الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وأي نعيم لمن قلبه يغلي بالخطايا والشهوات؟! وأي سرور لمن يلتهب فؤاده بحب الدنيا وهو ملآن من الحسرات؟! وأي راحة من فاته عيش القانعين؟! وأي حياة لمن تعلق قلبه بالمخلوقين؟! وأي عاقبة وفلاح لمن انقطع عن رب العالمين، ومع ذلك لا يرجو العقبى وثواب العاملين، تالله لقد فاز الموفقون بعز الدنيا والآخرة، ورجع أهل الدناءة بالصفقة الخاسرة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله إله الأولين والآخرين، قيوم السموات والأرضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا بالتذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قربه، ولا صلاح للقلوب ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيده، الذي إذا أطيع شكر، وإذا عصي تاب وغفر، وإذا دعي أجاب, وأصلي وأسلم على رسول الله، خير خلق الله -صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: الحياة الحقيقية، المصحوبة بالسلامة والعافية التي يملؤها الاطمئنان والخير، الخالية من المنغصات، مطلبٌ عظيمٌ وغاية نبيلة، وهي مطلب كل الناس وغاية جميعهم, فعنها يبحثون، وخلفها يركضون، وفي سبيلها يضحون ويبذلون، فما من إنسان في هذه الحياة إلا وتراه يسعى ويكدح ويضني نفسه ويجهدها كل ذلك بحثًا عن الحياة السعيدة، وطمعًا في الحصول عليها، والناس جميعًا على ذلك متفقون، ولكنهم يختلفون في معنى هذه الحياة، وفي نوع هذه الحياة، وتبعًا لذلك فإنهم يختلفون في الوسائل والسبل التي توصلهم إلى هذه الحياة إن وصلوا إليها.
أيها المسلمون: إن الحياة الحقيقية في راحة القلوب وطمأنينتها، والقناعة التامة برزق الله, وسرورها بذكر الله وبهجتها وانطباعها بمكارم الأخلاق وانشراح الصدور وسعتها، لا حياة طيبة لغير الطائعين, ولا لذة حقيقية لغير الذاكرين, ولا راحة ولا طمأنينة قلب لغير المكتفين برزق الله القانعين، ولا نعيماً صحيحاً لغير أهل الخلق الجميل والمحسنين.
لقد ذكر كثير من السلف الصالح مشاعرهم عندما عاشوا هذه الحياة الحقيقية، يقول أحدهم: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن في من لذة الأنس بالله؛ لجالدونا عليه بالسيوف"، يقول: لو ذاق أرباب الدنيا ما ذقناه من حلاوة الطاعة لغبطونا وزاحمونا عليه!! فما ظنك -يا عبد الله- بمن يمسي ويصبح ليس له همّ سوى طاعة مولاه ولا يخشى ولا يرجو ولا يتعلق بأحد سواه، إن أُعطي شكر، وإن مُنع صبر، وإن أذنب استغفر وتاب مما جناه!.
هذا -والله- النعيم الذي من فاته فهو المغبون، وهذه الحياة الطيبة التي لمثلها فليعمل العاملون. وأي نعيم لمن قلبه يغلي بالخطايا والشهوات؟! وأي سرور لمن يلتهب فؤاده بحب الدنيا وهو ملآن من الحسرات؟! وأي راحة من فاته عيش القانعين؟! وأي حياة لمن تعلق قلبه بالمخلوقين؟! وأي عاقبة وفلاح لمن انقطع عن رب العالمين، ومع ذلك لا يرجو العقبى وثواب العاملين، تالله لقد فاز الموفقون بعز الدنيا والآخرة، ورجع أهل الدناءة بالصفقة الخاسرة.
أيها المسلمون: وأعلى أنواع الحياة الحقيقية: حياة الأنبياء والمرسلين، والتي هي خالصة لامتثال أوامر الله وطاعته وعبادته، والدعوة إليه، وكمال التوكل عليه، ثم يليهم أتباعهم وورثتهم ممن سار على هديهم واقتفى أثرهم.
فالقلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة، وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العدة، والتأهب للقدوم على الله -عزَّ وجلَّ-، فذلك أول فتوحه وتباشير أنواره، فعند هذا يتحرك قلب المؤمن لمعرفة ما يحبه الله ويرضاه فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه، وهذا عنوان صدق إرادته، فكل من أيقن بلقاء الله وأنه سائله لا بدَّ أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصل إليه.
أيها الإخوة: فإذا تمكن العبد في ذلك فُتِحَ له باب الأنس بالخلوة والوحدة، فذلك يجمع عليه قوى قلبه وإرادته، وتُسد عليه الأبواب التي تفرق همه، فيأنس بها ويستوحش من الخلق. فإذا ترقى في مدارج العبودية، يُفتح له باب حلاوة العبادة، فلا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات، فإذا أدخل في الصلاة ودَّ أن لا يخرج منها.
ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي الحلوى. ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به، وعظمة جلاله وكماله وصفاته بحيث ينسيه ذلك كل ما سواه.
ثم يفتح له باب الحياء من الله، وهو أول مشاهد المعرفة، وهو نور يقذفه الله في القلب يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي الله -عزَّ وجلَّ-، فيستحي منه في جميع أحواله، ويُرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى الملك العلي الأعلى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستوياً على عرشه، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، فعند ذلك تزول عنه هموم الدنيا وما فيها، فهو في وجود والناس في وجود آخر، هو في وجود بين يدي ربه ووليه، ناظر إليه بقلبه، والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا.
ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية، فيرى تصريف وتدبير جميع الكائنات والمخلوقات بيده سبحانه، فإن استمر على حاله واقفاً بباب مولاه، لا يلتفت عنه إلى غيره، ويجد قلبه عالياً صاعداً إلى من ليس فوقه شيء، الذي هو مراد المؤمن وغاية مطلبه كما قال -سبحانه-: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) [النجم: 42]، فهذا لُباب التعبد، وهو سفر الآخرة الذي يُقطع بالقلوب كما أن سفر الدنيا يُقطع بالأقدام.
فياسعادة صاحب هذا القلب، ويا له من قلب مستغرق بما ظهر له من أنوار الجمال، وعظمة الجلال والكبرياء للواحد الأحد!! ولذلك يكون له في الآخرة المنزلة العالية، فقد سأل موسى -صلى الله عليه وسلم- ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة فقال:"أولَئِكَ الَّذِينَ أرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" قال: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]" [أخرجه مسلم 189]، وهل تليق هذه المنزلة العظيمة إلا بمن قَدَّم حب الله تعالى والشوق إليه على حب ما سواه؟، علماً بأن مَنْ نال مِنَ الله تعالى هذه المنزلة نال لا شك أعلى النعيم في الجنة.
أيها الإخوة: إن السعيد كل السعادة من أقبل على ربه، ولم يلتفت إلى ما سواه، فالأنس به -سبحانه- أعلى من كل ما يرجوه العابد من نعيم الجنة، والعبد يُّحجب عن الله بقدر إرادته لغيره، وليس معنى هذا أن الإنسان لا يريد من الله، أو يحتقر ما عظمه الله من نعيم الجنة كالحور، والمآكل والمساكن وغيرها، وإنما المقصود أن لا يحتجب العبد عن إرادة ربه لذاته، ولو لم يكن هناك جنة ولا نار. ولو لم يوجب محبة الله -عزَّ وجلَّ- إلا أنه خالق العبد ومالكه وسيده، فضلاً عن عظمة أسمائه وصفاته وجماله وجلاله.
أيها الإخوة: تعلمون -أعزكم الله- أن القلوب مفطورة على حب الصور الجميلة، لكن المسلم مأمور ومتعبد بغض بصره؛ لئلا تنتقش الصور في قلبه فيعكف عليها محبةً تصرف قلبه عما خُلق له من النظر في الآخرة إلى خالق الجمال -سبحانه-. وإن كل محبة لما سوى الله صرف لما هو حقه لغيره، وهي ألم في القلب يُعذَّب به؛ لانصرافه عن فطرته التي فُطر عليها من محبة إلهه الحق.
ولذلك كان أعلى نعيم الجنة هو رؤية الرب -عزَّ وجلَّ- ومحبته وحلول رضوانه، ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ" [أخرجه مسلم 2835].
فهذا نعيم لا يشغل أهل الجنة عنه ولا يلهيهم ما بين أيديهم من النعيم المخلوق؛ لأن لذته أعظم مما هم فيه من النعيم. وربهم من فوقهم يسلم عليهم، فينظر إليهم وينظرون إليه، وهو مستوٍ على عرشه الذي هو سقف الفردوس، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم.
أيها الأحبة: إن النفوس الزكية العلية تعبد الله لأنه أهل أن يُعبد ويُجل، ويُّحَب ويُعظَّم، ويُّحمد ويوقر، فهو لذاته مستحق للعبادة. ولا ينبغي للعبد أن يكون كأجير السوء إن أُعطي أجرةً عَمِل، وإن لم يُعطَ لم يعمل، فهذا عبدُ الأجرة لا عبد المحبة والإرادة. والعارفون بربهم عملهم على المنزلة والدرجة، والعمال عملهم على الثواب والأجرة، وشتان ما بينهما.
ولا يُفهم من هذا عيب سؤال الله الجنة؛ إذ العبد محتاج لذلك، وإنما العيب أن يكون مبلغ العلم ومنتهي الإرادة والطلب هو الجنة المخلوقة، والغفلة والغَيْبَة عن حقيقة التعبد والتأله للملك الحق، والله -سبحانه- يطلع على قلوب العباد، فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس كما قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم: 83].
وكل من عرف الله تعالى طابت له الحياة، وصفا له العيش، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق، وأنس بالله، وقرَّت عينه بالله، وقرَّت به كل عين، وقرت عينه بالموت.
ومن عرف الله لم يبقَ له رغبة فيما سواه، وأحبه على قدر معرفته به وخافه ورجاه ولهج بذكره، واشتاق إليه، واستحيا منه، وأجلَّه وعظمه على قدر معرفته به.
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين، ورزقنا توبة نصوحاً قبل الموت، إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، وغافر ذنب المستغفرين، وجابر كسر المنكسرين, وصلى الله وسلم على سيد المتقين، وإمام المستغفرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: كل من أحب الدنيا حتى صارت أكبر همه فليوطن نفسه على تحمل المصائب، فمحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: همّ لازم, وتعب دائم, وحسرة لا تنقطع, وذلك أن محب الدنيا لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، فلو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثاً، ومحب الدنيا كشارب الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد سكراً.
عباد الله: إن أسعد الناس في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والتقوى، والإحسان والإخلاص، الذين لا يفعلون شيئاً إلا ابتغاء وجه ربهم الأعلى، لا يريدون سواه كما قال -سبحانه-: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل: 17-21]، وهؤلاء هم الأنبياء ومن سار على هديهم.
وصاحب التقوى لا ينبغي له أن يتحمل من الخلق ونعمهم ومننهم، وإن حمل منهم شيئاً بادر إلى جزائهم عليه؛ لئلا يبقى لأحد من الخلق عليه نعمة تُجزى، ليكون عمله كله لله وحده، لا يفعل ما يفعله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وحده لا شريك له. أما من تطوِّقه نِعَم المخلوقين ومننهم، فإنه مضطر إلى أن يفعل لأجلهم، ويترك لأجلهم.
وكل ذي نعمة يمكن جزاء نعمته إلا نعمة الإسلام، فإنها لا يمكن المنعم بها عليه أن يجزي بها من دعاه إليها، فلهذا من كمال الإخلاص أن لا يجعل العبد عليه مِنَّة لأحد من الناس، لتكون معاملته كلها لله ابتغاءه وجهه، وطلب مرضاته وحده، وهذا الذي وعده الله برضاه بقوله: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل: 21]، وإنما يتم ذلك بطاعة الله ورسوله كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 69، 70].
نسأل الله أن يأخذ بنواصينا إليه، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولا إلى النار مصيرنا, واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.