أو شدَّته مشاهدة مبارات كروية هنا أو هناك، وهو يصلي لا تشغله وظيفته، ولا يقدم على صلاته صفقا في سوقه، ولا تجارةً في بيعه ولا شرائه؛ لأنه عبد لله ويخشى أن يفجأه الموت، وهو لم يصل!.
فالصلاة رغبة في قلبه، وراحة لنفسه.
فيا أيها المرتحلون ويا من نصبوا خيامهم أو استأجروها وعمدوا إلى توفير ما تكون فيه مخيماتهم ممتعة مريحة: فالله الله بالصلاة، ارفع الآذان في مكان نزولك، وناد للصلاة بصوت مسموع ليشهد لك من سمع ندائك من حجر أو شجر، اجمع عليها رفاقك، أيقظ نائمهم، وادع جالسهم وحثهم على كمال الطهارة بالماء إن توفر الماء وضوءاً عن الحدث الأصغر، واغتسالاً عن الحدث الأكبر، فإن عدم الماء أو قلَّ أو كان الجو بارداً يخشى باستعماله الضرر، فقد أباح الله التيمم، حتى يزول العذر، ويسهل استعمال الماء.
ألا وإن مما يعظ الإنسان به نفسه، ويذكر به رفاقه.
ألا تنس يا مرتحلا: أنك في صحة في بدنك وعافية في جسدك، ولولا ذلك لما استطعت أن تفارق بيتك مختاراً تسفه الرياح، وخشونة الرمال، وصبراً على برد قد يعرض، أو مطر قد ينزل.
ثم لا تنس أيضاً أن عماد ذلك كله الأمن في الوطن، فأنت آمن على نفسك وولدك ومالك في بيتك وفي سيارتك، وفي خيمتك، في فلاة من الأرض بعيدا عن الناس، لا تحمل سلاحاً، ولا تتكلف حراسة.
أتشك أن هذه نعمة؟!
إذن حق النعمة: الشكر، فبالشكر تقرُّ النعم، ويعرف فضل المنعم، وقد أذن الله بالمزيد للشاكرين: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7].
ثم إياك: أن تكون في مجالسك ومسامراتك من الغافلين، أو من المتساهلين، فذكرك أخاك بما يكره من كبائر الذنوب، وهي الغيبة التي شبه الله صاحبها بمن يأكل لحم أخيه ميتاً، فلا يكن في حديثك شيء منها، وحذِّر من جهل أو تجاهل.
اصطحاب آلات اللهو، ونصب الدُّشوش لرؤية ما لا تحل رؤيته، والسهر في تقليب النظر في عشرات قنوات الفساد ليجد ما يشبع ناظريه، وما هو بمشبعهما.
فإنَّ حال متتبع قنوات الرذيلة؛ كحال شارب الماء المالح، لا يزيده شربه إلا عطشاً، فهي قد تمكنت من قلبه، فهي أنسه وراحته، وأنى له الأنس والراحة؟.
وسماع الأغاني المحرمة والموسيقى الآثمة من أي مصدر كانت، وقد كثرت مصادرها -لا كثرها الله-
فأصبحت تلاحق الناس في خلواتهم وجلواتهم -نسأل الله السلامة والعافية-.
كل هذه الأمور تعد لحرمات الله، وأسباب لقسوة القلوب، وتبديل لنعمة الله كفراً.
وإن العوض عن ذلك كله أن تتقي الله حيث ما كنت، فالبقاء في البر فرصة للبعد عن صخب الحياة، وللنظر في بديع خلق الله! كيف مدَّ الأرض، ورفع بغير عمد هذه السموات؟
ثم هذه الجبال الصُلبة، وتلك كثبان الرمال الرِّخوة، والوهاد الممتدة؛ من خلقها؟ (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) [لقمان: 11].
(لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر: 57].
ثم إذا جنَّ الليل بدت زينة السماء: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ) [الملك: 5].
آيات نحن عنها غافلون.
ثم نذاكر إخواننا نازلي البر: أن يحذروا الإسراف في المآكل وتجهيزات الطعام وتنويعها في حال أنه لا يحتاج إلا إلى معشار ما أعدَّ، وربما بعض الناس لا يحسن تصريف فائض الطعام، فيترك في مكانه، أو يحمل مع نفايات المخيم ليرمى في الزبالات، وكان يمكن تلافي هذا بالاقتصاد في الولائم، ومتعة البر في نوع طعامه، وعدم الكلفة في إعداده: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
وفقني الله وإياكم لشكر نعمته، والقيام بطاعته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فبعد أن تذاكرنا شيئا مما نحتاجه في أمور رحلاتنا نقول أيضا: إن الإنسان مسؤول عمن تحت يده من البنات والزوجات، فالمخيمات البرية لا تخلي مسؤوليتك من تعاهدهن بالحجاب الساتر، وبعدهن عن مظان الفتنة، وتجمهرات الشباب: "فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
ثم نقول أيضاً: إن الإنسان مسؤول عن سلامة بدنه، وسلامة من تحت يده، فلا يجوز أن يعرض نفسه لأسباب الخطر.
ومما يؤسف له ما كثر سماعنا له وأصبح للأسف قرينا لأيام إجازة أبنائنا، ونهاية اختباراتهم، هو: تلك الحوادث المرورية في الطرق البرية، وغيرها، فحصدت زهرات من شبابنا، بل ذهبت فيها نفوس بريئة، والموت الجماعي لعدد من الأنفس رجالا ونساءً، صغارا وكبارا، والأرقام المخيفة لموتى الحوادث أصبحت أخباراً لا تنقطع.
وفي حادث الأمس المفزع والجنائز الكثيرة يصلى عليهم اليوم في بريدة عظة، وأي عظة، وكفى بالموت واعظاً، غفر الله لهم، وجبر كل من أصيب بهم.
أما إن هذه آجال قد انقضت: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) [الرعد: 38].
ولكن الإنسان مأمور بأخذ أسباب السلامة، والحيطة مما قد يضره، فالسرعة سبب للهلاك، وخصوصا في الطرق الضيقة والمتعرجة.
ثم التساهل وغلبة العاطفة في إعطاء من عرف طيشه، وعدم تعقله السيارة، ليذهب حيث شاء، ويسوق كيف يشاء؛ خطر عليه، وعلى غيره.
حفظنا الله وإياكم بحفظه.