هذا الكتاب جمع فيه الشيخ رحمه الله تأملاته في كتاب الله عز وجل، وجمع فيه من الفوائد واللطائف التي لم يذكرها في غير هذا الكتاب، وهو يعتبر من أواخر ما كتب رحمه الله في تفسير وتدبر كتاب الله تعالى؛ لذا فإنه يشتمل على عُصارة تدبُّر الشيخ لكتاب الله تعالى.
التفاصيل
المواهب الربانية من الآيات القرآنية مقدمة المعتني بالكتاب مقدمة المؤلف المواهب الربانية من الآيات القرآنيةللعلامة عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله السعدي(1376هـ) رحمه اللهاعتنى بهد.عمر بن عبدالله المقبل الأستاذ المشارك في جامعة القصيم مقدمة المعتني بالكتابالحمد لله الذي منّ على عباده بكتابه المبين، وصلى الله وسلّم على من قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين"([1])، أما بعد:فهذه تحفة ثمينة من آثار العالم الرباني، العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي : (ت: 1376هـ)، والتي نثر فيها شيئاً من كنانة تأملاته لكتاب الله ﻷ، إبان قراءته المتأملة في كتاب الله تعالى في الثامن والعشرين من رمضان عام 1347هـ([2])، أي بعد فراغه من تفسيره بنحو ثلاث سنوات([3]) ، فأتى في هذا الكتاب ـ على صغر حجمه ـ بالفوائد واللطائف التي لم يذكرها في غير هذا الكتاب، بل إنه بعد تتبع الفوائد التي ذكرها في هذا الكتاب ومقارنتها بتفسيره، وبمختصره "تييسير اللطيف المنان" أن جُلّ ما في هذا الكتاب لا يوجد في الكتابين المذكورين([4])، وهما أقرب كتبه لموضوع هذا الكتاب، فأبدع فيما رصف، وأحسن فيما وصف.لقد أعطى العلامة السعدي : ـ في كتابه هذا ـ درساً عملياً لطلاب العلم وشداته أن دأَبَ العالم الاستمرارُ في التعلم والتعليم، والتأمل والتدبر لنصوص الوحيين، وأنه لا توقف لرحلة الطلب ما دام في الروح بقية، كما قال الأئمة رحمهم الله: مع المحبرة إلى المقبرة([5])، ونطلب العلم حتى الممات إن شاء الله([6]).لقد تميز كتاب الشيخ عن تفسيره ومختصره ببعض المزايا:1. أنه من أواخر ما كتب في تفسير وتدبر كتاب الله تعالى.2. حشوه بالتوجيهات السلوكية والتربوية على عادته، فلقد كان عالماً ربانياً، وإماماً مصلحاً، يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ويسوسهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ج ، ومن أبزر ما يستوقفك في هذا الكتاب كلامه العجيب على اسم الله "اللطيف"، والذي لا تجده في غيره من مؤلفاته.3. تضمنه لبعض الاختيارات الفقهية.4. إذا كان تفسير القرآن الكريم كلِّه لا يتهيأ لكل أحد، فإن مثل هذا الكتاب أنموذجٌ يحتذى لأهل العلم في تدوين ما يقع لهم من تأملات متفرقة وفتوحات ربانية في فهم وتذوق هدايات القرآن، خاصة تلك التي تعالج المستجدات والنوازل التي لم يشهدها العلماء من قبل؛ ليزيدوا من يقين الناس ـ عملياً ـ بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل زمان ومكان، وأن الارتباط به وبسنة النبي ج هما سفينة النجاة لهذه الأمة.ولقد كان الداعي لإعادة طبع هذا الكتاب وتصحيحه قدر الطاقة([7]) ـ بعد أن غاب عن الساحة العلمية وقتاً غير قليل ـ أمور:1. نفاد الطبعة الأولى التي طُبعت قبل نحو من خمسة وأربعين عاماً، مع شدة الحاجة إلى مثل هذا الكتاب؛ لما تمتع به من مزايا أشرتُ إليها آنفاً.2. أن الطبعة التي طبعها الأخ سمير الماضي([8]) ـ جزاه الله خيراً ـ مع حرصه فيها على ضبط النص وتصحيحه، إلا أنه أخطأ حين تصرف في أصل الكتاب بالتقديم والتأخير، وإخراجه بنفس الاسم!وكان الواجب في مثل هذه الحال أن لا يخرج الكتاب بنفس الاسم الذي تركه مؤلفه عليه؛ لأن المؤلف حين أخرجه بصورة غير مرتبة، كان هذا مقصوداً له، ولو أراد ترتيب الفوائد لفعل، كما صنع في تفسيره "الأصل" و"مختصره"، وحُسْنُ القصد لا يُسوّغ مثل هذا الفعل حسب أصول التحقيق، وما جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً في خدمة كتب العلماء، وفي الفهارس العلمية التي تقرب ما في الكتاب من فوائد ومعلومات غُنية عن مثل هذا الصنيع، كفهرس الآيات التي استنبط منها الشيخ بعض المعاني، ونحو ذلك.وثمة مخرج آخر، وهو أن يكتب على طرة الكتاب: "ترتيب المواهب الربانية ..."، أو نحو هذه العبارة، فإن هذا خيرٌ وأحسن تأويلاً.وبكل حال، فإن الشيخ سمير يشكر على جهده، وحرصه على خدمة كتاب الشيخ : ، وكان الغرض من التنبيه على هذه المسألة هو التواصي بالخير، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم. ـ عملي في الكتاب:1. قمت بنسخ الكتاب، ومقابلته على الطبعة التي طبعت في إحدى المطابع ـ والتي لم يُذكر اسمها ـ وكانت بإشراف سعيد الدعجاني، وطبعت على نفقة بعض المحسنين([9])، واجتهدت في التصحيح لما وقع فيها من أخطاء، سواء في الآيات أو غيرها.2. بينتُ مواضع الآيات الكريمة التي ذكرها المؤلف.3. خرّجت الأحاديث، وعزوتها إلى أشهر مصادرها، وبيّنتُ حالها إذا كانت خارج الصحيحين بإيجاز يناسب طبيعة الكتاب، وطريقة مصنفه في إيراد الأحاديث.4. رقّمتُ جميع الفوائد ليكون الرجوع إليها أسهل مهما اختلفت طبعات الكتاب مستقبلاً.5. وضعت علامات الترقيم؛ حسب المتعارف عليه في قواعد الإملاء الحديثة.6. وضعت فهارس علمية كاشفة ومعينة على الإفادة من علوم هذا الكتاب المبارك، وهي كالتالي:
فهرس الآيات الكريمة.
فهرس الأحاديث الشريفة.
فهرس بالأسماء الحسنى التي علّق عليها الشيخ.
فهرس الاختيارات الفقهية.
فهرس بالفوائد العامة.
فهرس الموضوعات.ولم أشأ أن أترجم للعلامة السعدي : لشهرة ترجمته، وكثرة تكرارها في بقية كتبه : .وبعد: فهذا مبلغ الجهد في هذا تصحيح هذا الكتاب، فما كان فيه من توفيق وتسديد فهو من الله وحده سبحانه وهو الكريم الوهاب، وما كان فيه من قصور، فمن نفسي، وأنا أستغفر الله منه.وقبل أن أضع القلم، فإنني أشكر الله تعالى شكراً يليق بكمال جلاله وعظيم إنعامه، على ما يسر من تصحيح هذا الكتاب، ثم أشكر الأخ الفاضل الأستاذ/ مساعد السعدي الذي دفع إلي([10]) مشكوراً هذا الكتاب للقيام بتصحيحه وإخراجه بأفضل صورة ممكنة، ترضي الله أولاً، ثم ترضي مصنف هذا الكتاب، ثم أشكر الأخ الفاضل/ سمير بن علي آل غياث، الذي ساعدني في تصحيح ومقابلة هذا الكتاب.والشكر موصول لمركز تدبر للدراسات الذي تولّى طبع هذا الكتاب ونشره بين المسلمين، ضمن جهوده المشكورة في طبع كل ما له صلة بهذه العبادة العظيمة: تدبر القرآن.اللهم تغمد عبدك عبدالرحمن بن ناصر السعدي برحمتك، واجزه عن أمته خير الجزاء، وأصلح له ذريته، وبارك فيهم وفي أموالهم وأولادهم، وانفع بهذا الكتاب، والحمد لله رب العالمين.وكتبه/ عمر بن عبدالله بن محمد المقبلعضو هيئة التدريس بكلية الشريعة – جامعة القصيمعضو الهيئة العالمية لتدبر القرآن[email protected]القصيم – المذنب ، ص.ب 16 – الرمز 519316/5/1432هـ مقدمة المؤلفالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه. هذه فوائد فتح اللهُ عليّ بها في هذا الشهر المبارك، نسأله المزيد من كرمه آمين: 1. قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾[الصافات:153] لما كان قوله: ﴿أَسْلَمَا﴾ توطيناً لنفسه على أمر الله، وعزماً مقروناً بالإخلاص والامتثال، والعزم ربما تخلّف عنه الفعلُ؛ ذكر الفعل بقوله: ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ فاجتمع العزم والفعل، ولكن تخلف أثر الفعل - وهو وقوع الذبح - فذكر تعالى أنه أبدله بذِبحٍ عظيمٍ فداء له. 2. قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة: 184] يدل على أن المعتبر مجرد العدة لا مقدارها في الطول والقصر، والحر والبرد، ولا وجوب الفور وعدمه، ولا ترتيب ولا تفريق، ويقرر هذا قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة: 185]. 3. قوله تعالى: ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾[البقرة: 184] أعم من قوله: "في سفر" ليدخل فيه من أقام في بلد أو برية ولم يقطع سفره، بل هو على سفر؛ وإن لم يكن في سفر. 4. قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ...﴾الآيات[المعارج:11] فيه أن غير المجرم لا يود ذلك؛ لأنه قد افتدى في الدنيا من عذاب يومئذٍ بالتقوى والإيمان، وإنما هو في هذا اليوم لا يحزنه الفزع الأكبر، ويؤمل اجتماعه بمن صلح من آبائه وأبنائه وأحبابه في جنات النعيم. 5. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾[المعارج: 32] أي يكونون لذلك رعاة متعاهدين، مجتهدين في كل سبب تقوم به الأمانات والعهود، وتكمل وتتم، مبعدين عن كل سبب يناقض ذلك، وكذلك قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾[المعارج: 33]. 6. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾[المدثر: 1، 2] نبّه الله تعالى فيها على حال رسوله وكماله، وإتمام نعمة الله عليه، وكم بين ابتداء أمره وانزعاجه من الوحي، وتدثره من شدة ما لقي، وبين آخر أمره حين أتم اللهُ أمورَه كلها؛ ولهذا أمره بتكميل نفسه وتكميل غيره، وأرشده إلى ما ينال به ذلك: وهو القيام التام على وجه النشاط والتعظيم لربه، وتكبيره في باطنه، وتطهير أعماله وثيابه الظاهرة، وترك كل شر ودنس، واستعمال روح الأعمال، وهو الإخلاص في كل شيء، حتى في العطاء؛ فلهذا قال: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾[المدثر: 6] ثم أرشده إلى ما يعينه على كل الأمور، وهو الصبر لوجه الله، فقال: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾[المدثر: 7] ثم تكفل له بحفظه من الأعداء، وحفظ ما جاء به بتوعدهم بالعذاب، خصوصاً لأكبرهم عناداً وأعظمهم عداوة، وهذا تمام النعمة. 7. قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ...﴾الآيات[البقرة: 228] وكذلك قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا...﴾الآية[البقرة: 234] التربص المذكور هو: الانتظار والمكث في العدة، فما الفائدة في قوله: ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ مع أنه يغني قوله: "يتربصن ثلاثة قروء" و"يتربصن أربعة أشهر وعشراً"؟ فاعلم أن في قوله: ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾فائدة جليلة وهي: أن هذه المدة المحدودة للتربص مقصودة لمراعاة حق الزوج والولد، ومع القصد لبراءة الرحم، فلا بد من أن تكون في هذه المدة منقطعة النظر عن الرجال، محتسبة على زوجها الأول، لا تُخطب ولا تَتجمل للخُطاب، ولا تعمل الأسباب في الاتصال بغير زوجها، ويدل على هذا المعنى قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[البقرة: 234] أي من التجمل والتبهي، ولكن بالمعروف على غير وجه التبرج المحظور، ويدل على هذا قوله في الآية الأخرى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾[البقرة:240] فلم يأمر هذه المرة أن يتربصن بأنفسهن، بل جعلها وصية تتمتع بها المرأة سنة بعد موت زوجها جبراً لخاطرها؛ ولهذا رفع الحرج عنها بالخروج، وأنها بعد الخروج لها التجمل المعروف، وقبل ذلك، كما جبر الورثة قبلها لأجل زوجها، فعليها العدل وترك التجمل، وهذا يبين أن الآية الأولى ليست بناسخة لهذه الآية، بل تلك عدة لازمة، وهذه وصية تمتيع غير متحتمة، والله أعلم. 8. الإيمان والاحتساب يخفف المصائب، ويحمل على الصبر؛ دليله قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾[النساء: 104] أي: فليكن صبركم أعظم ومصيبتكم أخف، كما أن عدم الإيمان يصعب المصيبة ويحمل على الجزع؛ دليله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾[آل عمران:156] ومما يدل على الأمرين قولُه تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ...﴾الآيات[الحديد: 22، 23]، وقولُه تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[التغابن: 11] وغير ذلك من الآيات. 9. شرع الله الدين والعبادات والأوامرَ والنواهي لإقامة ذِكره، ولهذا يذكر أن العبادات ناشئة عن ذكره، كما قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾[الأعلى: 14، 15] فجعل الصلاة ناشئة عن الذكر ومسَبَّبة عنه، كما جعل الصلاة لإقامة ذكره، فقال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾[طه: 14]، وقال في ترك الذنوب والاستغفار منها: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾[آل عمران: 135] فجعل الاستغفار ناشئاً عن الذكر؛ فدل ذلك على أن الذكر لله هو الأصل الجامع الذي يتصف به المؤمن الكامل؛ فيصير الذكر صفة لقلبه، فيفعل لذلك المأمورات ويترك المنهيات؛ ناشئاً عن تعظيم الله تعالى وذكره، وهو دليل على ذلك وهو أعظم المقصودات في العبادات. 10. قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: 45]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾[هود: 114]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ...﴾الآيات[آل عمران: 190،191] فكل من كان في عبادة فهو في ذكر الله، ومن ترك منهياً لله فهو في ذكر الله، وهذا هو المعنى الذي خلق اللهُ لأجله([11])، وشرع الشرائع لأجله، وجعل النعم الظاهرة والباطنة مقصودة لأجله، ومعينة عليه، فنسأله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، ويجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، آمين. ـ فصل ـ11. الراسخ في العلم الذي مدحه الله هو: المتمكن في العلم النافع، المزكي للقلوب؛ ولهذا وصف الله الراسخين في العلم بأنهم يؤمنون بمحكم الآيات ومتشابهها، ويردّون المتشابه المحتمل للمحكم الصريح، فيؤمنون بهما جميعاً، وينزلون النصوص الشرعية منازلها، ويعلمون أنها كلها من عند الله، وأنها كلها حق، وإذا ورد عليهم منها ما ظاهره التعارض اتهموا أفهامهم، وعلموا أنها حق لا يتناقض؛ لأنه كله من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، وهم دائماً يتضرعون إلى ربهم في صلاح قلوبهم، واستقامتها وعدم زيغها، ويعرفون نعمة الله عليهم بعظيم هدايته، وتمام البصيرة التي مَنَّ الله بها عليهم. ومن صفاتهم التي وصفهم الله بها: أنهم يدورون مع الحق أينما كان، ويطلبون الحقائق حيثما كانت، ولهذا وصف الله الراسخين من أهل الكتاب بأنهم يؤمنون بما أنزل الله على جميع أنبيائه، ولا يحملهم الهوى على تكذيب بعض الأنبياء وبعض الحق، فقال تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ...﴾الآية[النساء: 162].12. توطين النفس على عدم الانقياد للحق لا ينفع معه تذكير ولا وعظ، قال تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾[الإسراء: 47]؛ ولهذا يذكر الله هذا المعنى في سياق الإخبار عن عدم إيمان الكفار وانقيادهم، وإذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة فكما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾[يونس: 96، 97]، ويذكر تعالى أن الذي ينتفع بالتذكير هو الذي يطلب الحق والإنصاف، فهذا إذا تبين له الحق انقاد له، والله أعلم.13. لما قُتِل من قُتِل من الصحابة شهداء في سبيل الله؛ أنزل الله على المسلمين: بلغوا إخواننا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، فتلوها مدة فأنزل الله بدلها: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 169 - 171] وفي هذا حكمة ظاهرة، فإنه مناسب غاية المناسبة أن يخبر الله عنهم إخوانهم وأصحابهم وأحبابهم بخصوصهم؛ ليفرحوا وتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، ويقدموا على الجهاد، فلما حصل هذا المقصود، وكان هذا الحكم ثابتاً - لمن قتل في سبيل الله إلى يوم القيامة - وكان من بلاغة القرآن وعظمته أنه يخبر بالأمور الكلية، ويذكر الأصول الجامعة؛ أنزل الله هذه الآيات العامات المحكمات حكمة بالغة، ونعمة من الله على عباده سابغة. ونظير هذا أنه كان مما يتلى: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة..." إلخ، فنسخ لفظها وجعل الشارع الرجم بوصف الإحصان؛ لأنه هو الصفة الموجبة لا وصف الشيخوخة، ولكن في ذِكر الشيخ والشيخة من بيان شناعة هذه الفاحشة - ممن وصل إلى هذه الحال وقبحها ورذالتها - ما يوطن قلوبَ المؤمنين في ذلك الوقت الذي كانت القلوب يصعب عليها هذا الحكم على الزنى، الذي كانوا آلفين له في الجاهلية؛ فلم يفجأهم بحكم الرجم دفعة واحدة، بل حكم به على الشيخ والشيخة اللذين ماتت شهوتهما، ولم يبق لهما إرادة حاملة عليه إلا خبثُ الطبع وسوءُ النية، فلما توطنت نفوسهم على قبحه شرع لهم الحكم العام، والله أعلم.14. قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا...﴾الآية[الأنعام: 158] فسّر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بطلوع الشمس من مغربها، فالأحاديث الصحيحة دلت على أن أول الآيات طلوعُ الشمس من مغربها، والآية دلت على أن أي آية من آيات الله التي هي مقدمات الساعة - وبها يكون الإيمان اضطرارياً – أتت، فإنه لا ينفع الإيمان؛ لأنه إنما ينفع إيمانُ الاختيارِ وإيمانُ الغيب، وإذا أتى بعضُ الآيات صار الإيمان بشهادةٍ واضطرارٍ فلا ينفع، فالآية دلت على التعليل، والأحاديث دلت على الأولية، والله أعلم.15. قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾[النساء:11]، والآية الأخرى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾[النساء: 12]، والأخرى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾[النساء: 12] فاتفقت على إطلاق الدَّين وتقييد الوصية بحصول الإيصاء بها، وهذا يدل على أن الدَّين مقدَّم على حقوق الورثة وغيرهم مطلقاً، سواء وصى المَدين بقضائه أو لم يُوصِ، وسواء كان ديناً لله أو للآدميين، وسواء كان به وثيقة أم لا، وأما الوصية فشَرَطَ الله في ثبوتها أن يوجد الإيصاء بها، فإن لم يوص الميت لم يجب على الورثة شيء من التركة لغير الدَّين، ولا بد من تحقق الإيصاء، فلو وُجد منه قولٌ في حالِ عدم شعور وعلم بما أوصى به؛ لم يتحقق أنه أوصى. ودلت الآيات على ثبوت الوصية التي يوصي فيها الميت، وقيدتها السُّنة بأنها الثلث فأقل لغير وارث، بل آيات المواريث، وتقدير أنصباء الورثة، مع قوله في آخرها: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إلى قوله ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾[النساء: 13، 14] تدل على أن الوصية لوارث من باب تعدي الحدود.16. لا يمنع الله تعالى عبدَه شيئاً إلا فتح له باباً أنفع له منه وأسهل وأولى، قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾[النساء: 32] فمنع الله مِنْ تمني ما فضّل الله به بعض العبيد على بعض، وأخبر أن كل عاملٍ مِن الرجال والنساء له نصيب وحظ من كسبه، فحض الصنفين على الاجتهاد في الكسب النافع، ونهاهم عن التمني الذي ليس بنافع، وفتح لهم أبواب الفضل والإحسان، ودعاهم إلى سؤال ذلك بلسان الحال ولسان المقال، وأخبرهم بكمال علمه وحكمته، وأن من ذلك أنه لا يُنال ما عنده إلا بطاعته، ولا تُنال المطالب العالية إلا بالسعي والاجتهاد، والله الموفق لكل خير.17. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[طه: 131] تضمنت التزهيد في الدنيا، وأن غضارتها([12]) وحسنها الذي متع به المترفين ليس لكرامتهم عليه، وإنما ذلك للابتلاء والاختبار؛ لينظر أيهم أحسن عملاً، وأيهم أكمل عقلاً، فإن العاقل هو الذي يؤثر النفيس الباقي على الدني الفاني، ولهذا قال: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ﴾ أي الذي أعده للطائعين الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولم يغرهم رونق الدنيا وبهجتها الزائلة، بل نظروا إلى باطن ذلك، حين نظر الجهال إلى ظاهرها، وعرفوا المقصود، ومقدار التفاوت، ودرجات الأمور فرزق الله لهؤلاء خير وأبقى، أي أكمل في كل صنف من أصناف الكمال، وهو مع ذلك باق لا يزول. وأمّا مَا متَّع به أهل الدنيا فزهرة الحياة الدنيا، تمر سريعاً وتذهب جميعاً؛ ولهذا نهى الله رسوله أن يمد عينيه إلى ما متع به هؤلاء، ومد العين: هو التطلع والتشرف لذلك، لا مجرد نظر العين، وإنما هو نظر القلب، ولهذا لم يقل: (ولا تنظر عيناك إلى ما متعنا به أزواجاً...)الآية، فمد العين متضمن لاستحسان القلب وتطلعه إلى ذلك، ومثل قوله: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الكهف: 28] فهذه الآية بينت المراد من تلك الآية، وأن نظر العين([13]) المقرون بإرادة زينة الحياة الدنيا، ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[الحجر: 87،88] فنبهه الله تعالى على الاغتباط بما آتاه الله من المثاني والقرآن العظيم، وامتن عليه بذلك، وأنه الخير والفضل والرحمة الذي يحق الفرح والسرور به؛ فإن ذلك خير مما يجمع أهل الدنيا ويتمتعون به، وإنما الذين ينظرون ويغبطون هم المؤمنون الذين لم يغتروا بما اغتر به المعرضون؛ فلهذا قال: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.18. لعل من فوائد تأخير ذِكر ذلك القتيل عن ذِكر الأمر بذبح البقرة - في قصة موسى مع بني إسرائيل - لأن السياق سياق ذم لبني إسرائيل، وتعداد ما جرى لهم مما يقرر ذلك، فلو قدم ذكر القتيل على الأمر بذبح البقرة لصارت قصة واحدة، وقضيةً داخلٌ بعضها في ضمن بعض، فَفَصَل هذا من هذا ليتبين ذمهم وسوء فعالهم في القضيتين؛ ولهذا أتى في ابتداء كل منهما بـ(إذ) الدالة على تذكر تلك الحال وتصويرها، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً...﴾الآيات[البقرة: 67] ثم قال: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾[البقرة: 72] وليرتب عليه أيضاًَ ما ذكر بعده من قوله: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾[البقرة: 73] إلى آخر الآيات، والله أعلم. ويقارب هذا ما ذكر الله في قصة مريم حين أثنى عليها بالنعم الظاهرة والباطنة هي ووالدتها، فذكر حالها وكمالها أوّلاً، وأن الله جعلها في كفالة زكريا لتتربى تربيةً حسنة، وتتأدب وتتعلم، وذكر اجتهادها في ملازمة محرابها، واستجابة دعاء أمها، وأنه تقبلها بقبول حسن، وأنبتها نباتاً حسناً قبل ذكر اختصام بني إسرائيل فيها، واقتراعهم عليها؛ لينبه تعالى أن هذا مقصود، وهذا مقصود، وأن لها مدحاً وكمالاً في حال اختصامهم عليها، ومدحاً وكمالاً في حال نشأتها وعبادتها، وتيسير الله لها أمورها. ومن فوائد ذلك: أن تقديم الغايات والمقاصد والنهايات أهم من تقديم الوسائل، فالاختصاص من باب الوسائل، وما ذكر قبله من باب المقاصد، والله أعلم وأحكم.19. ذِكْرُ الله تعالى مرقّع للخلل, متمم لما فيه نقص, ودليله قوله تعالى - بعدما ذكر صلاة الخوف وما فيها من عدم الطمأنينة ونحوها - قال: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾[النساء: 103] أي: لينجبر نقصكم، وتتم فضائلكم. ويشبه هذا: أن الكمال هو الاستثناء في قول العبد: إني فاعل ذلك غداً، فيقول: إن شاء الله، فإذا نسي فقد قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾[الكهف: 24] وهذا أعم من كونه يستثني، بل يذكر الله تعالى تكميلاً لما فاته من الكمال، والله أعلم، فعلى هذا المعنى: ينبغي لمن فعل عبادة على وجهٍ فيه قصور، أو أخل بما أُمِرَ به على وجه النسيان؛ أن يتدارك ذلك بذكر الله تعالى ليزول قصوره، ويرتفع خلله.20. احتجاج الفقهاء على أنه لا يجب على الزوج أن يطأ زوجته إلا في كل ثلث سنة مرة بقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ...﴾الآية[البقرة: 226] فيه نظر، وإنما فيها الدلالة على أن للمؤلي خاصة هذه المدة لأجل إيلائه، وأما غير المؤلي فمفهومها يدل على خلاف ذلك، وأنه ليس له أربعة أشهر وإنما عليه ذلك بالمعروف؛ لأنه من أعظم المعاشرة الداخلة في قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[النساء: 19] فمن آلى زوجُها منها فله أربعة أشهر، لا تملك المطالبة إلا أن يتبين أن قصده الضرار؛ فيمنع من ذلك.ـ فصل ـ 21. يؤخذ من نهي الله عن نكاح المشركة وإنكاح المؤمن للمشركة، وتعليل الله لذلك: أنه ينبغي اختيار الخلطاء والأصحاب الصالحين، الذين يدعون إلى الجنة بأقوالهم وأفعالهم، وتجنب ضدهم من الأشرار, الذين يدعون إلى النار بحالهم ومقالهم, ولو كانوا ذوي جاه وأموال وأبهة, ولو كان الأولون فقراء ولا جاه لهم ولا قدر عند كثير من الناس؛ لأن اختيار السعادة الأبدية أولى بالعاقل من حصول حظ عاجل يُعقب أعظمَ الحسرة وأشد الفوت، فتخيُّر الخلطاء والأصحاب مِن شيم أولي الألباب.22. قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾[النساء: 49] أي إذا كانوا إنما حملهم على تزكية نفوسهم ومدحها؛ خوف أن لا يعرف مقدارهم ومنزلتهم فليعلموا أن الله هو المزكي لمن يشاء من خلقه، وهو الذي تزكى بترك القبائح وفعل الخيرات، والله تعالى شكور حكيم، فإن كانوا أزكياء حقيقة فلا بد أن يظهر الله ذلك وإن لم يظهروه؛ فإنه لا يظلم فتيلاً، ولكن قد علم أن الحامل لهم على هذه التزكية: الدعوى الباطلة، والافتراء والكذب؛ فلهذا قال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾[النساء:50].23. اتفاق المقاصد والاجتماع من أكبر الأسباب لحصول المطالب المهمة، كما أن اختلاف الإرادات وحصول التنازع من أسباب الفشل وتفويت المصالح؛ ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ - إلى قوله -: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[الأنفال: 45، 46] وإذا كان هذا في قتال الأعداء - الذي هو أشد الأشياء وأصعبها - فغيره من الأمور من باب أولى وأحرى.24. من المناسبات الحسنة أن أكبر البراءة - وهو براءة الله ورسوله من المشركين - أمرَ الله بإعلانها في يوم الحج الأكبر؛ فالذنوب والمعاصي جميعها تشترك في البراءة من الله ورسوله وعدم الموالاة، ولكن البراءة التامة التي ليس معها من الموالاة مثقال ذرة إنما هي: مِن كل مشرك وكافر بالله العظيم، وتمام موالاة المؤمن بالله ورسوله الموافقة التامة على هذه البراءة؛ ولهذا كانت سورة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] إلى آخرها، متضمنة لهذه البراءة، مستلزمة للإخلاص لله تعالى في جميع الدين.25. قوله تعالى: ﴿لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾[التوبة: 8] وفي الآية الأخرى: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾[التوبة:10] دليل على معاداتهم للصحابة خصوصاً وعموماً؛ فخصوصاً: لما بينكم وبينهم من العداوة وآثارها، وعموماً لإيمانهم، فلم تكن هذه العداوة لهم إلا لأجل الإيمان؛ فهم أعداء الإيمان وأعداء كل مؤمن، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، وهذا هو الاعتداء التام؛ فلذلك حصر الاعتداء فيهم بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾.26. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾[التوبة: 12] أوقَعَ الظاهرَ - وهو قوله: ﴿أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ - موقع المضمر، فلم يقل: فقاتلوهم؛ ليدل على الحض على قتالهم، وأنهم تمكنوا من الكفر، ودل على أن بهذه الأشياء يكون الإنسان من أئمة الكفر، وهو نقض العهود، والدعوة إلى دين الكفر، والطعن في دين الإسلام، ويدل هذا على أن أئمة الإيمان ضدهم، فهم المؤمنون الملتزمون لشرائع الإيمان، الموفون بعهوده، الداعون إلى الله، الذابون عنه، المبطلون لما ناقضه ظاهراً وباطناً، وأنهم الموثوق بهم، ومحل القدوة والأمانة، نسأل الله تعالى من فضله.27. قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾[التوبة: 28] دليل على أن قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾[الحج: 26] عام لتطهيره من النجاسات الحسية، والنجاسات المعنوية.28. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[التوبة: 34] ذكر الله فيها جماع الأموال المحرمة، وأن الآكلين لها صنفان: أحدهما: من أخذها بغير حقها، وأخذ أموال الناس بالباطل من الغصوب ونحوها، والرشاء ونحوها وتناول من له مستحق يبذل له، ويأخذه بحسب قيام الوصف به وليس به؛ فدخل في ذلك مصارف الصدقات والأوقاف، والزكوات والكفارات والنفقات ونحو ذلك، والصنف الثاني: مَن منع الحق الذي عليه مِن ديون الله وديون الآدميين، وكلاهما أكل للمال بالباطل.29. قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾[التوبة: 35] قال: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا﴾ ولم يقل: (يوم تحمى في نار جهنم)؛ ليدل ذلك على أنها مع حرارة نار جهنم تستعمل لها الآلات المحمية - كالمنافيخ ونحوها - فيضاعف حرها، ويشتد عذابها.وذكر المفسرون - رحمهم الله تعالى - مناسبة لتخصيص كي جباههم وجنوبهم وظهورهم، وذلك لأنه إذا جاءهم الفقير السائل صعّر أحدُهم بوجهه، فإذا أعاد عليه ولاّه جنبَه، فإذا ألح عليه ولاّه ظهره فاختصت هذه الثلاث لذلك جزاء وفاقاً، وظهر لي معنى أولى من هذا: وهو أن كيّ هذه المواضع الثلاثة هي أشد على الإنسان من غيرها، وهي متضمنة لجهاته الأربع: الأمام والخلف واليمين والشمال؛ وهذه الوجوه التي يخرج منها الإنسان، فلما منعوا الواجب عليهم منعاً تاماً من جميع جهاتهم؛ جوزوا بنقيض مقصودهم؛ فإن مقصودهم من المنع التمتع بتلك الأموال، وحصول النعيم بها، وخوف وحرارة فقدها لو بذلوها؛ فصار المنع هو عين العذاب، فلو أنهم أخرجوها وقت الإمكان لسلموا من كيها، وفازوا بأجرها، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾[التوبة: 35] ويدل عليه أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا» مِن بين يديه ومِن خلفه، وعن يمينه وعن شماله([14]). وفي اللفظ الآخر: «هم الأخسرون ورب الكعبة»([15])، فمن خسارتهم أنهم فاتهم ربح أموالهم وسلامتهم من تبعتها وكيها، ويؤيد هذا: أن المعنى الذي ذكره المفسرون ليس في اللفظ ما يدل عليه، وليس أيضاً لازماً لكل مانع؛ فقد يمنع الفقير والسائل وهو بغير تلك الصفة، وقد يكون عنده حق واجب لا يطلب، ويسأل أن يعطاه، فيستحق هذا الجزاء، والله أعلم.30. قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾[التوبة: 36] دليل على أن هذه الشهور المعروفة قد ألهم الله العباد لها وفطرهم عليها، وأن ذلك موافق لقدره وشرعه، ويستدل بها من قال: إن اللغة إلهام من الله، لا اصطلاحٌ اصطلح عليه العقلاء، والله أعلم.31. قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[التوبة: 36] في هذه الآية الكريمة فوائد: إحداها: وجوب قتال المشركين؛ لأن الأمرَ الأصلُ فيه الوجوب.الثانية: أن ذلك فرض على جميع المؤمنين، وهذا مأخوذ من قوله: ﴿وقاتلوا﴾ لا من قوله: ﴿كافة﴾ فإن ﴿كافة﴾ حال من "المشركين" على الصحيح، فخطاب الله للمؤمنين جميعاً بقوله: ﴿وقاتلوا﴾ يدل على ذلك، ولكن هذا الفرض على الكفاية على القادر؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾[التوبة: 122] وقوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ...﴾الآية[النور:61] .الثالثة: أن هذا القتال لجميع المشركين، لا يختص به أحد دون أحد. الرابعة: أن المستكبرين عن عبادة الله - من أنواع الملاحدة والدهرية - أولى بالقتال من المشركين.الخامسة: أن قتالهم مستَحَق بشرطين: كونهم مشركين، وكونهم مقاتلين، فمتى زال أحدُ الوصفين لم يقاتَلوا، فالمسلم لا يقاتَل لوصفه الذي اتصف به من الظلم والمعاصي، وإنما يقاتَل المفسد منهم - كالبغاة والخوارج ونحوهم - وكذلك من لم يقاتِل المسلمينَ مِن المشركين لا يقاتَلون؛ إما لكونه ليس أهلاً للقتال - كالنساء والأطفال والشيوخ والرهبان ونحوهم - وإما لكونه أخلد للمسلم، وأقرّ بالجزية، ففيه دليل أيضاً على أن الجزية تقبل من كل مشرك بذلها، ولو لم يكن من أهل الكتاب؛ لهذا العموم.السادسة، والسابعة: فيه التنبيه على الإخلاص في الجهاد، وأنهم يقاتَلون لوجه الله، ولكونهم اتصفوا بما يبغضه الله - وهو الشرك - فليكن الحامل لكم أيها المؤمنون على قتالهم: موافقة ربكم في بغضه وعداوته لهم؛ لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا.الثامنة: التهييج للمؤمنين على قتال المشركين، وذلك أنهم يقاتلون المؤمنين كافة؛ فكل من اتصف بالإيمان فطبعهم الخبيث معاداتُه وقتالُه لأجل إيمانه، أفلا تقاتلون - أيها المؤمنون - مَن كفروا بما جاءكم من الحق، وعاندوه وحاربوه؟! فلتكونوا في عداوتهم متفقين، وعلى حربهم جاهدين.التاسعة: الاجتهاد على التحقق بتقوى الله؛ لتُنال بذلك معونة الله ومعيته. العاشرة: أن معية الله نوعان: عامة، يدخل فيها البر والفاجر، كقوله: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾[المجادلة: 7] وما أشبهها من الآيات الدالة على كمال العلم والمجازاة، وخاصة لمن قام بمحبوبات الله: من الإيمان والإحسان والصبر والتقوى، كقوله: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، و﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، و﴿مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهذه المعية تقتضي - مع العلم والجزاء الحسن - العون والنصرة والتأييد والقرب الخاص.الحادية عشرة: بلغ فيها التنبيه على أسباب الانتصار على الأعداء، وهو الاتفاق على قتالهم، وعدم المنازعة، والإخلاص لله تعالى، وشدة العداوة التي مِن لازمها أن يُبْذل ما يستطاع ويُمكن في قتالهم، ويدخل في ذلك: إعدادُ السلاح والخيل، والقوةُ بجميع أنواعها، وكذلك حصول اليقين بمعية الله والإتصاف بالتقوى، فمتى اجتمعت هذه الأسباب لم يتخلف عنها النصر؛ وبحسب ما يفوت منها يفوت من النصر، وبهذا ونحوه يُعلم أن الشريعة الإسلامية كاملة من جميع أبوابها، منتظمة لمصالح الدنيا والآخرة وبالله التوفيق.32. قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾[التوبة: 37] فيها دلالة على تحريم الحِيَل المتضمنة تغييرَ دين الله؛ بإسقاط الواجبات وإحلال المحرمات بالتوصل إلى ذلك بصورة المباح، ووجه هذا: أن الله تعالى ذم أهل النسيء، وجعل هذا من زيادة كفرهم، وهم يُقدّمون شهراً أو يؤخرونه، ويبدلون الشهر الحرام بالشهر الحلال وبالعكس، ويجعلونه العدد الذي يصطلحون عليه، ويسمونها بالأشهر الحرم! ويتجنبون فيها ما يتجنبون في الأشهر الحرم، فهم غيّروا صُوَرها وأسماءها، وعلّقوا التحريم والتحليل على الصورة والاسم، لا على الحقيقة والمعنى! وهذه الحيل بعينها من غير فرق، والله أعلم.33. الداعي إلى الله وإلى دينه له طريق ووسيلة إلى مقصوده، وله مقصودان: فطريقة الدعوة بالحق إلى الحق للحق فإذا اجتمعت هذه الثلاثة، بأن كان يدعو بالحق أي بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وكان يدعو إلى الحق - وهو سبيل الله تعالى وصراطه الموصل لسالكه إلى كرامته - وكان دعوته للحق، أي: مخلصاً لله تعالى، قاصداً بذلك وجهَ الله؛ حصل له أحد المقصودين لا محالة، وهو: ثواب الداعين إلى الله، وأجر ورثة الرسل بحسب ما قام به من ذلك، وأما المقصود الآخر، وهو: حصول هداية الخلق وسلوكهم لسبيل الله الذي دعاهم إليه؛ فهذا قد يحصل وقد لا يحصل، فليجتهد الداعي في تكميل الدعوة كما تقدم، وليستبشر بحصول الأجر والثواب، وإذا لم يحصل المقصود الثاني - وهو هداية الخلق - أو حصل منهم معارضة أو أذية له بالقول أو بالفعل؛ فليصبر ويحتسب، ولا يوجب له ذلك ترك ما ينفعه، وهو القيام بالدعوة على وجه الكمال، ولا يضق صدره بذلك؛ فتضعف نفسه، وتحضره الحسرات، بل يقوم بجدٍ واجتهاد، ولو حصل ما حصل من معارضة العباد. وهذا المعنى تضمنّه إرشادُ الله بقوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾[هود: 12] فأمره بالقيام به بجدٍ واجتهاد، مكملاً لذلك غير تارك لشيء منه، ولا حرج صدره لأذيتهم، وهذه وظيفته التي يُطالَب بها؛ فعليه أن يقوم بها، وأما هداية العباد ومجازاتهم فذلك إلى الله الذي هو على كل شيء وكيل.34. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾[الروم: 33] ونحوها من الآيات التي فيها هذا المعنى؛ فإذا كان هذا ثابتاً في أصل الدين، أن الناس أكثرهم إذا مسهم الضر أنابوا إلى الله؛ لعلمهم أنه كاشف الكربات وحده لا شريك له، وللضرورة التي تضطرهم إليه، ثم إذا زالت الضرورة عادوا إلى شركهم؛ فكذلك الأمر ثابت في فروع الدين، وفي سائر الأمور تجِدِ الناسَ مستجيبين لداعي الغفلة، مقيمين على ما يكرهه الله، غافلين عن ذكر ربهم ودعائهم، فإذا مستهم نائبةٌ من نوائب المحن أقبلوا إلى ربهم متضرعين، ولكشف ما بهم داعين، فأقبلوا وأنابوا، ثم إذا أزال الله شدتهم، وكشف كربتهم؛ عادوا إلى غفلتهم وغيهم يعمهون، ونسوا ما كانوا يدعونه إليه من قبل، كأنه ما كان. وهذه الحال من أعظم الانحرافات، وأشد البليات التي يبتلى بها العبد، لا يعرف ربه إلا في الضرورة، وهذه شعبة من شعب الشرك، ومن كان فيه هذا الأمر ففيه شَبَه ظاهر مِن حال المشركين. وإنما المؤمن الكامل الذي يعرف ربَّه في السراء والضراء، والعسر واليسر، فهذا هو العبد على الحقيقة، وهذا الذي له العاقبة الحسنة والسعادة الدائمة، وهذا الذي يحصل له النجاة من الكروب إذا وقع فيها، قال تعالى بعدما ذكر عن ذي النون أنه بسبب عبادته في الرخاء عَرفَه اللهُ في الشدة: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الصافات: 143، 144]، وقال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنبياء: 88]، وقال النبي ﷺ: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»([16])، وقريب من هذا المعنى ما ذكر اللهُ من حال المترفين الرادين لدعوة المرسلين، حيث قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾[سبإ: 34] فأخبر أن السبب في ردهم لدعوتهم كونهم مترفين، فدل على أن الترف هو الانغماس في نعيم الدنيا ولذاتها، والانكباب عليها، والتنوُّق([17]) في مآكلها ومشاربها ومراكبها، والإسراف في ذلك يحدث في الإنسان خُلقاً خبيثاً يمنعه من سرعة الانقياد لأمر الله، والاستجابة لداعي الله، وكما أنه ثابت واقع في أصل الدين فإنه واقع أيضاً في شرائعه وفروعه؛ فكم منع الترفُ من عبادات! وكم فوّت مِن قربات، وكم كان سبباً للوقوع في المحرمات؛ فإن الترف وكثرة الإرفاه([18]) تُصيّر الإنسان شبيهاً بالأنعام التي ليس لها همٌّ إلا التمتع في الأكل والشرب! وكذلك يُرَهِّل([19]) البدنَ ويُكسِله ويُثقِله عن الطاعات، ويُشغل القلبَ في مرادات النفس، ومراداتُها كم حملت صاحبها على جمع الأموال من غير حلها! وحملت النفس على الأشر والبطر، والرياء، والفخر والخيلاء، والاستكثار من قرناء السوء! وفي الجملة: في الترف والسرف مِن المضار أضعافَ أضعافَ ما ذكرنا، فعلى العبد أن يكون مقتصداً في مأكله ومشربه، وملبسه ومسكنه، وغير ذلك من حوائجه التي لا بد منها، فلا يعلق قلبه إلا بما يحتاجه منها، ولا يستعمل زيادة عن حاجته، ويُعوّد نفسه على ذلك؛ لتتمرن النفسُ على الأخلاق الجميلة ويسلم مِن كثير مِن الآفات والشرور المترتبة على الترف؛ ولهذا لما فُتحت الدنيا على المسلمين أيام عمر رضي الله عنه، وكثرت الأموال كان - رضي الله عنه - ينهى المسلمين أشد النهي عن الترف، ويأمرهم بالخشونة والاقتصاد الذي به صلاح المعاش والمعاد، وبالله التوفيق.35. قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الروم: 50] فإذا كانت الأرض الخاشعة الخالية من كل نبت، إذا أنزل الله عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، واختلط نبتها، وكثرت أصنافه ومنافعه؛ جعله الله تعالى من أعظم الأدلة الدالة على سعة رحمته وكمال قدرته، وأنه سيحيي الموتى للجزاء، فالدليل في القلب الخلي من العلم والخير حين ينزل الله عليه غيث الوحي فيهتز بالنبات، وينبت من كل زوج بهيج من العلوم المختلفة النافعة، والمعارف الواسعة، والخير الكثير، والبر الواسع، والإحسان الغزير، والمحبة لله ورسوله، وإخلاص الأعمال الظاهرة والباطنة لله وحده لا شريك له، والخوف والرجاء، والتضرع والخشوع لله، وأنواع العبادات وأصناف التقربات، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وغير ذلك من العلوم والأعمال الظاهرة والباطنة، والفتوحات الربانية، مما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر: أعظم مِن الأرض بكثير، على سعة رحمة الله وواسع جوده، وتنوع هباته وكمال اقتداره وعزته، وأنه يحيي الموتى للجزاء، وأن عنده في الدار الأخرى من الخيرات والفضل ما لا يعلمه أحد غيره، وقد نبّه الله على أن حياة القلوب بالوحي بمنزلة حياة الأرض بالغيث، وأن القلوب الخالية من الخير بمنزلة الأرض الخبيثة، فقال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾[الأعراف: 58].36. نية العبد تقوم مقام عمله: وإذا أحسن العبد في عبادة ربه، ووطن نفسه على الأعمال الفاضلة الشاقة؛ سهل الله له الأمور، وهوّن عليه صعابها، وربما انقلبت المخاوف أمناً، وتبدلت المحنة منحة، وربما حصل من آثار ذلك خيرُ الدنيا والآخرة؛ ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ - إلى قوله - ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾[آل عمران: 172 - 174] فلا يُستنكر هذا الخير على ذي الفضل العظيم، وفي هذه الآية دليل أيضاً على أن الله يُحدث لعبده أسباب المخاوف والشدائد ليُحدث العبدُ التوكلَ على ربه، والإخلاص والتضرع؛ فيزداد إيمانُه، وينمو يقينُه، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران: 173].37. قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾[الأنعام: 51] ليس فيه نقص كما توهمه بعضهم! وجعل الخوف بمعنى العلم! وإنما فيه زيادة معنىً نفيس، وهو أنه: كما كان العلم نوعين، علمٌ لا يثمر العملَ بمقتضاه، وإنما هو حجة على صاحبه، وهو غير نافع، وعلم يثمر العمل؛ وهو علم المؤمنين بأن الله سيبعثهم ويجازيهم بأعمالهم؛ فأحدث لهم هذا العلمُ الخوفَ فخافوا مقام ربهم، وانتفعوا بنذارة الرسل، وعلموا أنه ليس لهم من دون الله وليٌ ولا شفيع، فهؤلاء الذين أمر الله رسولَه بنذارتهم لأنهم يعرفون قدرها، ويقومون بحقها، وأما حالة المعرضين الغافلين، والمعرضين المعاندين؛ فهؤلاء لا ينفع فيهم وعظٌ ولا تذكيرٌ؛ لعدم المقتضى والسبب الموجب، وهذا المعنى يأتي بما أشبه هذا الموضع من القرآن، والله ولي الإحسان.ـ فصل ـ38. العزم الذي مدح الله به خيار خلقه، كقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف: 35] هو: قوة الإرادة وحزمها على الاستمرار على أمر الله، والهمة التي لا تَني ولا تفتر في طلب رضوان الله وحسنِ معاملته، وتوطين النفس على عدم التقصير في شيء من حقوق الله، ولذلك لام الله آدم عليه السلام بعدم استمراره على الأمر، وحصول الاغترار منه لعدوه بأكل الشجرة التي عهد الله له بالامتناع من أكلها، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾[طه: 115] فحصول الفتور وفلتات التقصير منافٍ لكمال العزم، ولهذا لم يكن كمال هذا الوصف إلا لمن بلغوا الدرجة العالية في الفضائل، والنقص إنما يصيب العبد من أحد أمرين: إما من عدم عزمه على الرشد، الذي هو الخير، وإما من عدم ثباته واستمراره على عزمه؛ ولهذا كان دعاء النبي ﷺ: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد»([20]) من أنفع الأدعية وأجمعها للخيرات، فمن أعانه الله على نية الرشد والعزيمة عليها والثبات والاستمرار؛ فقد حصل له أكبر أسباب السعادة، والناس في هذا المقام درجات بحسب قيامهم بهذين الأمرين، وحسْب ذي الفضل فضلاً أن تكون العزيمة على الرشد وصفه، وآثارها من العلم والعمل نعته، وإذا حصل له نوع فتور وخلل في هذا المأمور رجع إلى أصله وآخِيَّتِه([21])، وداوى هذا الداء بالتذكر والاستغفار، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[الأعراف: 201] أي تذكروا الخلل الذي دخل عليهم من الشيطان والنقص الذي حصل لهم به الخسران فأبصروا ذلك فبادروا إلى سده والعود إلى ما عودهم وليهم من لزوم الصراط المستقيم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه، آمين.39. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[المجادلة: 11] فيها فضيلة التأدب بالآداب الشرعية، وأنها رفعة عند الله، ولو ظنها الإنسان منقصة، فليس النقص غير الإخلال بآداب الله لعباده، ومن فوائد إيقاع الظاهر موقع المضمر في هذه الآية حيث قال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ ولم يقل: يرفعكم؛ ليدل ذلك على فضيلة الإيمان والعلم عموماً، وأن بهما تحصل الرفعة في الدنيا والآخرة، ويدل على أن من ثمرات العلم والإيمان سرعة الانقياد لأمر الله، وأن هذه الآداب ونحوها إنما تنفع صاحبها، ويحصل له بها الثواب إذا كانت صادرة عن العلم والإيمان، وهو أن تكون خالصة لوجه الله لا لغير ذلك من المقاصد. 40. الظاهر أن قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾[الأعراف: 96] تفسير لقوله في الآية الأخرى: ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾[المائدة: 66] فالسماء منها مادة الأرزاق، والأرض محلها وموضعها.ـ فصل ـ41. قوله تعالى: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾[النساء: 108] ذم لهم من وجهين: من جهة فعل الذنب، والإصرار على الذنب، وثم وجه ثالث مِن الذم وهو: أن الله ذمهم على المكر؛ لأن التبييت هو التدبير ليلاً على وجه الخديعة للحق وأهله: من كلامهم وقولهم بما يبغضه الله ولا يرضاه من الأقوال المحرمة، ومن الإصرار على ذلك؛ فقولهم إثم وظلم، وبياتهم على ذلك وإصرارهم عليه إثم آخر، وهذا أبلغ من أن لو قال: "وهو معهم إذ يقولون ما لا يرضى من القول" فعلى العبد التوبة إلى الله من فعل الذنوب والإصرار عليها، فكما أن فعلها معصية؛ فالاستمرار عليها ونية فعلها متى سنحت له الفرصة معصيةٌ أخرى، وعلى العبد أن يُبيّت ما يرضي اللهَ تعالى من الأقوال والأفعال، فيفعل ما يقدر عليه من الخير وينوي فعل الخير الذي لم يحضر وقته، والذي لا يقدر عليه، وبذلك يتحقق العبد أن يكون ممن اتبع رضوان الله، فيدخل في هذه المعاملة المذكورة في قوله: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾[آل عمران: 162]، وتحصل له الهداية في أموره كلها، ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[المائدة: 16].42. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾[النساء: 130] في هذه الآية فائدة عظيمة، وهي أن العبد عليه أن يعتمد على الله، ويرجو فضله وإحسانه، ويعمل ما أبيح له من الأسباب؛ وأنه إذا انغلق عليه باب وسبب من الأسباب التي قدرها الله لِرِزقه؛ فلا يتشوش لذلك، ولا ييأس من فضل الله، ويعلم أن جميع الأسباب مستندة إلى مسببها، فيرجو الذي أغلق عليه هذا الباب أن يفتح له باباً من أبواب الرزق أوسع وأحسن من الباب الأول. وهذه العبودية من أفضل عبوديات القلب، وبها يحصل التوكل والكفاية والراحة والطمأنينة، فهذه المرأة المتصلة بزوج ينفق عليها ويقوم بمؤنتها، فإذا حصل لها فرقة منه، وتوهمت انقطاع النفقة والكفاية؛ فلتلجأ إلى فضل الله ووعده بأنه سيغنيها وقال: ﴿يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ ولم يقل: "يغنها" مع أن السياق يدل عليه؛ لئلا يتوهم اختصاصها بهذا الوعد، وإنما الوعد لها وله، فالله أوسع وأكثر، ولكن هباته وعطاياه تبع لحكمته، ومن الحكمة أن من انقطع رجاؤه من المخلوقين، ومن كل سبب، واتصل أمله بربه، ووثق بوعده، ورجا بِرَّه؛ فإن الله يغنيه ويقنيه، والله الموفق لمن صلح باطنه، وحسنت نيته فيما عند ربه.ـ فصل ـ43. ينبغي لمن طمحت نفسه لما لا قدرة له عليه، أو غير ممكن في حقه، وحزنَتْ لعدم حصوله، أن يسليها بما أنعم الله به عليه، مما حصل له من الخير الإلهي الذي لم يحصل لغيره؛ ولهذا لما طمحت نفس موسى عليه السلام إلى رؤية الله تعالى - وطلب ذلك من الله، فأعلمه الله أن ذلك غير حاصل له في الدنيا وغير ممكن - سلاه بما آتاه فقال: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الأعراف: 144]، وكذلك نبّه اللهُ رسولَه وعبادَه المؤمنين على هذا المعنى بقوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾[النساء: 90]؛ فإن النظر إلى هذه الحالة - وهو كف أيديهم عن المؤمنين ومسالمتهم - بالنسبة إلى الحالة الأخرى - وهي أن لو شاء الله لسلطهم على المؤمنين فقاتلوهم - مما يهون بها الأمر، فهم وإن لم يكونوا معاونين للمؤمنين؛ فكذلك لم يكونوا معاونين عليهم أعداءهم، ومما يشبه هذا: أن العبد مأمور أن ينظر إلى من دونه في المال والجاه والعافية ونحوها، لا إلى من فوقه؛ فإنه أجدرُ أن لا يزدريَ نعمة الله عليه، وكذلك إذا ابتلي ببلية فليحمد الله أن لم تكن أعظم من ذلك، وليشكر الله أن كانت في بدنه أو ماله لا في دينه، وصاحب هذه الحال مطمئن القلب، مستريح النفس، صبور شكور.44. الإتيان بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾[النور: 27] أحسن من قوله: "تستأذنوا" لأن (تستأنسوا) تتضمن الاستئذان وزيادة التعليل، وأن الحكمة التي شرع الله الاستئذان لأجلها هي: حصول الاستئناس مِن عدم الوحشة، ويدل ذلك أيضاً على أنه يحصل الإذن والاستئذان بكل ما يدل عليه عادة وعرفاً، لكن قد يقال: إن الاستئذان أيضاً يدخل فيه الاستئذان اللفظي والعرفي، والله أعلم.45. الإتيان باللفظ العام في قوله: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا...﴾الآية[النور: 22] مع أنها نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حين تألّى أن لا ينفق على مسطح حين شايع أهل الإفك، مما يحقق أن القرآن العظيم نزل هداية عامة، وأنه يتناول: من لم ينزل عليهم من الأمة، ومن نزلت وهم موجودون، ومن كان له سبب بنزولها وغيره، وهكذا يقال في جميع الآيات التي نزلت في قضايا جزئية خاصة ولفظها يتناول القضايا الكلية العامة؛ وبهذا ونحوه تعرف أن معرفة أسباب نزول الآيات وإن كان نافعاً فغيره أنفع وأهم منه؛ فتَدبُّر الألفاظ العامة والخاصة، والتأمل في سياق الكلام، والاهتمام بمعرفة مراد الله بكلامه، وتنزيله على الأمور؛ كلها هو الأمر الأهم، وهو المقصود، وهو الذي تعبد الله العباد به، وهو الذي يحصل به العلم والإيمان، ومما يدل على أن معرفة أسباب النزول ليس كمعرفة معنى ما أراد الله بكلامه، أنه لا يتوقف معرفة معاني القرآن على معرفتها؛ ولذلك تجد المفسرين يذكرون في أسباب النزول أقوالاً كثيرة مختلفة، لا يهتدي الإنسان إلى معرفة الصحيح منها في الغالب، وكذلك المعتنين بها تضعف معرفتهم بتفسير القرآن كما ينبغي، ولست أقول: إن الاعتناء بأسباب النزول ليس بنافع! بل هو نافع، وقد يتوقف فَهْمُ كمال المعنى عليه! وإنما قولي: إن الاعتناء بتدبر الألفاظ والمقاصد هو الأهم، ومع ذلك فإذا عرض للإنسان سبب نزول بعض الآيات ببعض الواقعات فلا يذهب وهمه إليه وحده، بل يكون مرجعه إلى هذا الأصل الكبير، فيعرف أن القضية الجزئية التي نزلت الآية فيها، فيها بعضُ المعنى وفرْدٌ من أفراده؛ فالمعنى قاعدة كلية يدخل فيها أفراد كثيرة، ومن جملة تلك الأفراد تلك الصورة، والله المستعان في جميع الأمور، المرجو لتسهيل كل صعب، والإعانة على كل شديد.46. ما يجري على الأخيار يحصل لهم فيه النفع خصوصاً، ولغيرهم عموماً، وهذا من بركة الله لهم وبركته فيهم، ومِن نصحهم للخلق؛ ولهذا لما رأى سليمان عليه الصلاة والسلام عرشَ ملكة سبأ مستقراً عنده - قد أحضر في أسرع وقت - قال: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾[النمل: 40] ألا ترى كيف اعترف بفضل الله! وشكر الله على ذلك، وأقر لله تعالى بالحكمة، وأخبر عن كرم الله وسعة غناه، وكان في ضمن كلامه هذا الحض للعباد على هذه الأمور؛ ولهذا أتى باللفظ العام "ومن شكر، ومن كفر"، وإذا تأملت جميعَ القضايا التي تجري على الأنبياء وأتباعهم وورثتهم وجدتها بهذه الحالة ينتفعون بها، وينفع الله بها الخلق بسببهم، فنسأل الله تعالى أن يبارك لنا فيما أعطانا مِن نعم الدين والدنيا؛ فإن بركة الله لا نهاية لها، وجودَه لا حد له، والقليل إذا بارك الله فيه صار كثيراً، ولا قليل في نِعم ربنا! فله الحمد والشكر بجميع أنواعهما حمداً على ما له من أنواع الكمالات، وشكراً على ما أسدى إلى الخلق من الإفضالات والهبات، بالقلب واللسان والجوارح، كثيراً طيبا مباركاً فيه.47. إبطال قول الخصم قد يكون بإبطال الدليل الذي استدل به، أو بإبطال دلالته على مطلوبه، وقد يكون بإبطال نفسِ المقالة التي ينصرها وإفسادِها، وقد يكون بإثبات نقيض ما قاله الخصم قولاً ودليلاً؛ لأن النقيض للشيء متى صح أحدُهما بطل الآخر، وقد اجتمعت هذه الأمور في قول يوسف عليه السلام - محتجاً على صحة التوحيد وإبطال الشرك -: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[يوسف: 39، 40] فأبطل الشرك، وصوّر قبحَه عقلاً ونقلاً، وأن ما يُدعى مِن دون الله آلهة متفرقة، كل فريق يزعم صحة قوله وإبطال الآخر! والحال أنه لا فرق بينهما، وأن المشرك فيه شركاء متشاكسون، وأن هذه المعبودات من دون الله ليس فيها شيء من خصائص الإلهية؛ فليس فيها كمالٌ يوجب أن تُعبد لأجله! ولا فِعال بحيث تَنفع وتَضر فتُخاف وتُرجى، إنما هي أسماء لا حقائق لها، ومع ذلك ما أنزل الله بها من سلطان على عبادتها، فليس في جميع الحجج الصحيحة ما يدل على صحة عبادتها، بل اتفقت الحجج والبراهين كلها على إبطالها وفسادها، وعلى إثبات العبادة الخالصة لله الواحد الذي انفرد بالوحدانية، والكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي ليس له شبيهٌ ولا نظيرٌ ولا مقارب، وهو القهار لكل شيء، فكل شيء تحت قهر الله، وناصيتُه بيد الله، فالواحد القهار هو الذي يستحق الحبَ والخضوعَ، والانكسارَ لعظمته، والذلَ لكبريائه.48. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾[الأحزاب: 4] هذه الآية جمعت كل علم صحيح! وذلك أن العلم: إما مسائل نافعة، وإما دلائل مصيبة؛ فأنفع المسائل المشتملة على الحق - وهو الصدق والعدل والقسط والاستقامة ظاهراً وباطناً - أهدى الدلائل وأرشدها ما هدى السبيل الموصل إلى المطالب العالية، والمراتب السامية، فالكتاب والسنة كفيلان بهذين الأمرين على أكمل الوجوه، وأتمها وأبينها، وما سوى ذلك فهو باطل وضلال؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما بعد الهداية إلى السبيل المستقيم إلا الهداية إلى سبيل الجحيم؟ ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾[الفرقان: 33].49. إن قلت: إن الله أخبر في غير موضع أنه لا يهدي القوم الظالمين، ولا يهدي القوم الفاسقين، والقوم الكافرين، والمجرمين، ونحوهم، والواقع أنه هدى كثيراً من الظالمين والفاسقين، والقوم الكافرين والمجرمين، مع أن قوله صدق وحق، لا يخالفه الواقع أبداً؟! فالجواب: أن الذي أخبر أنه لا يهديهم هم الذين حقت عليهم الشقوة وكلمة العذاب، فإنها إذا حقت وتحققت، وثبتت ووجبت؛ فإن هذا لا يتغير ولا يتبدل، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾[غافر: 6]، ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[يونس: 33]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾[يونس: 96، 97]، وغير ذلك من الآيات الدالات على هذا المعنى، وهؤلاء هم الذين اقتضت حكمة الله تعالى أنه لا يهديهم؛ لكونهم لا يصلحون للهداية ولا تليق بهم، فلو علم فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون، وهم الذين مروا على أسباب الشقاء ورضوها واختاروها على الهدى، وأما مَن سبقت لهم من الله الحسنى فإن الله تعالى يهديهم ولو جرى منهم ما جرى؛ فإنه تعالى هدى كثيراً من أئمة الكفر المحاربين له ولرسوله وكتبه فصاروا من المهتدين، والله عليم حكيم؛ فالذين أخبر عنهم أنه لا يهديهم هم الذين حقت عليهم الشقوة، والذين هداهم هم الذين سبقت لهم منه الحسنى؛ فصار النفيُ واقعاً على شيءٍ، ووقوعُ الهداية واقعاً على شيءٍ آخر؛ فلم يحصل تناقض ولله الحمد.50. سعي الإنسان في دفع أسباب التهمة السيئة عن نفسه والعار والفضيحة ليس بعار، بل ذلك من سيماء الأخيار، ولهذا لم يُجِب يوسفُ عليه الصلاة والسلام الداعيَ حين دعاه إلى الخروج من السجن والحضور عند الملك؛ حتى يتحقق الناسُ براءةَ ما قيل فيه ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾[يوسف: 50].51. لما كان التوكل به حياة الأعمال والأقوال وجميع الأحوال، وبه كمالها؛ قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾[الفرقان: 58] فأمر بالتوكل والاعتماد على الحيِّ كاملِ الحياة، فإذا حقق العبد التوكلَ على الحي الذي لا يموت؛ أحيا الله له أمورَه كلها، وكفِلها وأتمها، وهذا من المناسبات الحسنة التي ينتفع العبد باستحضارها وثبوتها في قلبه، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا توكلاً يحيي به قلوبنا وأقوالنا وأفعالنا وديننا ودنيانا، ولا يكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيره طرفة عين ولا أقل من ذلك، إنه جواد كريم.52. قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر: 9] اشتملت على فوائد عديدة: الأولى، والثانية: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله تعالى عليٌّ على خلقه، وهذا مأخوذ من قوله: ﴿نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ فإنه نزل به جبريل من الله العزيز العليم؛ فكونه نازلاً من عند الله يدل على علو الله، وكونه أيضاً من عنده يدل على أنه كلام الله؛ فإن الكلام صفة للمتكلم ونعت من نعوته.الثالثة: عظمةُ القرآن ورفعةُ قدره وعلوُّ شأنه؛ حيث أخبر تعالى في هذه الآية بما أخبر، أنه الذي تولى إنزاله وحفظه، ولم يَكِل ذلك إلى أحد من خلقه.الرابعة: أن القرآن مشتمل على كل ما يحتاج العباد إليه من أمور الدنيا وأمور الدين، ومن الأحوال الظاهرة والباطنة، فإن معنى الذكر أنه متضمن لتذكير العباد وتنبيههم لكل ما يحتاجون إليه، وتتعلق به منافعهم ومصالحهم، والأمر كذلك؛ فإنه مشتمل على أمور الدين والدنيا ومصالحهما، على أكملِ وجه وأشملِه، بحيث لو تذكر الخلق بتذكيره، ومشوا على إرشاده؛ لاستقامت لهم جميع الأمور، ولاندفعت عنهم الشرور؛ ولهذا أكثر الله في القرآن من حث العباد على الاهتداء به في كل شيء، والتفكر والتدبر لمعانيه النافعة ويترتب على هذا المعنى:الفائدة الخامسة: وهي أن من قام بالقرآن وتذكر به كان رفعة له، وشرفاً وفخراً، وحسنَ ذِكر وثناء، وبهذا أول قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾[الزخرف: 44] أي: شرفٌ ورفعةٌ لمن تذَكَّر به واستقام عليه.السادسة: إن التذكر بغيره غيرُ مفيدٍ ولا مجدٍ على صاحبه نفعاً؛ لأنه إذا ثبت وتقرر أنه مادة التذكير لجميع المنافع؛ عُلم أن ما ناقضه وخالفه فهو بضد هذا الوصف؛ ولهذا أتى بالألف واللام المفيدة للاستغراق والعموم.السابعة: أنه أتى بما يوافق العقل الصحيح والفطر المستقيمة، فليس فيه شيء مخالف ولا مناقض للمحسوس، ولا معاكس للقياس الصحيح، ولا مضاد للعدل والقسط والميزان والحق؛ لأن اللهَ سماه ذكراً، والذكر هو الذي يُذكِّر العبادَ ما تقرر من فطرهم السليمة وعقولهم الصحيحة - من الحق والحث على الخير والنهي عن الشر - فهو مُذكّر لهم ما عرفوه مجملاً، ولم يهتدوا إلى كثير من تفاصيله، فبه تزداد العقول، وتتفتق الأذهان، وتزكو الفِطَر، ولشيخ الإسلام "ابن تيمية" - رحمه الله - في هذا المعنى كتاب: "موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح"([22]).الثامنة والتاسعة: أن الله تكفل بحفظه حال إنزاله، فلا يمكن أن يقربه شيطان فيغيره ويزيد فيه وينقص، أو يختلط بغيره، بل نزل به القويُ الأمينُ جبريلُ على قلب الرسولِ محمد ﷺ القلبِ الزكي الذكي، الذي هو أكمل قلوب الخلق على الإطلاق، وضَمِن اللهُ لرسوله قرآنه وبيانه: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾[القيامة: 18، 19] وتكفّل اللهُ أيضاً بحفظه بعدما نزل وتقرر، فأكمله الله تعالى، وأكمل به على عباده النعمة، واستحفظه لهذه الأمة على اختلاف طبقات علمائها وأئمتها، ووكلهم به، وائتمنهم عليه؛ فكل قرنٍ حمل عدولُه وأزكياؤه - الذين ضمن الله لهم العصمة عند اتفاقهم - ألفاظَه ومعانيه غضةً طرية، لا تغيير فيها ولا تبديل، وكل من أراد إدخال شيء فيه أو إخراج شيء منه؛ قيّض الله من يذب عنه ويحفظه، وهذا من حفظه، ويؤيد هذا:الفائدة العاشرة: أن هذا من أدلة صدقه وصدق ما اشتمل عليه، وصدق مَنْ جاء به - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - فإنه تعالى خبّر بأنه أنزله، وأنه حافظ له؛ فوقع كما أخبر الله تعالى، فصار هذا آية وبرهاناً على صدقه، وصحة ما جاء به، كما يشهد بذلك الواقع.53. فائدة عظيمة: لما كان الدعاءُ مخ العبادة ولبُّها وخالصها - لكونه متضمناً للافتقار التام لله، والخشوع والخضوع بين يديه، وتنوع عبوديات القلب، وكثرة المطالب المهمة - كان أفضلُه وأعلاه ما كان أنفعَ للعبد، وأصحَّ من غيره، وأجمع لكل خير، وتلك أدعية القرآن التي أخبر الله بها عن أنبيائه ورسله وعباده الأخيار، التي كان سيد المرسلين يختارها على غيرها، ولما كان من شروط الدعاء وآدابه: حضور قلب الداعي، واستحضاره لمعاني ما يدعو به؛ أحببت أن أُنبّه تنبيهاً لطيفاً على معاني أدعية القرآن؛ ليسهل استحضارُها فيعظم انتفاعُ العبد بها، فأفضل أدعية القرآن وأفرضُها قولُه تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾[الفاتحة: 6، 7] أي: علِّمْنا يا ربنا وألهِمْنا ووفقنا لسلوك الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، المشتمل على علم ما يحبه الله ورسوله ومحبتِه، وفعله على وجه الكمال، وعلم ما يكرهه الله ورسوله ويُغضبه وتركُه من كل وجه، وحقيقة ذلك: أن الداعي بهذا الدعاء يسأل اللهَ تعالى أن يهديه الصراط المستقيم، المتضمن لمعرفة الحق والعمل به، ويجنبه طريق المغضوب عليهم؛ الذين عرفوا الحق وتركوه، وطريق الضالين؛ الذين تاهوا عن الحق فلم يعرفوه.ومن أجمع الأدعية وأنفعها: دعاء أرباب الهمم العالية، الذين جمع الله لهم بين خيري الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[البقرة: 201] فصدَّروا دعاءهم بقولهم: ﴿رَبَّنَا﴾ وذلك متضمن لاستحضارهم معنى تربية الله العامة، وهو الخلق والتدبير، وإيصال ما به تستقيم الأبدان، والتربيةِ الخاصة لخيار خلقه، الذين رباهم بلطفه وأصلح لهم دينهم ودنياهم، وتولّاهم فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وهذا متضمنٌ لافتقارهم إلى ربهم، وأنهم لا يقدرون على تربية نفوسهم من كل وجه، فليس لهم غير ربهم يتولاهم ويصلح أمورهم، ولهذا كانت أغلب أدعية القرآن مصدرة بالتوسل إلى الله بربوبيته؛ لأنها أعظم الوسائل على الإطلاق التي تحصل بها المحبوبات وتندفع بها المكروهات، وحسنة الدنيا: اسم جامع للعلم النافع والعمل الصالح، وراحة القلب والجسم، والرزق الحلال الطيب - من كل مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومنكحٍ ومسكنٍ، ونحوِها - فهي اسمٌ جامعٌ لحُسن الأحوال، وسلامتها من كل نقص، وأما حَسَنة الآخرة: فهي كل ما أعده الله لأوليائه في دار كرامته مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلبِ بَشر، ولما كانت حسنة الدنيا والآخرة تمامها وكمالها الحفظ من عذاب النار، والحفظ من أسبابه - وهو الذنوب والمعاصي - قالوا: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ فاشتمل هذا الدعاء على كل خيرٍ ومطلوبٍ محمود، ودفع كل شرٍ وعذاب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء كثيراً.ومن ذلك: الدعاء الذي في آخر "البقرة" الذي أخبر اللهُ على لسانِ رسوله أنه قَبِلَه مِن المؤمنين حين دَعوا به: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 286] ولما كان إخلال العبد بأمر الله قد يكون عمداً على وجه العلم، وقد يكون نسياناً وخطأ، وكان هذا القسمُ غيرَ ناشئٍ عن عمل القلب الذي هو محل الإثم وعدمه؛ سألوا ربهم أن لا يؤاخذهم بالنسيان والخطأ، وذلك عامٌّ في جميع الأمور، قال الله تعالى: "قد فعلتُ" ولما كانت بعض الأفعال فيها شدة ومشقة وآصار وأغلال، لو كُلِّف العباد بها لأحرى أن لا يقوموا بها؛ سألوا الله تعالى ألا يحملهم إياها، ولا يكلفهم بما لا طاقة لهم به؛ ليسهل عليهم أمرُ ربهم، وتخف عليهم شرائعه الظاهرة، فقال الله تعالى: "قد فعلت"، ولما كانت أيضاً الشرائع التي شرعها الله لعباده لا بد أن يحصل منهم التقصير فيها - إما بفعل محظور، أو بترك مأمور - وذلك موجبٌ للشر والعقوبة إن لم يغفره الله ويزله؛ قالوا: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾ فبهذه الأمور تندفع المكروهاتُ والشرورُ كلُّها، ثم سألوا الله بعد ذلك الرحمةَ التي ينشأ عنها كلُّ خير في الدنيا والآخرة، ولما كان أمر الدين والتمكين - مِن فعل الخير وترك الشر - لا يحصل ولا يتم إلا بولاية الله وتولّيه، ونصرته على الأعداء الكافرين - من الشيطان وجنوده - قالوا: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ قال تعالى: "قد فعلت"، فالله تعالى يتولى عبده، وييسره لليُسرى في جميع الأمور؛ فيدفع عنه الشرور، فهو نِعم المولى ونِعم النصير.ومن هذا: دعاء الراسخين في العلم بعد الثناء عليهم بالإيمان التام: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾[آل عمران: 8] فسألوا ربهم وتوسلوا بربوبيته في حصول أفضل الوسائل؛ وهو استقامة القلوب على ما يحبه الله ويرضاه، والثبات على ذلك، وعدم زيغها عن هذه الهداية، وأجلِّ المقاصد، وهو حصول رحمة الله تعالى التي يحصل معها خير الدنيا والآخرة، وختموا دعاءهم بالتوسل إلى ربهم باسمه الوهاب أي كثير العطايا، واسع الكرم: فمن كرمك يا وهاب نسألك الاستقامة وعدم زيغ القلوب، وأن تهب لنا من لدنك رحمة؛ لأن الرحمة التي من لدنه لا يُقدّر قدرها، ولا يعلم ما فيها من البركات والخيرات إلا الذي وهبهم إياها، ويشبه أن يكون قولهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾[آل عمران: 9] توسلاً إلى ربهم بإيمانهم بهذا اليوم، وتصديق ربهم في وعده ووعيده، فإن التوسل إلى الله بالإيمان ومنّة الله به من الوسائل المطلوبة؛ فيكون هذا من تمام دعائهم.كذلك: دعاء المتقين الذين أعد لهم الجنة وما فيها الذين يقولون: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل عمران: 16] فتوسلوا بربوبية الله لهم وبإيمانهم أن يغفر لهم الذنوب وأن يقيهم عذاب النار، وإذ غُفرت ذنوبهم ووقاهم الله عذاب النار زال عنهم الشر بأجمَعه، وحصل لهم الخير بأجمَعه؛ لأن الأدعية هكذا تارة تأتي مطابقة لجميع مطالب العبد، وتارة يُذكر نوعٌ منها ويدخل الباقي باللزوم، كهذا الدعاء.ومما أتى فيه الدعاء بجميع المطالب على وجه المطابقة: دعاء أولي الألباب وخواص الخلق حيث قالوا - بعدما تفكروا بما في ملكوت الله -: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾[آل عمران: 191 - 194] فتوسلوا بربوبية الله، وكرروا هذا التوسل، وإقرارهم بحكمة الله وصدق وعده ووعيده، وإيمانِهم برسل الله حين دعوهم إلى الإيمان، ومِنّة الله عليهم بالمبادرة بذلك أن يَقيْهم عذابَ النار، وأن يغفر ذنوبهم الكبار، ويُكفّر عنهم سيئاتهم الصغار؛ فيدفع عنهم أعظم العقوبات - وهو عذاب النار - ويزيل عنهم أسبابَ الشرور كلَّها، وهي الذنوب والسيئات، وأن يرزقهم اللهُ ويوفقهم لأعمال البِر كلِّها؛ فيصيروا بذلك من عباد الله الأبرار، وأن يثبتهم عليها حتى يموتوا عليها؛ فيدخلوا في معية الأبرار، وأن يؤتيَهم ما وعدهم على ألْسِنة رسله وذلك شامل لعطايا الدنيا وخيراتها وعطايا الآخرة وكراماتها، وأن يكرمهم في يوم القيامة ولا يخزهم، وحقيقٌ بقوم دعوا بهذه الأدعية الجليلة - بحيث ما بقي خير إلا سألوه ولا شر إلا استدفعوه - أن يسميهم الله أولي الألباب؛ فهذا من لبهم وعقلهم وتمام فطنتهم، نسأله تعالى أن يوفقنا لما وفقهم له، إنه جوادٌ كريم.وِمن ذلك: دعاء أتباع الأنبياء في مواطن الشدائد وأنواع المحن: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[آل عمران: 147، 148] فدل هذا على الدعاء من الدعاء الذي استجابه الله، وأن أهله محسنون فيه، وذلك أنهم توسلوا إلى الله بربوبيته، فافتقروا إليه وطلبوا أن يرُبَّهم بما يُصلِح أحوالهم، وأن يغفر لهم الذنوب - وهي المعاصي المستقلة - وإسرافنا في أمرنا - وهي تعدي ما حد للعبد ونهي عن مجاوزته - فكما أن التقصير يلام عليه الإنسان فكذلك المجاوزة للحد، وأن يثبت أقدامهم فيرزقهم الصبرَ والثباتَ، والقوةَ التي هي مادة النصر، وأن يُمِدهم بمَدَدَه الإلهي وهو نصره على القوم الكافرين، فسألوا ربَّهم زوالَ المانع من النصر - وهي الذنوب والإسراف - وحصولَ سببِ النصر وهو نوعان: سبب داخلي، وهو ثباتُ الأقدام والصبر عند الإقدام، وسبب خارجي: وهو نصره، ويشبه أن يكون قولهم: ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ توسلاً إلى الله، وأننا يا ربنا آمنا بك واتبعنا رسلك، وحاربنا أعداءك الذين كفروا بك وبرسلك، فمعاداتُنا لهم وقتالُنا إياهم لأجلك وفي سبيلك؛ فانصرنا عليهم لكوننا من حزبك وجندك، وهم جنود عدوك الشيطان الرجيم.ومِن ذلك: دعاءُ عبادِ الرحمن الذين وصفهم الله بكل خُلقٍ جميل، وأعد لهم المنازل العالية؛ فدعوا بدعوتين: دعوةٍ استُجيبت لجميعِهم - كاملَ الدرجة ومَن دونه - ودعوةٍ استُجيبت لخواصهم وأئمتهم وقدوتهم، قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ - إلى أن قال عنهم -: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾[الفرقان: الآيات 63 - 65] فتوسلوا بربوبية الله لهم - وإيمانهم وخوفهم من عذابه - أن يقيهم عذاب النار، وإذا وقاهم الله عذاب النار كان من لازم ذلك مغفرة ذنوبهم، وتكفير سيئاتهم، ودخولهم الجنة، وقال تعالى عنهم: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾[الفرقان: 74] فتوسلوا بربوبية الله أن يهب لهم من أزواجهم وقرنائهم وذرياتهم ما تَقَرُّ أعيُنهم به، وهو أن يكونوا مطيعين لله، عاملين بمرضاته، وذلك دليل على أن طاعةَ الله قرةُ أعينهم ومحبتَه نعيمُ قلوبهم، فقويت هذه الحالة إلى أن سألوا اللهَ تعالى أن يجعل قرناءهم بهذه الحالة الكاملة، وذلك مِن فضل الله عليهم؛ فإن الله إذا أصلح قرناءَهم عاد مِن هذا الخير عليهم شيءٌ كثير، ولهذا جعلوا هذا من مواهب ربهم فقالوا: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا...﴾إلخ، ولما كان غاية كمال الإنسان أن يكون مطيعاً لله، وأن يكون قريناً للمطيعين؛ سألوا ربهم أعلى المراتب وأجلَّها، وهي الإمامة في الدين، وأن يكونوا قدوةً للمتقين، وذلك أن يجعلهم علماءَ ربانيين، راسخين في العلم مجتهدينَ في تعلُّمه وتعليمه والدعوةِ إليه، وأن يكون علمُهم صحيحاً؛ بحيث أن من اقتدى بهم فهو من المتقين، وأن يرزقهم من الأعمال الظاهرة والباطنة ما يصيرون به أئمةً للمتقين، وجِماع ذلك: الصبرُ على محبوبات الله، وثباتُ النفس على ذلك، والإيقانُ بآيات الله، وتمامُ العلم بها، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[السجدة: 24] فالحاصل أنهم سألوا ربهم أن يكونوا كاملين مكملين لغيرهم، هادين مهتدين، وهذه أعلى الحالات، فلذلك أعد الله لهم أعلى غرف الجنان: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾[الفرقان: 75، 76].ومن ذلك: دعاء آدم عليه السلام حين تاب إلى الله وتلقى منه هذه الكلمات هو وزوجه: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[الأعراف: 23] فتوسلا بربوبية الله واعترافهم بالظلم، وإقرارهم بالذنب أن يغفر لهما؛ فيزيل عنهما المكاره كلها، وأن يرحمهما فيعطيهما أنواع المطالب، وأنه لا وسيلة لهما ولا ملجأ منه إلا إليه، وأنه لئن لم يرحمهما ويغفر لهما خسِرا الدنيا والآخرة؛ فقبل الله دعاءهما وغفر لهما ورحمهما.ومثل قول نوح لمَّا لامه اللهُ بسؤال نجاة ابنه الكافر، الذي ليس من أهله، وأن هذا عمل غير صالح، فقال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[هود: 47] فتوسل بربوبية الله واستعاذ به أن يسأله سؤالا ليس له به علم، وإنما حمله عليه مجرد محبة النفس لا إرادة رضى الله، واعترف بأن هذا الذي جرى منه يوجب التضرع والاستغفار، وأنه إن لم يغفر له ربُه ويرحمه كان من الخاسرين، فالناس قسمان: رابحون: وهم الذين تغمدهم الله بمغفرته ورحمته، وخاسرون: وهم الذين فاتتهم المغفرة والرحمة، ولا يحصل ذلك إلا بالله.ومن ذلك: دعاء إبراهيم خليل الرحمن، وابنه إسماعيل، وهما يرفعان قواعد البيت: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة: 127، 128] فتضرعا إلى ربهم في قبول الله عملهما، وأن يكون كاملاً من كل وجه، وتحصل منه الثمرات النافعة، وتوسلا إليه بأنه السميع لأقوالهما، العليم بجميع أحوالهما، ولما دعوا بهذا الدعاء الخاص في قبول عملهما سألا اللهَ أجلَّ الأمور وأعلاها، وهو أن يمن الله عليهما وعلى من شاء من ذريتهما بالإسلام لله ظاهراً وباطناً والعمل بما يحبه ويرضاه، وأن يعلمهما العمل الذي شرعا فيه، ويكمّل لهما مناسكهما - علماً ومعرفةً وعملاً - وأن يتوب عليهما لتتم أمورهما من كل وجه؛ فاستجاب الله هذا الدعاء كله، وبارك فيه وحقق رجاءهما، والله ذو الفضل العظيم. وكذلك: دعاء يوسف عليه السلام: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾[يوسف: 101] فتوسل إلى الله بربوبيته وبنعمة الله عليه بنعمة الدنيا وهي: الملك وتوابعه، ونعمة الدين وهي: العلم الكامل، وبولاية الله وانقطاعه عن غيره، وتولي الله له في الدنيا والآخرة: أن يثبته على الإسلام الظاهر والباطن حتى يلقاه عليه، فيدخله في خُلص عباده الصالحين.ومن ذلك: دعاء سليمان عليه السلام: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾[النمل: 19] فتوسل إلى الله بربوبيته، وبنعمته عليه وعلى والديه؛ أن يوزعه أي يلهمه ويوفقه لشكرها بالاعتراف بها، ومحبته لله عليها والثناء عليه، والإكثار من ذكره، وأن يوفقه عملاً صالحاً يرضاه، ويدخل في هذا جميع الأعمال الصالحة ظاهرها وباطنها، وأن يدخله برحمته في جملة عباده الصالحين، وهذا الدعاء شاملٌ لخير الدنيا والآخرة. ومثل هذا: دعاء الذي بلّغه اللهُ أشُدّه وبلغه أربعين سنة، ومَنّ عليه بالإنابة إليه فقال: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأحقاف: 15] فتوسل بربوبية ربه له، وبنعمته عليه وعلى والديه، وبالتزام ترك ما يكرهه ربُّه بالتوبة وفعل ما يحبه بالإسلام أن يمُنَّ عليه بالشكر المتضمن لاعتراف القلب وخضوعه ومحبته للمنعم، والثناء على الله مطلقاً ومقيداً، وأن يوفِّقه لما يحبه الله ويرضاه، ويصلح له في ذريته، فهذا دعاء محتوٍ على صلاح العبد، وإصلاحِ اللهُ له أمورَه كلَّها، وإصلاحِ ذريته في حياته وبعد مماته، وهو دعاء حقيقٌ بالعبد - خصوصاً إذا بلغ الأربعين - أن يداوم عليه بذُل وافتقار؛ لعله أن يدخل في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾[الأحقاف: 16].قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ مستريحاً لذلك الظل بعد التعب، فقال في تلك الحالة مسترزقاً: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾[القصص: 24] أي إني مفتقر للخير الذي تسوقه إلي، وتيسره لي، وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال قد يكون أبلغ من السؤال بلسان المقال، فلم يزل في هذه الحالة راجياً ربه، متملقاً مفتقراً إليه، معلقاً رجاءَه بالله وحده؛ حتى فرّج كربَه، وجلاّ همّه، والله هو الرزاق.ومن ذلك: الأدعية التي أمر الله بها رسوله وعباده المؤمنين فقال: ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾[المؤمنون: 118] فهذا توسل إلى الله بربوبيته ورحمته الواسعة في حصول الخير، ودفع الشر كله، وهي المغفرة التي تندفع بها المكروهات، والرحمة التي تحصل بها جميع المحبوبات. وكذلك قوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾[الإسراء: 80] فهذا توسَّلَ إلى الله بربوبيته أن تكون مداخل العبد ومخارجه كلها صدقاً، وذلك أن تكون صالحة خالصة لوجه الله، مقرونةً بالاستعانة بالله والتوكل عليه، وذلك يستلزم أن تكون حركاتُ العبد كلُّها - ظاهرها وباطنها - طاعة لله وعملاً بما يحبه ويرضاه، وهذا هو الكمال من جهة العمل، وأما الكمال من جهة العلم: فإنه يجعل اللهُ له سلطاناً نصيراً، أي حجة ظاهرة ناصرة، وقوة يحصل بها نصر الحق وقمع الباطل، فيحصل باستجابة هذا الدعاء: العلمُ النافع والعملُ الصالح، والتمكين في الأرض. وقال تعالى لرسوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[طه: 114] فالعلم أجلّ الأشياء، وبه تعرف جميع الأشياء، فسؤاله وسؤال الزيادة منه من أفضل ما سأل السائلون.ومن أجمع الأدعية وأحسنها توسلاً: دعاء موسى عليه السلام حين تضرع إلى ربه فقال: ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾[الأعراف: 155، 156] فتوسل إلى وليّه بولايته لعبده، وحسن تدبيره وتربيته ولطفه، على حصول المغفرة والرحمة، وكذلك توسل بكمال مغفرة الله وسعة جوده على هذا، ورتب على هذا حصولَ حسنة الدنيا والآخرة؛ فإنه إذا حصلت المغفرة زالت الشرورُ كلُّها، والعذابُ كله، وإذا حصلت الرحمة حل الخير وحسناتُ الدنيا والآخرة، فيكون قوله: ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ﴾ نظير قوله: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾[البقرة: 201] مع زيادة التوسل بولاية الله، وكمال غفرانه، ومع طلب مغفرته ورحمته اللذين بهما تنال حسنة الدنيا والآخرة، ثم ختم دعاءه بالتوسل إلى ربه بالإقبال إليه، والإنابة إليه والتذلل، لعظمته فقال: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أي رجعنا إليك في مهماتنا وأمورنا، لا نرجع إلى غيرك لعلمنا أنه لا يكشف السوء ولا يجيب المضطر إلا أنت، ورجعنا إليك في عباداتنا الظاهرة والباطنة.ومن ذلك: دعاء أصحاب الكهف إذ فروا إلى الله بدينهم فقالوا ملتجئين إليه: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾[الكهف: 10] فتضرعوا إليه في أن يؤتيهم من لدنه رحمة بحيث إذا حلت عليهم سلّم لهم دينهم، وحفظهم من الفتن، وأنالهم بها الخير، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً أي: ييسرهم لليسرى، ويسهل لهم الأمور، ويرشدهم إلى أرفق الأحوال؛ فاستجاب لهم هذا الدعاء، ونشر عليهم رحمته، وحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعل فيهم بركة على أنفسهم وعلى غيرهم.ومن ذلك: دعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة المقربين، حين دعوا للمؤمنين: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[غافر: 7 - 9] وهذا دعاء جامع، وتوسُّلٌ نافع، فتوسلوا بربوبية الله تعالى، وسعة علمه ورحمته المتضمن علمَه بحال المؤمنين، وما خلقهم عليه من الضعف، ورحمتَه إياهم - لكونه جعل الإيمان أعظم وسيلة تنال بها رحمته - أن يغفر للمؤمنين الملتزمين للإيمان، وهم الذين تابوا مما يكرهه الله، واتبعوا سبيله بالتزام ما يحبه ويرضاه، فيغفر ذنوبهم، ويقيهم أشد العذاب وهو عذاب الجحيم، وأن يُنيلهم أعظمَ الثواب - وهو دخول جنات عدن التي وعدهم على ألسنة رسله - وتمام ذلك: أن يُقِرّ أعينَهم باجتماعهم بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم الصالحين، ثم توسلوا بكمال عزة الله وكمال حكمته؛ لأن المقام يناسب هذا، فمن كمال عزته واقتداره: أن يحفظهم ويحول بينهم وبين السيئات، ويصرف عنهم السيئات، وينيلهم أنواع المثوبات، ومن كمال حكمته أن الموصوفين بتلك الصفات هم أهل لأن يغفر لهم ويرحمهم، ويدفع عنهم السوء وينيلهم الأجر، ولما دعوا أن يغفر لهم السيئات التي فعلوها؛ دعوا اللهَ أن يقيهم سيئات أنفسهم الأمارة بالسوء، بأن يحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم، ويُكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلهم من الراشدين، وأن مِن لازم وقاية السيئات حصول رحمة الله، وهذا دعاءٌ عظيم صادر من أعظم الخلق معرفة بالله، ولذلك وصف الله من حصلت له هذه الأمور بالفوز بكل مطلوب، والنجاة من كل مرهوب فقال: ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.وكذلك: دعاء الذين اتبعوا المهاجرين والأنصار بإحسان، حيث قال تعالى عنهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[الحشر: 10] فتضرعوا إلى ربهم، وتوسلوا إليه بربوبيته ونعمته عليهم بالإيمان، وبسعة رحمته ورأفته أن يغفر لهم ولجميع إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، وأن يُصلح اللهُ قلوبهم بالاجتماع على الإيمان، ومحبة بعضهم بعضاً، وأن لا يجعل في قلوبهم أدنى غل لكل من اتصف بالإيمان. وهذا الدعاء يتضمن حصول الخير لهم ولإخوانهم، ودفع الشر عنهم وعن إخوانهم، وقد أخبر الله أن أنبياءه تضرعوا إليه في مطالب خاصة، ومطالب عامة، وتوسلوا بكمال أسمائه وصفاته، وبما مَنَّ اللهُ عليهم به من الإيمان والنعم الدينية والدنيوية، وبما كانوا عليه من الفقر والضعف، وشدة الضرورة إلى ربهم في جميع أمورهم، فهذه الأدعية التي أمر اللهُ بها، وحث عليها ومدح أهلها، هي الأدعية النافعة التي لا يليق بالعبد أن يختار عليها غيرَها من الأدعية المصطلَحَة، والألفاظ المخترعة، التي لا نسبة لها إلى هذه الألفاظ القرآنية! إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم من الأعمال والأقوال، الباطنة والظاهرة، ومن ذلك الأدعية، وكم في السنة من الأدعية النبوية مما يوافق الأدعية القرآنية! فنسأله تعالى أن يهدينا لأحسن الأمور، ويصرف عنا جميع الشرور، إنه جواد كريم رءوف رحيم.ـ فصل ـ54. إذا وُفِّق الحاكم أن يحكم بالحق والعلم، لا بالجهل والباطل، وبالعدل وحسن القصد، لا بالظلم واتباع الهوى؛ فقد سلك سبيل الأنبياء، قال تعالى لداود: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[ص: 26]. 55. قوله تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[الزمر: 61]، فوعد الله المتقين بنفي العذاب عنهم ظاهراً وباطناً، كما أثبت لهم في آخر السورة النعيمَ ظاهراً وباطناً مِن قوله: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا...﴾[الزمر: 73] إلى آخرها.56. الإخلاص لله تعالى أعظم الأسباب لعون الله للعبد على جميع أموره، ولثبات قلبه، وعدم انزعاجه عند المقلقات والشدائد؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[محمد: 7] أي: إذا كان قصدكم - في جهاد الأعداء - نصرَ الله، وأن تكون كلمتُه هي العليا؛ نَصرَكم اللهُ على أعدائكم، وثبّت أقدامَكم في مواطن اللقاء، فالنصر سببٌ خارجي، وتثبيت الأقدام سببٌ داخلي، وبهذين الأمرين يتم الأمر.57. كثيراً ما يدور على ألسنة الناس: "إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابَه"، دليلُ ذلك في القرآن قوله: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا...﴾الآيات[الأنفال: 43، 44].58. قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾[الحشر: 2] ما أضعف اليقين في قلوب كثيرٍ من المؤمنين! تجدهم الآن قد استولى عليهم اليأس، وظنوا أن أمر الإفرنج الغربيين الآن سيظهر وسيدوم، وأن أهل الإيمان لا قيام لهم، وأنهم لا بد مغلوبون، وأعداؤهم لا بد غالبون! وسبب هذا: نظرهم إلى الأسباب المدرَكَة بالحس، وقَصَروا النظر عليها، ولم يقع في قلوبهم أن وراء الأسباب المشاهدة أسباباً غيبية أقوى منها! وأموراً إلهية لا تعارَض ولا تمانَع، وآفاتٍ تطرأ، وقواتٍ تزول، وضعفاً يزول، وأموراً لا تدخل تحت الحساب! فهؤلاء أهل الكتاب، ذوو القوة والشوكة، قد غرتهم أنفسهم، وظنوا أن حصونهم مانعتهم، وأنهم يمتنعون فيها، ولم يخطر في قلوب المؤمنين خروجُهم منها! حتى جاءهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، واستولى عليهم الضعف والخراب من حيث لا يشعرون، وللكافرين أمثالها، فالمؤمن حقاً: هو الذي ينظر إلى قدر الله وقضائه، وما له من العزة والقدرة، ويعلم أن هذا لا تعارضه الأسبابُ وإن عظمت، وأن نمو الأسباب ونتاجها متحقق إذا لم يعارضه القَدَر فإذا جاء القدر اضمحل عنده كل شيء، ولكن الأسباب محلُ حكمة الله وأمره؛ فأمر المؤمنين بالاستعداد لعدوهم ظاهراً وباطناً، فإذا فعلوا المأمور ساعدهم المقدور.59. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾[الحشر: 9] لا يمكن أن تكون القَبْليَّة في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ راجعة إلى الدار دون الإيمان؛ لأن اللفظ لا يساعد على هذا، لأن الوصف بالجار والمجرور، ولا يصلح إلا أن يعود على المعطوف والمعطوف عليه، فإلى أين يعود، وقد عُلم وتقرر أن المهاجرين قد تقدم إيمانُ كثيرٍ منهم على الأنصار؟ فالجواب: أن هذا عائد إلى الدار والإيمان على اللفظ المصرح به، وهو التبوء والاستقرار، ومعنى هذا: أن أهل الإيمان لهم حالُ تَبَوُءٍ وتمكينٍ يتمكنون فيه من إقامة دينهم، وقيامه في أنفسهم وفي غيرهم، ولهم حالُ وجودٍ للإيمان منهم دون تمكين، فلم يحصل التمكين إلا بعدما هاجروا إلى المدينة، وصار لهم دارُ إسلام، وأما قبل ذلك فهم وإن كانوا مؤمنين؛ لكنهم في حالة ذلة وقلة، محكومون مقهورون، خائفون على أنفسهم، وبهذا يتبين المعنى.60. التجارات نوعان: أحدهما: تجارة ربحها الجنات، وأنواع الكرامات، وصنوف اللذات؛ وهي تجارة الإيمان والجهاد في سبيل الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...﴾إلى آخر الآيات[الصف: 10، 11] إلى آخر الآيات، فهؤلاء هم الرابحون حقاً، وهم الذين تحققوا بالإيمان ظاهراً وباطناً، فاجتهدوا في علوم الإيمان ومعارف الإيمان، في أعماله الباطنة - كمحبة الله ورسوله وخشية الله وخوفه ورجائه - وفي أعماله الظاهرة - كالأعمال البدنية والمالية والمركبة منهما - وجاهدوا أنفسهم على هذا، وجاهدوا أعداء الله بالحجة والبرهان، والسيف والسنان. وثانيهما: تجارة ربحها الخسران وأصناف الحسرات؛ وهي كل تجارة مُشغِلة عن طاعة الله، ومفوتة لتلك التجارة الرابحة، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾[الجمعة:11] وكم في القرآن من مدح تلك التجارة والحث عليها، والثناء على أهلها! ومِن ذم التجارة الأخرى والزجر عنها والذم لأهلها! وأهل التجارة الرابحة إذا اشتغلوا بتجارة المعاش لم تكن قاطعةً لهم عن تجارتهم، بل ربما كانت عوناً لهم عليها إذا أحسنوا فيها النية، وسلموا من المكاسب الردية، وأخذوا منها مقدار الحاجة، قال تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾[النور: 37] فلم يقل: إنهم لا يتجرون ولا يبيعون، بل أخبر أنهم لو فعلوا ذلك لم يشغلهم عن المقصود - وهو ذكر الله، وأمهات العبادات - وعطف البيعَ على التجارة - وإن كان البيع داخلاً فيها - لأنه أعظم الأسباب التي تحصل بها التجارة وأنواعُ المكاسب وأبرُكها، والله أعلم.61. سورة مريم - عليها السلام -: قد اشتملت على تفاصيل عظيمة مِن ذكر رحمة الله بأنبيائه وأصفيائه وأحبابه، وما منَّ عليهم به في الدنيا من نِعَم الدين والدنيا، والنعم الظاهرة والباطنة، وما يكرمهم به من الذكر الجميل والثناء الحسن، ووصْفِهم بأحسن أوصافهم، ونَعْتِهم بأشرف نعوتهم، وما يكرمهم به في الآخرة من الثواب والفضل العظيم، وذِكر رحمته أيضاً بأعدائه؛ حيث عاملهم بالحلم والصفح، وتصريف الآيات لعلهم يرجعون مع عظم ما أتوا به من الشرور وعظائم الأمور؛ ولذلك أكثر اللهُ فيها مِن ذكر اسمه الرحمن، الذي هذه آثاره، ومِن ذكر الرحمة؛ فنسأله تعالى أن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين.62. قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ - إلى قوله - ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾[الحج: 25، 26] فيه الذم للذين كفروا وصدوا عن المسجد الحرام عبادَه المؤمنين، من وجهين: من جهة أنهم اختصوا به ومنعوا غيرَهم، مع أن الناس فيه سواء! ومن جهة أن المؤمنين أحق به منهم، وهذه مرتبة ثانية، فأباحوه للأبعدين ومنعوه الأقربين! فإن الله أمر إبراهيمَ عليه السلام أن يطهره للطائفين والقائمين والرُّكَّع السجود، فهؤلاء أحق الخلق به؛ لأنهم حزبُ الله وأولياؤه، وما كان المشركون أولياءه: ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾[الأنفال: 34].63. لولا فضلُ الله ورحمتُه لما شرع لعباده الأحكام، ولولا فضلُه ورحمتُه لما فصّلها وبيّنها، ولولا فضلُه ورحمتُه وأن الله توابٌ حكيم لما وضح ما يحتاج إليه العبادُ ويسّره غاية التيسير، ولولا فضلُه ورحمتُه لما شرع أسباب التوبة والمغفرة، ولما تاب على التائبين، ولولا فضلُه ورحمتُه لما زكى منهم من أحد أبداً، ولكن الله يزكي من يشاء، والله سميع عليم، كما فصّل ذلك في صدر سورة النور.64. قوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ - إلى قوله - ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[النور: 32، 33] اشتملت هذه الآيات على الأمر بالسعي بالأسباب المباحة التي يُنال بها الرزق كالنكاح ونحوه، وعلى أن من لم يحصل له سَعة فليلزم تقوى الله تعالى والكفَّ عن محارمه، وينتظر فضلَ الله ورزقَه وغناه، وعلى تحريم السعي بالأسباب المحرمة في قوله: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ والله أعلم.65. "الأعرافُ": موضعٌ بين الجنة والنار، يُشرف على كلٍ منهما، وليس هو موضع استقرار، إنما هو موضع أناسٍ تساوت حسناتُهم وسيئاتُهم، يمكثون فيه مدةً كما يشاء الله ثم يدخلون الجنة، وفي ذلك حِكَمٌ نبَّه اللهُ تعالى عليها: منها: أن هذا منزلٌ به يُستدل على كمالِ عدلِ اللهِ وحكمتِه وحمْدِه؛ حيث جعل اللهُ تعالى أسبابَ الثواب والعقاب تتجاذَب وتتعارَض، ويقاوِم بعضُها بعضاً؛ فحسناتهم منعتهم من النار، وسيئاتهم منعتهم الجنة في ذلك الوقت فصاروا وسطاً بين الدارين، وفي برزخٍ بين المحلين، لتظهر الحكمة أولاً ثم يأتيها الفضلُ من ذي الفضل العظيم، الذي أحاط بالخلق من جميع الوجوه فيغمرها، ويكون الحكم له، ففي هذا من تنويع حمده، وتصريفه لعباده؛ ما به يعرف العبادُ كمالَه وكمالَ أسمائِه وصفاتِه، وحكمتَه وعدلَه وفضلَه. ومنها: أن حالهم من جملة الأدلة على سعة رحمة الله، وأن رحمتَه سبقت غضبَه وغلبَتْه؛ بحيث إذا تعارض موجبُ هذا وموجبُ هذا صار الحكم قطعاً لموجبِ الرحمة على موجبِ الغضب. ومما يدل على هذا: أنه إذا كان في العبد من موجبِ الرحمة مثقالُ ذرةٍ من إيمان فإنه لا بد أن يصير الحكمُ له، ولو عمل موجبُ الغضب عملَه فالعاقبةُ لموجِبِ الرحمة. ومنها: أن الله إذا أراد أمراً هيّأ أسبابَه، فلما قضى تعالى أنهم سيدخلون الجنة؛ جعل الطمع والرجاء في قلوبهم، والدعاء أن يجيرهم من النار - ولا يجعلهم مع القوم الظالمين - على ألسنتهم، والدعاءُ مع الرجاءِ والطمعِ لا تتخلف عنه الإجابة. ومنها: أن "أهل الأعراف" جعلهم الله سبباً يُعرف به ما يصير إليه أهلُ الدارين، وما كان عليه أهلُ الشقاء مِن النكالِ والوبال، وما عليه أهل الجنة من السرور والغبطة، ولهذا ذكر الله توبيخهم لرجالٍ يعرفونهم بسيماهم من أهل النار، إلى غير ذلك من الحِكَم الإلهية فيما يُجريه من الأحكام على البرِيّة.66. قول شعيب عليه السلام: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾[الأعراف: 89] بعد قوله: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا﴾[الأعراف: 89] مِن أعظم الأدلة على كمال معرفتِه بربه، فإنه أولاً: لما بيّن امتناع عودهم في ملة الكفار - بحسب ما كان عليه من مِنّة الله عليه بكراهته الشديدة لملّتهم، واغتباطه بإنجاء الله له منها، وأنهم لو عادوا في ملتهم بعد هذا كان من أعظم الافتراء على الله، الذي يمتنع غاية الامتناع ممن هذا وصفه، وكان هذا الامتناع أثراً عمّا يسّر الله له من الأسباب - استدرك الأمرَ بعد ذلك، وعلم أن هذا الامتناع بحسب ما وصلت إليه علوم البشر، وأن عِلم الله تعالى محيط بعلومهم، فقد يعلمون شيئاً ويخبرون ما يترتب على علمهم مما يكون بحسب حكمة الله تعالى، ومع ذلك فالله غالب على أمره، وقد يتخلف العلمُ الذي علموه، وأثرُه الذي حكموا به؛ فقال: ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾ ثم قرر ذلك بقوله: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ ثم لجأ إلى أعظم الأسباب الصادرة مِن العبد، التي بها ينال ما عند الله من خير الدنيا والآخرة ودفع شرورهما، وهو: التوكل على ربه، فقال: ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ ثم بين ثقته التامة بوعد الله له بالنجاة، هو ومن تبعه، وهلاك من خالفه فقال: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾[الأعراف: 89].67. قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾[المؤمنون:70،71] دلت على أن مخالفتهم للرسول لأجل ما جاء به من الحق، وأن عداوتهم الحقيقية للحق لذاته، وأنه السبب في ذلك؛ لأن الحق خالفَ أهواءَهم، وأن أهواءهم فاسدة يمتنع أن يَرِد الحقُّ بما يوافقها؛ لأن الحق هو صلاح السماوات والأرض ومن فيهن، ولو وافق الحقُّ أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، فدل هذا على أن الحق جاء بما تشهد العقولُ الصحيحة، والفِطرُ المستقيمة بصحته واستقامته، واعتداله وكماله, وأن مَن خالف الحقَّ فلِفسادٍ في عقله، وانحرافٍ في فطرته، وأنه اختار الضار على النافع؛ فلهذا قال: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾.68. قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾[مريم: 12] ذكر كثيرٌ من المفسرين أن تقديره: "فوهبنا له يحيى، وقلنا يا يحيى إلخ" ولا يُحتاج إلى هذا! فإنه صرّح أولاً بهِبَته يحيى في قوله: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾[مريم: 7] فلو ذُكر بعد ذلك لكان تكريراً لا يُحتاج إليه.69. قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾[مريم: 59] عذاباً مضاعفاً شديداً - اتبعوا الشهوات بمعنى: أرادوها وصارت هي همهم، وانقادوا لها، وصاروا مطيعين لها؛ فلذلك قال: ﴿اتَّبَعُوا﴾ ولم يقل: "تناولوا, وأكلوا" ونحوه لهذا المعنى؛ لأن هذا الذم إنما يتناول متبعي الشهوات, فمهما اشتهت نفوسُهم فعلوه على أنه المقصود المتبوع! ومن المعلوم أن النفس من طبعها أنها أمارة بالسوء, فإذا كان هذا طبعُها عُلم أن ذمهم على اتباع الشهوات يدخل فيه المعاصي كلُّها, فلذلك رتب على هذا العقابَ البليغَ في قوله: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ وهذا بخلاف المؤمن المطيع لله؛ فإنه - وإن تناول الشهوات - فإنه لا يتبعها ولا تصير أكبرَ همه، ولا مبلغ علمه، بل يتناولها على وجه تكون هي تابعة لغيرها لا متبوعة، وخواص المؤمنين يتناولون الشهوات بقصد التوسل بها إلى القربات فتنقلب طاعات! ونظير هذا: أن الذي تناوله الذمُّ هو اتباعُ الهوى، وهو كونه متبوعاً بأن يتخذ العبدُ إلهه هواه، لا مجرد أن يكون للعبد هوى، فكلُّ أَحدٍ له هوى، ولكن المؤمن كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾[النازعات:40، 41].70. قوله تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾[مريم: 65] اشتملت على أصول عظيمة: على توحيد الربوبية، وأنه تعالى رب كل شيء وخالقه ورازقه ومدبره، وعلى توحيد الإلهية والعبادة، وأنه تعالى الإله المعبود، وعلى أن ربوبيته موجبة لعبادته وتوحيده، ولهذا أتى فيه بالفاء الدالة على السبب فقال: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ أي: فكما أنه ربُّ كل شيء؛ فليكن هو المعبود حقاً فاعبده، ومنه الاصطبار لعبادته تعالى، وهو: جهاد النفس وتمرينها، وحملها على عبادة الله تعالى، فيدخل في هذا أعلى أنواع الصبر، وهو: الصبرُ على الواجبات والمستحبات، والصبرُ عن المحرمات والمكروهات، بل يدخل في ذلك الصبر على البليات؛ فإن الصبر عليها - وعدم تسخطها، والرضى عن الله بها - من أعظم العبادات الداخلة في قوله: ﴿وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾. واشتملت على أن الله تعالى كامل الأسماء والصفات، عظيم النعوت جليل القدر، وليس له في ذلك شبيه ولا نظير ولا سَمِي، بل قد تفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات، وهذا من أكبر الأدلة على أنه الذي لا تنبغي العبادة الظاهرة والباطنة - القلبية والبدنية والمالية - إلا لوجهه الكريم، خالصة مخلصة، كما خلص له الكمال والعظمة، والكبرياء والمجد والجلال. ومنها: بطلان الشرك عقلاً ونقلاً، فكيف يليق بالعاقل أن يجعل المخلوقَ الناقصَ - الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً - نداً لمن لا كفء له ولا سمي، ولا مشابه بوجه من الوجوه؟! فهل هذا إلا من السفه والضلال، والجهل المفرِط، والضرر من كل الوجوه؟! ودلت على أن الشرك قد تقرر في العقل قبحه، وأن التوحيد قد تقرر في العقل حسنه؛ فكما لا سمي لله، فلا أحسن مِن عبادته وإخلاص العمل له، ولا أنفع للعبد من ذلك، ولا أصلح ولا أزكى. ومن المتقرر شرعاً: أن الإحسان في عبادة الله تعالى - الذي هو سبب كل خيرٍ عاجلٍ وآجل، بل هو سبب لأعلى المراتب وأكمل الثواب - هو كما قال النبي ﷺ: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»([23]) فكلما حقق العبدُ هذا الأمرَ كان له نصيبٌ وافرٌ من العبادة، بل هو أهم الأمور؛ ولهذا أمر النبيُ ﷺ معاذَ بن جبل أن يسأل الله تعالى أن يعينه على ذِكره وشُكره وحُسن عبادته، وهذا أمر يَقِل من الخلق من يحقق ويتصف به على وجه الكمال؛ لمشقة ذلك على النفوس، فإذا امتثل العبدُ لأمر ربه بالاصطبار، ولعبادته وحبْسِ النفسِ وتوطينِها على إحسان العبادة - خصوصاً أفضل العبادات وأعظمها وهي الصلاة؛ كما أمر الله بالاصطبار عليها خصوصاً فقال: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾[طه: 132] - استنار قلبه بالإيمان، وأشرق نور العرفان في ضميره، وذاق طعم الإيمان، وباشر حلاوته؛ فانجذب إلى عبادة الله وإخلاص العمل له، وعلم أن هذا هو الفلاح الدائم والربح المتضاعف، الذي لا خسارة فيه؛ فصبَّر نفسه قليلاً؛ ليستريح بأعظم اللذات طويلاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.ـ فصل ـ 71. قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾[المدثر: 38، 39] أي كل نفس مرتهنة محبوسة وموثقة بكسبها السيئ، وحبسها في العذاب السيئ؛ وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، فكما حبس المجرمون ما لديهم لله ولخلقه من الحقوق اللازمة، فلم يؤدوا الصلاة التي هي أكبر العبادات المتضمنة للإخلاص للمعبود، ولا أطعموا المساكين من الحق الذي أوجبه الله لهم في أموالهم، ولا حبسوا نفوسهم على ما شرع، وقيدوها بقيود الدين، بل أطلقوها فيما شاءوا من المرادات الفاسدة، فخاضوا بالباطل مع الخائضين، ولا صدقوا ربهم ورسله مع تواتر الآيات، بل كانوا يكذبون بيوم الدين؛ فلذلك حبسوا في هذا المحبس الفظيع، وأُدخلوا في سقر، ولما كان أصحاب اليمين قد حبَسوا نفوسهم في الدنيا على شرع الله تصديقاً وعملاً، وأطلقوا ألسنتهم وجوارحهم في طاعة الله ومرضاته؛ أطلق الله إسارهم وفك رهنهم، فلم يكونوا في ذلك اليوم مرتهنين، بل كانوا مُطلَقين فيما اشتهت أنفسهم ولذت عيونهم. فعملُ العبد في الدنيا إما أن يكون سبباً لارتهانه أو سبباً لخلاصه، بل الأصل أن الإنسان في حبس، وأن عمله سيُرتهن؛ لأنه ظلوم وجهول طبعاً، إلا من خلصه الله من هذا، ومنّ عليه بالصبر وعمل الصالحات، فلهذا جعل الارتهان عامًّا، واستثنى منه أصحاب اليمين؛ فقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾.72. كلما ازداد العبد قرباً من الله - بالإيمان به، والتحقق بحقائقه، ومعرفته بالله، ومحبته والإنابة إليه وإخلاص العمل له - حصل له الخير والسرور، واندفعت عنه أنواع الشرور، وزالت عنه المخاوف، وسهلت عليه صعاب الأمور، وهذا هو المعنى الذي أراد الله بقوله لموسى: ﴿لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾[النمل:10، 11] ويدل على هذا قوله: ﴿لَا يَخَافُ لَدَيَّ﴾ ولم يقل: "لا يخاف مني" أي: لا خوف ينال من مننتُ عليه بأكمل الحالات وأشرف المراتب، وهي: الرسالة، ولكل مؤمن نصيب من هذا بحسب ما قام به من اتباع المرسلين، ويدل أيضاً أن المراد هذا المعنى العام الحسن الجليل: أن السياق والقرينة تدل عليه دلالة بينة؛ فإن الخوف الصادر من موسى إنما وقع لما رأى عصاه تهتز كأنها جان؛ فخاف حينئذٍ من تلك الحية بحسب الطبيعة البشرية، فأعلمه الله تعالى أن هذا محل القرب من الله، لا يليق ولا يكون فيه خوف، وإنما فيه الأمن التام؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: ﴿أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾[القصص: 31]، ويدل على هذا المعنى ما دل عليه الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فإن الاستثناء معيار العموم، والأصل أن يكون من جنس المستثنى منه، فالمعنى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:82] فإن ظلموا أنفسهم ثم رجعوا إلى ربهم وبدلوا سيئاتهم حسنات رجعوا إلى مرتبتهم، وأزال عنهم الغفورُ الرحيمُ موجبَ الظلم والإساءة، والله أعلم.73. فائدة: وهي في الحقيقة تابعة للإيراد السابق في إخبار الله: لا يهدي الظالمين والكافرين ونحوهم، مع أنه وقع منه هداية لمن اتصف بذلك الوصف، وجوابه السابق: وهو أن النفي واقع على من حق عليه أنه مجرم من أهل النار، وأن الهداية الحاصلة لمن لم يكن كذلك، ثم تبين لي في يومي هذا، وتوضح معنى ما زال مشكلاً عليّ، وضّحَه اللهُ وله الحمد، وهو حل هذه الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾[النمل: 82] وأنها تقرير للآية التي قبلها فإن الله تعالى قال لرسوله مسلياً بعدم إيمان المعاندين، وأن هذا لا يضر الحق شيئاً: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾[النمل:80، 81] فلما بين له أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم في هداية الضالين إنما ينتفع به ويسمعه سمعَ قبولٍ وانقيادٍ مَن يؤمن بآياتنا فهم مسلمون، وأما الموتى الذين ليس في قلوبهم أدنى حياة لطلب الحق - فكما أن صوتَك لا تُسمع به الأموات موتاً حسياً - فصوتك أيضاً في الدعوة والإرشاد لا تُسمع به موتى القلوب، ولا الصم المعرضون المدبرون عن الحق، ولا الذين صار العمى لهم وصفاً، والغيُّ لهم نعتاً، فهؤلاء هم الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأولئك هم الغافلون، وهؤلاء هم الذين حق عليهم القول، وإذا حق القول على الأشقياء لم تنفعهم الآيات المسموعة والتذكير، كما لا تنفعهم الآيات التي يصير الإيمان عندها اضطرارياً، وهي الآيات الكبار، التي تكون مقدمة الساعة، فإنها إذا طلعت الشمسُ من مغربها لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، حينئذٍ حق القول على الأشقياء أنهم لا يزالون على شقائهم، فيُخرج لهم دابة من الأرض تكلمهم، وتبيّن المسلم من الكافر، فالقول إذا حق لا يتغير ولا يتبدل، ويحصل اليأس من إيمان الكافرين ولو كانت الآيات أكبر الآيات، فالآية تقرر ما قبلها، وتدل على العلة الجامعة، وهي أن من حق عليه القول لو جاءته كل آية لم يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، والله أعلم.74. قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾[الشعراء: 197] تدل على أن أهل العلم بهم يُعرف الحق من الباطل، والحلالُ من الحرام، فهم الوسائل بين الله وبين عباده، ولهذا استشهد الله بهم على التوحيد وعلى النبوة، وعلى صحة القرآن - كما في هذه الآية - وعلى التوحيد في قوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾[آل عمران: 18]، وعلى القرآن قوله: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾[العنكبوت: 49]، وتدل هذه الآيات على أن العلم الحقيقي هو ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وما فرّق بين الحق والباطل، وما سوى ذلك - وإن كان صحيحاً - فلا يستحق صاحبُه أن يكون من أهل العلم الذين أمر الله بالرجوع إليهم، وإنما هو من أهل الذكر الذين قال الله فيهم: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[النحل: 43]، حقيق بمن منّ اللهُ عليهم بشيءٍ من العلم أن يكونوا أسرع الناس انقياداً للحق، وأبعد الناس عن الباطل، ولهذا شدد الله الذم بمخالفة هذين الأمرين على أهل العلم؛ كقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾[النساء:50]، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾[النساء: 44]، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[آل عمران: 23].75. فائدة عظيمة - بل هي أعظم الفوائد على الإطلاق -: الإيمان هو أعلى الخصال وأشرف المراتب وأكمل المناقب، بل لا يمكن أن تكون فضيلةٌ ولا ثوابٌ إلا بالإيمان وحقوقه؛ ولذلك أثنى الله به على خيار خلقه والمصطفين من عباده فقال في كلٍ من نوح وإبراهيم وموسى وهرون وإلياس وغيرهم من الأنبياء: إنه من عبادنا المؤمنين، فعلل ما حصل لهم من الخيرات وزوال الشرور بإيمانهم، وقد علق الله الفلاح ودخول الجنان على الإيمان في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾[المؤمنون: 1]، ثم ذكر صفاتهم الناشئة عن إيمانهم، ثم قال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[المؤمنون: 10، 11]، وقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[البقرة: 223]، وقال: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾[يونس: 62، 63]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[الحج: 38] والله يحب المؤمنين، إن الله لمع المؤمنين، وغير ذلك من نصوص الكتاب والسنة الدالة على فضله وفضل أهله، وأن الخير كله فيه، فعلى العبد الذي يريد نجاة نفسه، ويقصد كمالها وفلاحها أن يسعى غاية جهده، ويبذل مقدوره في هذا الوصف، وهو الإيمان علماً ومعرفةً وعملاً وحالاً ووصفاً، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»([24]) فوصفه بأقوال اللسان التي يحبها الله ورسوله، وذكر أعلاها بالإحسان إلى عباد الله، أيَّ إحسانٍ كان - حتى إماطة الأذى عن طريقهم - وبأعمال القلوب التي أصلها الحياء، فإن من اتصف بالحياء من الله فقد انصبغ قلبه بمعرفة الله وحبه، وخوفه ورجائه، والتحبب إليه مهما أمكن، وحقيقة هذا: أن الإيمان اسم جامع للشرائع الظاهرة والباطنة، ولأقوال اللسان وأقوال القلب، وأعمال القلوب وأعمال الجوارح، وأن من قام بهذه الأمور ونصح فيها وأحسن كان أكمل إيماناً، وأن من نقص معها معرفة وعلماً وعملاً وحالاً صالحاً نقص من إيمانه بقدر ذلك، والناس في الإيمان درجات متفاوتة، فأكملهم من وصل في علوم الإيمان إلى علم اليقين وحق اليقين، وفي أعماله: من وفّى مرتبة الإحسان، وعبدَ الله على وجه الحضور والمراقبة، وفي أحوال الإيمان: من كانت آدابه وأخلاقه صبغة لقلبه، وحالاً غير حائلة، بل إن عرض له ما يشوش عليه إيمانَه بادر بالحال لإزالته، ورجع إلى نعته ووصفه صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة! ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»([25]) فإن لم يتغير إيمانُه عند المعارضات - كالشهوات والإرادات السيئة وإتيان الأمر مخالفا لمراد النفس - كان هذا المؤمن حقاً، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾[الحجرات: 15]؛ ولهذا كان من كمال الإيمان أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ولهذا أيضاً كان إخراج محبوب النفس - وهو المال - لله تعالى دليلاً على الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والصدقة برهان»([26])، ولهذا أيضاً كان الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد.ومن علامات الإيمان: ما ذكره الله بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[الأنفال: 2 - 4] فوصف المؤمنين بأنهم الذين إذا ذُكِر الله وجلت قلوبهم، أي: خضعت وخشعت وذلت لعظمته، وانكسرت لكبريائه؛ فتركت معاصيه، وخافت عقابه، واطمأنت بذكره ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28]، وإنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، أي: ازدادوا بها علماً وبصيرة، ورغبة في الخير ورهبة من الشر؛ فنما الإيمان في قلوبهم، وكان إيماناًَ ناشئاً عن أعظم الأدلة والبيانات، كما قالوا: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل عمران: 16]، وقالوا: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾[آل عمران: 193]، وكما قال مؤمنو الجن: ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ﴾[الجن: 13]، فبحسب إيمان العبد يزدادُ إيمانُه عند تلاوة كتاب الله والحكمة، وهذا أعلى ما يكون من الإيمان، فإنه إيمانٌ عن أكبر البراهين، وإيمانٌ على بصيرة، لا كإيمان ضعفاء المؤمنين، الناشئ عن العادات والتقليد، الذي هو عرضة للعوارض والعوائق! وأما هذا الإيمان فهو إيمان لا تزعزعه الشبهات، ولا تعارضه الخيالات، بل يزداد مع صاحبه مدى الأوقات، ووصفهم بتحقيق التوكل عليه؛ فأعظم الناس إيماناً أعظمهم توكلاً على الله - خصوصاً التوكل العالي الذي هو: الاعتماد التام على الله في تحصيل محابه ومراضيه، ودفع مساخطه - ولهذا يجعل الله التوكل ملازماً للإيمان في كثير من الآيات، كقوله: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة: 23] فالمؤمن حقاً تجده قائماً بما أمر الله به من الأسباب، معتمداً على مسببها ومصرفها، واثقاً بربه، لا يقلقه تشوشها، ويحزنه إتيانها على غير مراده، قد هدى الله قلبه فاطمأن إلى ربه ورضي به، وفوّض إليه أمرَه، ومن يؤمن بالله يهد قلبَه، قد تحقق قولَه تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحج: 70]، ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾[الحديد: 23] قد رضي بكفاية ربه، وسلّم إليه الأمر، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ووصف المؤمنين حقاً في هذه الآية بأنهم الذين يقيمون الصلاة، أي: يقيمونها بقيام مكملاتها، ظاهراً وباطناً، ويؤتون الزكاة؛ فالصلاة فيها الإخلاص للمعبود، والزكاة فيها الإحسان إلى عباد الله تعالى، فبحسب إيمان العبد يكون قيامُه بالصلاة والزكاة اللتين هما أُم العبادات وأجلُّها، وأعلاها وأعظمها نفعاً وثمرات، وكذلك وصف اللهُ المؤمنين في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ﴾[المؤمنون: 1 - 10] فهذه الأوصاف العظيمة بها يكمل الإيمان ويتحقق، وهو ميزان للخلق، فالمؤمنون المفلحون أهل الفردوس، هم الذين أقاموا الصلاة ظاهراً وباطناً، بحقوقها وخشوعها - الذي هو لبها - وآتوا الزكاة المأمور بها، وحفظوا ألسنتهم من الكلام السيئ والفحش، ومن اللغو والكلام الباطل، ولهذا نبه بالأدنى الذي هو اللغو على ما هو أولى منه، فإخبار الله أنهم عن اللغو - الذي هو الكلام الذي لا منفعة فيه – معرضون؛ يدل على أنهم تركوا الكلام المحرم، وحفظوا فروجهم عن الحرام لله تعالى، وتمام حفظها: حفظ البصر، وعدم قربان الفواحش ومقدماتها، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾[النور:30]، ووصفهم بمراعاة عهودهم وأماناتهم، وهذا عام للعهود والأمانات التي بينهم وبين ربهم، فإنهم قد عقدوا بينهم وبين ربهم عقدَ الطاعة والسمعَ والالتزام، ولهذا ذكرهم الله بهذا العهد في قوله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾[المائدة: 7]، والعهود والأمانات التي بينهم وبين الخلق ألا ينقضوها، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها؛ ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن علامة الإيمان: أن يكون العبد مؤتمناً على الدماء والأموال فقال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن مَن أمِنه الناسُ على دمائهم وأموالهم»([27])، وقال: «لا يؤمن من لا يأمن جارُه بوائقَه»([28]) ووصف المنافق بضد ذلك، ووصف المؤمنين بالإيمان بجميع الحق الذي نزله الله، وبالرسل الذين أرسلهم الله؛ فقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[البقرة: 285] فالمؤمن لما كان وصفه أنه متطلبٌ لرضوان الله، متبعٌ هداه أينما كان، آمنَ بجميع الإلهية والرسل، والتزم الدخول في طاعة الله وطاعة رسوله في كل شيء، وسأل اللهَ أن يغفر له ما قصر فيه، وأن يتجاوز عنه إذا قدّم عليه.ومن صفات المؤمنين: أنهم يُحكِّمون اللهَ ورسولَه في جميع أمورهم ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء: 65]، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[النور: 62]، ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[النور: 51]، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾[النساء: 59]، فالمؤمن أخلص دينه لله، واجتهد في الاقتداء برسول الله، ولم يُقدّم على قوله وحُكمه قولَ غيره وحُكمه، بل إذا تبينَتْ له سنةُ رسولِ الله لم يعدل عنها إلى غيرها، وبحسب تحقيقه لهذين الأصلين يتحقق إيمانه ويقوى يقينُه وعرفانُه.ومن صفات المؤمنين: أنهم متحابون متوالون متراحمون متعاطفون، كما قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾[التوبة:71]، وقال: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾[المائدة: 55]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[الحشر:10]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»([29]) وكلما ازداد الاتصال بقرابةٍ أو جوارٍ أو حقٍ من الحقوق ازداد هذا المعنى، وتأكد الإحسانُ إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جارَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»([30])، وقال: «من غشنا فليس منا»([31])، و«الدين النصيحة، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»([32]) فالمؤمنون يدينون الله بالنصيحة له في عبوديته، ولكتابه في تعلمه وتفهمه والعمل به والدعوة لذلك، ولرسوله في الاجتهاد في متابعته في أقواله وأفعاله وجميع أحواله، ولأئمة المسلمين وعامتهم بإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية، ومعاونتهم على البر والتقوى، وكفهم عن الإثم والعدوان بحسب القدرة، كما قال تعالى في الآية السابقة في وصفهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.ومن صفاتهم الحميدة ومناقبهم السديدة: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يقذف في النار»([33])، فجعل تحقيقَ الإيمان ووجودَ حلاوته بكون المحبة لله ولرسوله، وتقديمها على سائر المَحاب، وجعل المحاب تبعاً لها، فيحب المرءَ لما قام به واتصف به من محاب الله، وما منّ اللهُ به من الأخلاق الفاضلة، فكلما قويت فيه ازدادت محبته له، فتكون محبةُ المؤمن دائرةً مع محبة الله، فيحب اللهَ ورسولَه ويحب من يحبه من الأعمال والأشخاص، وتكون كراهته للكفر المضاد للإيمان أعظمَ من كراهته للنار التي سيقذف فيها. ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً»([34])، وقد تقدم([35]) قولُ هرقل الذي في صحيح البخاري: وسألتُك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرتَ أنهم يزيدون، وكذلك أمْرُ الإيمان حتى يتم، وسألتُك: أيرتد أحدٌ سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرتَ: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشتُه القلوب([36])، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورتَه ومن يتبع اللهُ عورتَه يفضحه ولو في جوف بيته»([37]).ومن علاماتهم: أن الله قد شرح صدورهم للإسلام؛ فانقادوا لشرائعه طوعاً واختياراً ومحبة، قد اطمأنتْ لذلك نفوسُهم، وصاروا على بيّنةٍ من أمرهم، فهم يمشون بنورهم بين الناس، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[الزمر: 22]، فمن يرد اللهُ أن يهديه يشرح صدره للإسلام، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل الإيمانُ في القلب اتسع وانشرح» قالوا: وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال: «نعم!: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله»([38])، ولما قال له حارثة: "أصبحتُ مؤمناً حقاً" قال: «وما حقيقة إيمانك»؟ قال: "عزفتُ النفس عن الدنيا؛ فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وإلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار في النار يتعاوون فيها" فقال: «عبد نور الله قلبه؛ فالزم»!([39]) فتحقيق الإيمان علامته: سهولة العبادات، والتلذذ بالمشقات في رضى رب الأرض والسماوات، والتصديق التام بالجزاء، والعمل بمقتضى هذا اليقين، وكذلك قال الحسن رحمه الله: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال"([40])؛ ولهذا مِن أجلِّ علاماتهم أن الإيمان يصل بهم إلى حد اليقين والصديقين، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾[الحديد: 19] ولما ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم ارتفاعَ غُرَف الجنة وعلوَّها العظيم قالوا: "يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم"! فقال: «بلى، والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين»([41]) ولهذا كانت الصدّيقيةُ التي أثنى بها على خواص خلقه هي: تكميل مراتب الإيمان علماً وعملاً ودعوة.وكما أن مِن تحقيق الإيمان أن تكون الأعمال الصالحة مصدقة له؛ فمِن تحقيقه أيضاً: أن يكون المؤمن متنزهاً عن الإثم والفسوق، وأنواع المعاصي الداخلة في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[الأنعام: 82]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[البقرة: 278].ومن موجبات الإيمان: صرفُ الأموال في مصارفها الشرعية، ووضعُها مواضعَها، وإقامة الحدود التي حد اللهُ ورسولُه، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾[الأنفال: 41] وقال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾[النور: 2]، وقال: ﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾[النور: 3] إلى غير ذلك من النصوص في الكتاب والسنة الدالةِ على وصف المؤمنين، وأن العبد لا يستحق حقيقة الإيمان حتى يتصف بها. وفي الجملة: فكلما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا أو: اتركوا كذا؛ كان امتثالُ ذلك الأمر، واجتنابُ ذلك النهي من مقتضيات الإيمان وموجباته، الذي لا يتم إلا بها، فبهذا ونحوه تعرف حقيقةَ الإيمان الذي جعله الله عنوانَ السعادة، ومادةَ الفلاح، وسببَ الفوز بكل مطلوب، والنجاة من كل مرهوب؛ فنسأله تعالى إيماناً كاملاً يهدي به قلوبنا إلى معرفته ومحبته، والإنابة إليه في كل أمر وألسنَتَنا إلى ذكره والثناء عليه، وجوارحَنا إلى طاعته، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾[يونس: 9]. ومِن صفاتهم الجليلة: أن الله يهديهم إلى الحق في المواطن المشتبهات، وللصواب في محالِّ المتاهات التي لا تحتملها عقولُ كثيرٍ من الناس، ويزدادون إيماناً ويقيناً في المواضع التي يزداد بها غيرُهم رَيباً وشكاً، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾[البقرة: 26]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ - إلى أن قال - ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الحج: 54]، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾[المدثر:31]، وقال تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾[آل عمران: 7] فما معهم من الإيمان واليقين يهديهم إلى الحقائق وأقوم الطرائق وأرشد الأمور وأصلح الأحوال، ولهذا كان القرآن تذكرة ورحمة وبشرى للمؤمنين، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾[المؤمنون: 57، 58] إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، فلما مشوا بنور إيمانهم في ظلمات الجهالات والشرور وتولاهم مولاهم - ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ - مشوا في نورهم يوم القيامة ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾[الحديد: 12]، ولما كانت تجارتهم أجل التجارات؛ كان ربحها النعيم المقيم في غرف الجنان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...﴾[الصف: 10، 11]. ومن صفاتهم: أن الله ينزل في قلوبهم السكينة والطمأنينة في مواضع الحرج والقلق، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾[الفتح: 4].76. كل من قام بحق أو دعا إليه، أو سعى في إنكار منكرٍ وإبطال باطلٍ وجبت معاونته ومساعدته على ذلك، وهو داخل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ﴾[الصف: 14]، ودلت هذه الآية ونحوها باللزوم على الأمر بالسعي بالأسباب التي تتم بها نصرة الحق؛ كالتعلم والتعليم للعلوم النافعة ونحوها.77. الإخلاص والالتجاء إلى الله على الدوام: والرجوع إليه في كل أمر؛ هو السبب الأعظم في حصول الهداية إلى الصراط المستقيم - علماً وعملاً -؛ قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العنكبوت: 69]، ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾[ص: 35] قد استجاب الله له هذا الدعاء ووقع الأمر، كذلك فإنه مهما تنقلتْ بالخلق الأحوال، وأُعطوا الأسباب العظيمة - من التمكين في الأرض والاقتدار على مصالحها - فلا بلغوا ولا يبلغون ما بلغه سليمان عليه السلام! مِن الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر، وتجري بأمره رخاء حيث أصاب، ومِن تسخير الشياطين كلَّ بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، ومن تسهيل الأسباب التي تدرك فيها المطالب ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾[النمل: 38 - 40]، ومن تسخير الطير والوحوش، وتعلم منطقها، مما هو من أعظم الأدلة على أن هذا أمر سماوي، ليس في قدر المخلوقات استطاعته.78. في أمر الله تعالى لزكريا بالذكر بالعشي والأبكار، بعد البشارة له بيحيى عليهما السلام، وفي أمر زكريا لقومه بتسبيح الله بكرةً وعشياً تنبيهٌ على شكر الله تعالى على النعم المتجددة، لا سيما النعم التي يترتب عليها خيرٌ كثيرٌ، ومصالح متعددة، وأنه ينبغي للعبد كلما أحدث اللهُ له نعمةً أحدث لذلك شكراً، وأن أفضل أنواع الشكر: الإكثارُ مِن ذكر الله، وتسبيحِه وتقديسِه والثناءِ عليه.79. كمالُ العبد في تمام النعمتين: نعمةَ الدين، ونعمةَ الدنيا، فبهما تحصل السعادة العاجلة والآجلة. فنعمة الدين: بالعلم الهادي إلى الصراط المستقيم، وبتقوى الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه؛ ونعمة الدنيا: بأن ينقطع العبد عن رجاء المخلوقين والافتقار إليهم، ويرزقه اللهُ العفةَ عن القبائح، ثم يغنيه بالحياة الطيبة، والخير الذي يكون عوناً له على عبادة ربه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾[محمد: 17]، وقال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾[النور: 33] وقد تضمن هذه الأمورَ الأربعةَ الدعاءُ الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»([42]).80. إذا صدق العبدُ في حبه ما أمَرَ اللهُ به، وكراهته لما نهى اللهُ عنه، وبذل جهدَه في فعل المحبوب وترك المكروه، واستعان بالله وتضرع إليه في التوفيق لفعل ما يحبه، والحفظ مما يكرهه؛ فإن اللهَ أكرمُ الأكرمين، ولا يخيِّب عبداً هذا شأنُه، ولو توالت وتكاثرت الأسباب المعارضة؛ فإن هذا السبب المجتمع من ثلاثة هذه الأشياء لا يتخلف عنه عند مسببه، وإنما يأتي العبدَ النقصُ من إخلاله بها أو بأحدها؛ ولهذا لما اجتهد يوسف الصديق عليه السلام، في السلامة من شر مراودة امرأة العزيز ومن أعانها على مرادها، وصدق في حبه وإيثاره طاعةَ الله على طاعة النفس، وتضرع إلى الله تعالى وتوكل عليه في حفظه وصيانته استعصم وحفظه الله، وصرف عنه السوء والفحشاء، فقال عليه السلام: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾[يوسف: 33] فاختار السجن المتضمن للعقوبة والإهانة على مراد النفس الدني، المثمر للخسران الدائم، وتملَّقَ إلى الله وتضرع في صرف كيدهن واجتهادهن في فتنته، وفوّض الأمرَ إلى ربه، وعلم أن الله إن وكَلَه إلى نفسه، ولم يصرف عنه كيدهن، فلا بد أن يصبو إليهن ويفعل أفعال الجاهلين؛ لأن هذا طبع النفس، إلا من رحم الله.81. قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾[الكهف: 5] أبطلَ به قولَ مَن زعم أن لله ولداً من ثلاثة أوجه، بل من أربعة: أحدها: أنه قول بلا علم؛ ومن المعلوم أن القول بلا علم من أعظم المختلقات، وأن ذلك من الجهالات والضلالات، خصوصاً في أعظم المسائل وأهمها وهي: مسألة التوحيد، وتفرد الباري جل جلاله بالكمال، وتنزهه عن كل ما لا يليق بجلاله - من أنواع النقائص المنافية لكمال الربوبية وعظمة الإلهية - فنفى عنهم العلم، ونفى عنهم التقليد لأهل العلم؛ فلم يقولوا شيئاً يعلمونه، ولا اقتدوا بالعالمين، بل هم وآباؤهم في ضلال مبين. والوجه الثاني، قوله: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي: عظمتْ وزادت في الشناعة إلى حدٍ يُستعجب كيف نطقوا به، وكيف خرجت هذه الكلمة الشنيعة من أفواههم! التي: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾[مريم:91]، وإنما كانت شنيعة جداً لأنها متضمنة لشتم رب العالمين وسبه، كما قال في الحديث الصحيح: «شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وكذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك: أما شتمه إياي فقوله: إن لي ولداً وأنا الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له كفواً أحد...»إلخ([43])، فأي شتم أعظم من هذا الشتم! الذي مضمونه حاجة رب العالمين إلى اتخاذ الصاحبة والولد! ومنافاة وحدانيته وتفرده بالكمال! الوجه الثالث قوله: ﴿إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ فسجّلَ على أن قولهم هذا هو الكذب الصراح والإفك المبين، وتأمل كيف ارتقى في إبطاله من وجه يبطله ويفسده إلى وجهٍ آخرَ يزيدُ في إبطاله، إلى وجهٍ ثالثٍ لا يبقى ريب ولا شك لكل ذي بصيرة في إبطاله، فنفى العلم بوجوهه، وشنع ما قالوه وعظمه، وأخبر عن مرتبته - وأنه قول - في أخس المراتب وأسفلها وهو: الكذب والافتراء، والوجه الرابع: ما يحصل به من مجموع هذه الأوجه، فإن الهيئة الاجتماعية يحصل منها أثرٌ ودلالةٌ غيرَ ما حصل لكل وجهٍ على انفراده، ويحصل بها مِن تصريح الدلالة ما يتضح به الحق وينجلي، وهكذا كل مسألة عليها عدة أدلة، فإنه يحصل بكل دليل على انفراده علم، ثم يحصل بالدليل الآخر علم آخر، ثم يحصل باجتماعهما علم آخر، وهكذا كلما كثرت وتعددت؛ وبهذا ونحوه يعلم أن المسائل الكبار كمسألة التوحيد وفروعه ومسألة المعاد ومسألة النبوة أن من تتبع أدلتها، واستقرأ براهينها؛ فإنه يحصل له من حق اليقين، ومن العلم الكامل فيها ما لا يحصل في غيرها من المسائل التي هي دونها، وهذا من أجل قواعد الإيمان، وأفضل العلوم النافعة، وأعظم ما يقرب إلى رب العالمين.ـ فصل ـ 82. سؤال: ما هو الغيب الذي أثنى الله على المؤمنين به، وأخبر عن سعادتهم وفلاحهم واستحقاقهم النعيم المقيم؟ فلعل العبد يعرفه ويتعرف محالَّه ومواضِعه؛ فيجتهد في تحقيق الإيمان ليكون من المفلحين. فإن أكثر الناس - بل أكثر المؤمنين - ليس عندهم في هذا الباب إلا أمورٌ مجملة، وألفاظٌ غير محققة، وهذا نفعه دون نفع التنويع والتفصيل والتوضيح والتبيين بكثير كثير؛ فأفتونا بحسب قدرتكم واستطاعتكم؛ فإنا لا نطلب منكم شططاً، وإلا فقد تقرر أن هذه المسألة لا يتمكن خواص الخلق من إيفاء حقها وبيان أمرها، فأفتونا مأجورين.الجواب: وبالله أستعين، وإليه أضرع في الهداية فيها وفي غيرها: الغيب هو خلاف الشهادة، ولهذا تقسم الأشياء قسمين: غيبية ومحسوسة، فالأمور المحسوسة المشاهدة لم يُعلّق الشارعُ عليها حكماً من أحكام الإيمان، الذي يفرق به بين أهل السعادة وغيرهم، وذلك كالسماء والأرض وما فيها من المخلوقات المشاهدة، والطبائع المعلومة المعقولة؛ إنما يذكر الله تعالى من هذا النوع الأدلةَ والبراهينَ على ما أخبر به وأخبرت به رسله، القسم الثاني: وهو الغيب الذي أمر بالإيمان به، ومدح المؤمنين به في غير موضع من كتابه، وضابط هذا القسم: أنه كل ما أخبر الله به، وأخبرت به رسله على وجهٍ يدعو الناسَ إلى تصديقه والإيمان به، وذلك أنواع كثيرة: أجلها وأعلاها وأفضلها وأنفعها وأيسرها: ما أخبر به في كتبه، وأخبرت به رسلُه من أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، ونعوته الجليلة الجميلة، وأفعاله الحميدة، وفي الكتاب والسنة من هذا النوع شيء كثير جداً بحسب الحاجة إليه؛ فإنه لا أعظم حاجة وضرورة من معرفة النفوس بربها ومليكها، الذي لا غنى لها عنه طرفة عين، ولا صلاح لها ولا زكاء إلا بمعرفته وعبادته، وكلما كان العبد أعرف بأسماء ربه، وما يستحقه من صفات الكمال، وما يتنزه عنه مما يضاد ذلك؛ كان أعظم إيماناً بالغيب، واستحق من الثناء والمدح بحسب معرفته، وموضعُ هذا: تدبر أسمائه الحسنى التي وصف وسمى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسله، فيتأملها العبد اسماً اسماً، ويعرف معنى ذلك، وأن له تعالى في ذلك الاسم أكمله وأعظمه، وأن هذا الكمال والعظمة ليس له منتهى، ويعرف أن كل ما ناقض هذا الكمال بوجه من الوجوه فإن الله تعالى منزه مقدس عنه، لما كان هذا النوع هو أصل الإيمان بالغيب وأعظمه وأجله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة»([44]) أي ضبط ألفاظها، وأحصى معانيها، وتعقلها في قلبه، وتعبد الله بها، وتقرب بمعرفتها إلى رب العالمين؛ فينبغي للمؤمن الناصح لنفسه أن يبذل ما استطاع من مقدوره في معرفة أسماء الله وصفاته وتقديسه، ويجعل هذه المسألة أهم المسائل عنده، وأولاها بالإيثار، وأحقها بالتحقيق؛ ليفوز من الخير بأوفر نصيب، ولهذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الأنصاري عن سبب ملازمته لقراءة سورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1] في صلاته فقال: "لأنها صفة الرحمن، فأحب أن أقرأ بها" فقال: «حبك إياها أدخلك الجنة» متفق عليه([45]).83. ثبت أن حبَّ العبدِ لصفات الرحمن، وملازمة تذكرها، واستحضار ما دلت عليه من المعاني الجليلة، والتفهم في معانيها؛ من أسباب دخول الجنة، وطريق ذلك: أن يجمع العبدُ الأسماءَ الحسنى الواردة في القرآن، وهي قريب من ثمانين اسماً - وفي السُّنة زيادة على ذلك – فيتدبرها، ويعطي كل اسمٍ منها عمومَ ذلك المعنى وكماله وأكمله، فإذا تدبر اسمَ الله عرف أن الله تعالى له جميع معاني الإلهية، وهي كمال الصفات والانفراد بها، وعدم الشريك في الأفعال؛ لأن المألوه إنما يُؤلَه لما قام به من صفات الكمال، فيحب ويخضع له لأجلها، والباري جل جلاله لا يفوته من صفات الكمال شيء بوجه من الوجوه، أو يُؤلَه ويُعبد لأجل نفعه وتوليه ونصره، فيجلب النفع لمن عبده، ويدفع عنه الضرر، ومن المعلوم أن الله تعالى هو المالك لذلك كله، وأن أحداً من الخلق لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فإذا تقرر عنده أن اللهَ وحده المألوه؛ أوجب له أن يعلق بربه حبَّه وخوفَه ورجاءَه، وأناب إليه في كل أموره، وقطع الالتفات إلى غيره من المخلوقين، ممن ليس له من نفسه كمالٌ ولا له فعال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويتدبر ـ مثلاً ـ اسمَ العليم، فيعلم أن العلم كله بجميع وجوهه واعتباراته لله تعالى، فيعلم تعالى الأمور المتقدمة والأمور المتأخرة، أزلاً وأبداً، ويعلم جليلَ الأمور وحقيرَها، وصغيرَها وكبيرها، ويعلم تعالى ظواهرَ الأشياء وبواطنَها، غيبَها وشهادتَها، ما يعلم الخلقُ منها وما لا يعلمون؛ ويعلم تعالى الواجبات والمستحيلات والجائزات، ويعلم تعالى ما تحت الأرض السفلى كما يعلم ما فوق السماوات العلى، ويعلم تعالى جزئيات الأمور وخبايا الصدور، وخفايا ما وقع ويقع في أرجاء العالم وأنحاء ملكه، فهو الذي أحاط علمُه بجميع الأشياء في كل الأوقات، ولا يعرِض تعالى لعلمه خفاءٌ ولا نسيان، ويتلو هذه الآيات المقرّرِةِ له: كقوله في غير موضع ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الأنفال: 43]، ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[التغابن: 4]، ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾[طه: 7]، ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾[الرعد:10]، ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحج: 70]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمران: 5، 6]، ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[لقمان: 34] ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[الأنعام: 59]، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾[الحج: 63]، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾[الجن: 26، 27 ]، ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾[سبإ: 2]، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[لقمان:27]، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: 234] ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[آل عمران: 153] ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[المجادلة:7] ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾[السجدة: 17] وغير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على هذا المعنى، فإنَّ تَدبُّر بعضَ ذلك يكفي المؤمنَ البصيرَ معرفةً بإحاطة علم الله تعالى، وكمال عظمته، وجليل قدره، وأنه الرب العظيم المالك الكريم. وكذلك: يتدبر اسمَه الرحمن، وأنه تعالى واسعُ الرحمة، له كمالُ الرحمة، ورحمتُه قد ملأتِ العالم العلوي والسفلي وجميعَ المخلوقات، وشملت الدنيا والآخرة، ويتدبر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف: 156]، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[البقرة: 143] ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى﴾[الروم: 50]، ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾[لقمان: 20]، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾[النحل: 53]، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[النحل: 18]. ويتلو سورة النحل الدالة على أصول النعم وفروعها، التي هي نفحةٌ وأثرٌ من آثار رحمة الله؛ ولهذا قال في آخرها: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾[النحل:81] ثم تدبّر سورة الرحمن من أولها إلى آخرها؛ فإنها عبارة عن شرح وتفصيل لرحمة الله تعالى، فكل ما فيها من ضروب المعاني وتصاريف الألوان من رحمة الرحمن، ولهذا اختتمها في ذكر ما أعد الله للطائعين في الجنة من النعيم المقيم الكامل، الذي هو أثر من رحمته تعالى؛ ولهذا يسمي اللهُ الجنةَ الرحمة كقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[آل عمران: 107]، وفى الحديث: «أن الله قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي»([46])، وقال: ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، وفي الحديث الصحيح «لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها»، وفي الحديث الآخر: «إن الله كتَب كتاباً عنده فوق عرشه أن رحمتي سبقت غضبي»([47]). وفي الجملة: فالله خلق الخلق برحمته، وأرسل إليهم الرسل برحمته، وأمرهم ونهاهم وشرع لهم الشرائع برحمته، وأسبغ عليهم النعمة الظاهرة والباطنة برحمته، ودبرهم أنواع التدبير وصرفهم بأنواع التصريف برحمته، وملأ الدنيا والآخرة من رحمته، فلا طابت الأمور ولا تيسرت الأشياء ولا حصلت المقاصد وأنواع المطالب إلا برحمته، ورحمته فوق ذلك وأجل وأعلى وللمحسنين المتقين من رحمته النصيب الوافر والخير المتكاثر: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[الأعراف: 56] وهكذا يتدبر العبدُ صفات ربه وآثارها وأحكامها؛ حتى ينصبغ قلبُه بمعرفته، ويستنير فؤادُه ويمتلئ من عظمة خالقه وشواهد صفاته، ولنقتصر على هذا التنبيه اللطيف على هذه الأسماء الثلاثة؛ ليُحتَذى في باقيها على هذا الحذو، ويتدبر - مثلاً - آيةَ الكرسي، وأولَ سورة آل عمران، وأولَ سورة الحديد وغافر، وآخرَ سورة الحشر، وسورةَ الإخلاص ونحوها من الآيات المشتملة على هذا العلم العظيم، وما يتأيد بها من الأحاديث النبوية؛ لينال حظاً جزيلاً من الإيمان بالغيب، وليكون من الذين يخشون ربهم بالغيب.ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بجميع رسل الله الذين أرسلهم على وجه الإجمال والتفصيل لأشخاصهم ولدعوتهم وشرعهم، وكذلك الإيمان بجميع الكتب التي أنزلها الله هداية للعباد على ما اجتباهم برسالته، ولهذا سمى الله الوحي الذي أنزله على رسوله غيباً، فقال: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾[التكوير: 24]، ويذكر تعالى من أدلة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الأخبار بوقائع الأنبياء المتقدمين وما جرى لهم فيقول: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾[هود: 49]، ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾[آل عمران: 44]، ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾[القصص:44]، وما أشبه هذا مما فيه التبيان لصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بهذه الغيوب، فتمام الإيمان بالغيب: أن يؤمن العبدُ بجميع رسل الله ويعرف من صفاتهم ومن دعوتهم ما يحقق به هذا الأمر. وكذلك: يؤمن بجميع الكتب، خصوصاً هذا القرآن العظيم، الذي كلف العبد بالإيمان به إجمالاً وتفصيلاً. وكيفية الإيمان على وجهِ الإجمالِ والتفصيل: أن يؤمن ويصدِّق بأنه كلامُ الله، أنزله مع جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا اللسان العربي؛ لينذر الخلق ويهدي إلى الحق في جميع المطالب، ويلتزم العبد التزاماً لا تردد فيه تصديقَ إخباراته كلِّها، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإحلال حلاله وتحريم حرامه، ثم يُحقق هذا الأصلَ بتفاصيله، فيتفهّم ما دلت عليه أخبارُه، ويجعلها عقيدة لقلبه راسخة، لا تزلزلها الشُبَه، ولا تُغيّرها العَوارض، ويجتهد في كل ما أُمِر به من أعمال القلوب والجوارح أن يقوم به على وجه الكمال والتكميل، علماً وعملاً وحالاً؛ وما لا يقدر عليه ينوي فعلَه لو قَدَر عليه. وكذلك النواهي: يأخذ نفسَه في كل ما نهي عنه أن لا يقربه ولا يحوم حوله؛ امتثالاً لأمر الله، ورجاء لثوابه، فبحسب قيام العبد بهذا يكون إيمانه بالغيب، فمستقلٌ ومستكثرٌ ومتوسطٌ، ويدخل في هذا النوع: الإيمان بأخباره بما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة. ومن أنواع الإيمان بالغيب: الإيمان باليوم الآخر، وبما وعد اللهُ العبادَ من الجزاء، فدخل في هذا: الإيمانُ بجميع ما يكون بعد الموت من فتنة القبر وأحواله، ومِن صفات يوم القيامة وأهوالِه، ومن صفات النار وأهلها، وما أعد اللهُ لهم فيها، ومن صفات الجنة وأهلها، وما أعد الله فيها لأهلها، فيفهمها فهماً صحيحاً مأخوذاً من الكتاب ودلالته البينة، ومن السنة الصحيحة ودلالتها الظاهرة، فبحسب ما يصل إلى العبد من نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب، وفهمها على وجهها؛ يكون إيمان العبد بالغيب. وإذا استقر الإيمان بالوعد والوعيد في قلب العبد، وحصل فيه من ذلك تفاصيلُ كثيرة؛ أوجب له الرغبة في فعل ما يقرّبه إلى ثواب الله، والرهبة من الأسباب الموجبة للإهانة، وعلم أن الله تعالى قائمٌ على كل نفس بما عملت من خير وشر، وأنه واسع الفضل، كامل العدل، قال تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾[مريم:61]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾[النساء: 122]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾[النساء: 87 ]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾[ آل عمران: 9].ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالملائكة الكرام، الذين جعلهم الله عباداً مُكْرَمين، ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾[الأنبياء: 28]، وأنهم ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم: 6]، ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾[الأنبياء: 20]، وأنه تعالى جعلهم يدبرون بأمره وإذنه أمورَ الدنيا والآخرة، فهم أكثرُ جنود الله، وهم رسله في أحكامه الدينية وأحكامه القدرية، وأن الله جعل للعبد منهم مُعَقِّباتٍ يحفظونه من أمر الله، ويحفظون عليه أعماله: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق: 18]، ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الانفطار: 9 - 12] ولهم صفاتٌ وأفعالٌ مذكورة في الكتاب والسنة لا يتم الإيمانُ بالغيب إلا بالإيمان بها؛ فرجع الإيمان بالغيب إلى أصول الإيمان الستة بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، على هذا الوجه الذي ذكرنا، والأصل الذي نبهنا أدنى تنبيه عليه، فمن حقق الإيمان بذلك كله كان من المؤمنين بالغيب حقيقة، المتقين المفلحين.84. فائدة: ما هو الخشوع الذي أمر الله به، ومدح أهلَه وذم من قسا قلبه فلم يخشع، فما حقيقة ذلك؟ وما علامته ودلالته؟ قلت: قد مدح الله الخشوع عموماً في جميع الأوقات والحالات والعبادات، مثل قوله تعالى: ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾[الأحزاب: 35]، ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾[الحديد: 16]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[هود: 23]، ومدح الخشوع خصوصاً في الصلاة، مثل قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[المؤمنون: 2] فخشوعُ القلب عنوانُ الإيمان وعلامة السعادة، كما أن قسوتَه وعدمَ خشوعه عنوانُ الشقاوة؛ فالخشوع انكسار القلب وذله بين يدي ربه، وأن يبقى هذا الخشوع مستصحباً مع العبد في جميع أوقاته، إن غفل رجع إليه، وإن مرح عاد إليه، وإن شرع في تعبد وقربة من القربات خضع فيها، وقام بالأدب الذي هو أثر الخشوع، خصوصاً في أم العبادات، والجامعة بين أنواع التعبدات القلبية والبدنية وأقوال اللسان وهي: الصلاة؛ فإنه يقوم فيها مراعياً للمراقبة، ومرتبة الإحسان أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يره فإنه يراه، فيُجهد نفسَه على التحقيق بهذه العبودية الكاملة، فيُحضر قلبَه فيناجي ربه بقلبه قبل لسانه، ويستحضر ما يقوله ويفعله؛ فتسكن حركاته ويقل عبثه، ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي وهو يعبث في لحيته فقال: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه»([48]) وبهذا يُعرف أن من أعظم علامات الخشوعِ سكونُ الجوارح، والتأدب في الخدمة الذي هو أثر سكون القلب، ولهذا وصف الله عباده الذين أضافهم إلى رحمته في قوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾[الفرقان: 63] المراد: خاضعين متواضعين، ومن أمارات هذا الخشوع أن يطمئن القلب بذكر الله، ويخشع ويخضع للحق الذي أنزله الله؛ فيعتقد ما دل عليه من الحق، ويرغب فيما دعا إليه من الخير، ويرهب عما حذر منه من الشر، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾[الحديد: 16]، وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾[الزمر: 22، 23] فالقلب القاسي لا تؤثر فيه الآيات شيئاً، ولا يزداد مع التذكير إلا تمادياً في غيّه وطغيانه وضلاله، والقلب الخاشع - لما كان حسن القصد متواطئاً على الحق طالباً له مستعداً لقبوله - لما وصل إليه الحق عرفه، وعرف الحاجة بل الضرورة إليه ففرح به واطمأن به، وزادت رغبتُه وأثّر في قلبه خضوعاً، وفي عينيه دموعاً، وفي جلده قشعريرة، ثم يلين قلبه ويطمئن إلى ذكر الله تعالى؛ فهذا من هداية الله لعبده وتوفيقه إياه، إلا مَن أعرضوا فأعرض الله عنهم، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾[الفرقان: 73] أي بل خروا سامعين مبصرين، منقادين لها طوعاً واختياراً، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾[الإسراء: 107 - 109] فهذا تأثير آيات الله في أهل العلم الخاشعين، يجمعون بين خشوع القلب وخضوع اللسان وتضرعه، وخضوع الجوارح حيث خروا للأذقان يبكون، وقال تعالى بعدما ذكر أصفياءه الخاضعين: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾[مريم: 58].ومِن أعظم علامات الخاشعين: ما ذكر اللهُ بقوله ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ ثم وصفهم فقال: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾[الحج: 34-35] فلما أخبتت قلوبهم إلى ربهم - فذلّت له وانكسرت وتبتّلت إليه تبتيلاً - وجِلَتْ عند ذكره، وصبرتْ على ما أصابها مِن ابتلاء الله، وأدَّتْ ما أُمِرتْ به من الصلاة وأنواع النفقات؛ فجمع بين وصف المخبتين، وبين أعمال القلوب - وهو الصبر والوجل - وأعمال الجوارح كلها، وأقوال اللسان - وهو الصلاة التي تجتمع فيها أنواع التعبد- والأعمال المالية، وتقديم محبة الله على محبة المال، فأخرَجتِ المالَ المحبوبَ للنفوس في الوجوه التي يحبها الله تعالى؛ إيثاراً لربها، فهذه أوصاف المخبت الخاشع، التي لا يستحق هذا الاسم من لم يتصف بها. وكذلك: وصفهم بأنهم الذين يعرفون الحق في مواضع الشُبَه؛ فيزدادون إيماناً إلى إيمانهم، كما قال تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الحج: 54]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾[هود: 23] يتضمن وصفَ المخبتين الخاشعين بالرجوعِ إلى ربهم في جميع الحالات، والإنابة إليه في كل الأوقات؛ لأن تَعدية الفعل بـ(إلى) يدل على هذا المعنى، فإنهم لما أخبتوا إلى ربهم، وخضعوا لعظمته؛ أخبتوا إليه في التعبد متذللين فتقبّل منهم، وأوصلهم إلى مقصودهم، وجعلهم أصحابَ الجنة خالدين فيها، فلما خشعت قلوبُهم؛ خشعت أسماعُهم وأبصارُهم وألسنتُهم وجوارحُهم للرحمن. ومما يدل على أن هذه الأشياء تابعة للقلب في خشوعه: ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه»([49])، وقوله تعالى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾[طه:111]، ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾[طه: 108]، ولهذا فسّر كثيرٌ من المفسرين: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[المؤمنون: 2] أنه غض البصر، وقلة الحركات، وعدم الالتفات، ولا شك أن هذا أثرُ الخشوع ودليلُه، فالخاشع: هو الذي سكن في قلبه تعظيمُ الله ووقارُه، وتصديقُ وعده ووعيده؛ فذلَّ وخضع، وانقادت جوارحه لما أُمرتْ به، وترك الأشرَ والبطرَ والمرحَ المنافي للخشوع، وكلما بعُد القلبُ عن هذا الوصف قسا وغلظ؛ فلم يخضع لأمر الله، ولا أثَّر فيه الذكر، بل ربما زاد خساراً، وافتتن عند المحن والشبهات، وفسق عن أمرِ ربه.85. يا لطيفاً بالعباد، لطيفاً لما يشاء؛ الطف بنا في جميع الأمور، ما معنى: لطف اللهُ بعبده، ولطفه لعبده الذي تتعلق به آمال العباد، ويسألونه من ربهم؟ وهو أحد معنيي مقتضى اسمه اللطيف؛ فإن اللطيف بمعنى الخبير العليم قد تقرر معناه، ولكن المطلوب هنا المعنى الثاني، الذي يضطر إليه العباد، ولنذكر بعض أمثلته وأنواعه؛ ليتضح: فاعلم أن اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال ولسان الحال هو من الرحمة، بل هو رحمة خاصة؛ فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللطف، فإذا قال العبد: يا لطيف الطف بي أولي وأسألك لطفك؛ فمعناه: تولني ولاية خاصة، بها تصلح أحوالي الظاهرة والباطنة، وبها تندفع عني جميع المكروهات: من الأمور الداخلية والأمور الخارجية، فالأمور الداخلية لطف بالعبد والأمور الخارجية لطف للعبد، فإذا يسر الله عبده وسهل طريق الخير وأعانه عليه فقد لطف به، وإذا قيض الله له أسباباً خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد، فيها صلاحه فقد لطف له. ولهذا لما تنقلت بيوسف عليه الصلاة والسلام تلك الأحوال، وتطورت به الأطوار من رؤياه وحسد إخوته له وسعيهم في إبعاده جداً، واختصاصهم بأبيهم، ثم محنته بالنسوة، ثم بالسجن، ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة وانفراده بتعبيرها، وتبوئه من الأرض حيث يشاء، وحصول ما حصل على أبيه من الابتلاء والامتحان، ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار، وإزالة الأكدار وصلاح حالة الجميع، والاجتباء العظيم ليوسف - عرف عليه الصلاة والسلام أن هذه الأشياء وغيرها لطفٌ لطف الله لهم به، فاعترف بهذه النعمة فقال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾[يوسف: 100] أي: لطفه تعالى خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلاً لذلك، وأهلا له، فلا يضعه إلا في محله، والله أعلم حيث يضع فضله، فإذا رأيت الله تعالى قد يسر العبد لليسرى وسهل له طريق الخير، وذلل له صعابه وفتح له أبوابه ونهج له طرقه ومهد له أسبابه وجنبه العسرى فقد لطف به، ومن لطفه بعباده المؤمنين أنه يتولاهم بلطفه فيخرجهم من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل والكفر والبدع والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة.ومِن لطفه: أنه يرحمهم مِن طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء، التي هذا طبعها وديدنها؛ فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى، ويصرف عنهم السوءَ والفحشاءَ، فتوجد أسبابُ الفتنة، وجواذبُ المعاصي، وشهواتُ الغَي؛ فيرسل اللهُ عليها برهانَ لطفه، ونورَ إيمانهم الذي مَنّ به عليهم؛ فيَدَعونها مطمئنين لذلك، منشرحة لتركها صدورُهم.ومِن لطفه بعباده: أنه يُقدّر أرزاقَهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم، فقد يريدون شيئاً وغيرُه أصلح؛ فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه؛ لطفاً بهم وبراً وإحساناً ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾[الشورى: 19]، ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾[الشورى: 27].ومِن لطفه بهم: أنه يُقدّر عليهم أنواع المصائب، وضروب المحن والابتلاء بالأمر والنهي الشاق؛ رحمة بهم ولطفاً، وسوقاً إلى كمالِهم وكمالِ نعيمهم: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 216]. ومن لطيف لطفه بعبده إذ أهّلَه للمراتب العالية، والمنازل السامية - التي لا تُدرَك إلا بالأسباب العِظام التي لا يدركها إلا أربابُ الهممِ العالية، والعزائمِ السامية - أن يُقدِّر له في ابتداء أمره بعضَ الأسباب المحتملة المناسبة للأسباب التي أُهِّل لها؛ ليتدرج من الأدنى إلى الأعلى، ولتتمرن نفسُه، ويصير له ملكة من جنس ذلك الأمر، وهذا كما قَدَّر لموسى ومحمدٍ وغيرِهما من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - في ابتداء أمرهم رعايةَ الغنم؛ ليتدرجوا من رعاية الحيوان البهيم وإصلاحه إلى رعاية بني آدم ودعوتهم وإصلاحهم. وكذلك يذيق عبدَه حلاوة بعض الطاعات؛ فينجذب ويرغب، ويصير له ملكة قوية بعد ذلك على طاعات أجلّ منها وأعلى، ولم تكن تحصل بتلك الإرادة السابقة، حتى وصل إلى هذه الإرادة والرغبة التامة.ومِن لطفه بعبده: أن يُقدّر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح والعلم والإيمان، وبين أهل الخير؛ ليكتسب مِن أدبهم وتأديبهم، ولينشأ على صلاحهم وإصلاحهم، كما امتن الله على مريم في قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾[آل عمران: 37] إلى آخر قصتها. ومن ذلك: إذا نشأ بين أبوين صالحين، وأقارب أتقياء، أو في بلد صلاح، أو وفّقه الله لمقارنة أهل الخير وصحبتهم، أو لتربية العلماء الربانيين؛ فإن هذا مِن أعظم لطفه بعبده، فإن صلاح العبد موقوف على أسباب كثيرة: منها، بل من أكثرها وأعظمها نفعا، هذه الحالة، ومن ذلك إذا نشأ العبد في بلد أهله على مذهب أهل السنة والجماعة فإن هذا لطف له. وكذلك: إذا قدر الله أن يكون مشايخه الذين يستفيد منهم - الأحياء منهم والأموات - أهل سنةٍ وتقى؛ فإن هذا من اللطف الرباني، ولا يخفى لطف الباري في وجود شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - في أثناء قرون هذه الأمة - وتبيين الله به وبتلامذته مِن الخير الكثير، والعلم الغزير، وجهاد أهل البدع والتعطيل والكفر، ثم انتشار كتبه في هذه الأوقات، فلا شك أن هذا مِن لطف الله لمن انتفع بها، وأنه يتوقف خيرٌ كثيرٌ على وجودها، فلله الحمد والمنة والفضل.ومِن لطف الله بعبده: أن يجعل رزقه حلالاً في راحة وقناعة، يحصل به المقصود ولا يشغله عما خلق له من العبادة والعلم والعمل، بل يُعينه على ذلك ويفرّغه، ويريح خاطرَه وأعضاءَه، ولهذا من لطف الله تعالى لعبده أنه ربما طمحت نفسُه لسببٍ من الأسباب الدنيوية التي يَظن فيها إدراكَ بغيتِه، فيعلم اللهُ تعالى أنها تضره وتصدّه عما ينفعه؛ فيحول بينَه وبينها، فيظل العبدُ كارهاً ولم يدر أن ربه قد لطف به: حيث أبقى له الأمر النافع: وصرف عنه الأمر الضار، ولهذا كان الرضى بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل.ومن لطف الله بعبده - إذا قدر له طاعة جليلة لا تُنال إلا بأعوان -: أن يقدر له أعواناً عليها ومساعدين على حملها، قال موسى عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا﴾[طه: 29 - 34]، وكذلك امتن على عيسى بقوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾[المائدة: 111]، وامتن على سيد الخلق في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنفال:62]، وهذا لطفٌ لعبده خارجٌ عن قدرته. ومن هذا لطف الله بالهادين: إذا قيّض اللهُ من يهتدي بهداهم، ويقبل إرشادهم؛ فتتضاعف بذلك الخيراتُ والأجورُ التي لا يدركها العبد بمجرد فعله، بل هي مشروطة بأمر خارجي. ومن لطف الله بعبده: أن يعطي عبدَه - من الأولاد والأموال والأزواج - ما به تقرّ عينُه في الدنيا، ويحصل له به السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك، ويأخذه ويعوضه عليه الأجر العظيم إذا صبر واحتسب، فنعمةُ الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظمُ من نِعمتِه عليه في وجوده، وقضاء مجرد وطَرِه الدنيوي منه. وهذا أيضاً خيرٌ وأجرٌ خارجٌ عن أحوال العبد بنفسه، بل هو لطف من الله له، قيّض له أسباباً أعاضه عليها الثواب الجزيل، والأجر الجميل.ومن لطف الله بعبده: أن يبتليه ببعضِ المصائب، فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها؛ فيُنيلُه درجاتٍ عالية لا يدركها بعمله، وقد يُشدِّد عليه الابتلاء بذلك، كما فُعِل بأيوب عليه السلام، ويوجِد في قلبه حلاوة روح الرجاء، وتأميلَ الرحمة، وكشفَ الضر، فيُخفف ألمُه، وتنشط نفسُه، ولهذا من لطف الله بالمؤمنين: أن جعل في قلوبهم احتساب الأجر؛ فخفّت مصائبهم، وهان ما يلقون من المشاق في حصول مرضاته.ومن لطف الله بعبده المؤمن الضعيف: أن يعافيه من أسباب الابتلاء التي تضعف إيمانَه، وتُنقص إيقانه، كما أن من لطفه بالمؤمن القوي: تهيئةَ أسباب الابتلاء والامتحان ويعينه عليها، ويحمِلها عنه ويزداد بذلك إيمانُه، ويعظم أجرُه، فسبحان اللطيف في ابتلائه وعافيته، وعطائه ومنعه.ومن لطف الله بعبده: أن يسعى لكمال نفسه مع أقرب طريق يوصله إلى ذلك، مع وجود غيرها من الطرق التي تبعد عليه، فيُيَسّر عليه التعلُّم مِن كتابٍ أو معلمٍ يكون حصول المقصود به أقرب وأسهل، وكذلك ييسره لعبادة يفعلها بحالة اليسر والسهولة، وعدم التعويق عن غيرها مما ينفعه، فهذا من اللطف.ومن لطف الله بعبده: قدر الواردات الكثيرة، والأشغال المتنوعة، والتدبيرات والتعلقات الداخلة والخارجة، التي لو قُسِّمت على أمةٍ من الناس لعجزت قواهم عليها، أن يمن عليه بخُلُقٍ واسع، وصدرٍ متسع، وقلبٍ منشرح، بحيث يُعطي كلَّ فردٍ من أفرادها نظراً ثاقباً، وتدبيراً تاماً، وهو غير مكترث ولا منزعج لكثرتها وتفاوتها، بل قد أعانه الله تعالى عليها، ولطَفَ به فيها، ولطَفَ له في تسهيل أسبابها وطرقها. وإذا أردتَ أن تعرف هذا الأمر فانظر إلى حالة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله بصلاح الدارين، وحصول السعادتين، وبعثه مُكملاً لنفسه ومُكملاً لأمة عظيمة هي خير الأمم، ومع هذا مكّنه اللهُ ببعض عمره الشريف في نحو ثلث عمره أن يقوم بأمر الله كله على كثرته وتنوعه، وأن يقيم لأمته جميعَ دينهم، ويعلمهم جميع أصوله وفروعه، ويُخرج اللهُ به أمةً كبيرة مِن الظلمات إلى النور، ويحصل به من المصالح والمنافع، والخير والسعادة - للخاص والعام - ما لا تقوم به أمّةٌ مِن الخَلق.ومن لطف الله تعالى بعبده: أن يجعل ما يبتليه به من المعاصي سبباً لرحمته، فيفتح له عند وقوع ذلك بابَ التوبة والتضرع، والابتهال إلى ربه، وازدراء نفسه واحتقارها، وزوال العُجب والكبر من قلبه ما هو خيرٌ له من كثيرٍ من الطاعات.ومن لطفه بعبده الحبيب عنده: إذا مالت نفسُه مع شهوات النفس الضارة، واسترسلت في ذلك؛ أن يُنَغِّصها عليه ويكدرها، فلا يكاد يتناول منها شيئاً إلا مقروناً بالمكدرات، محشواً بالغصص؛ لئلا يميل معها كل المَيل، كما أن مِن لطفه به أن يُلذِّذ له التقربات، ويحلي له الطاعات؛ ليميل إليها كل المَيل.ومن لطيف لطف الله بعبده: أن يأجُرَه على أعمالٍ لم يعملها بل عزم عليها، فيعزم على قُربةٍ من القُرَب ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب فلا يفعلها، فيحصل له أجرها، فانظر كيف لطف الله به! فأوقعها في قلبه، وأدارها في ضميره، وقد علم تعالى أنه لا يفعلها؛ سَوقاً لبِره لعبده وإحسانه بكل طريق. وألطف من ذلك: أن يقيض لعبده طاعةً أخرى غير التي عزم عليها، هي أنفع له منها؛ فيدع العبدُ الطاعةَ التي تُرضي ربَّه لطاعة أخرى هي أرضى لله منها، فتحصل له المفعولة بالفعل والمعزوم عليها بالنية، وإذا كان من يهاجر إلى الله ورسوله، ثم يُدركه الموتُ قبل حصول مقصوده قد وقع أجره على الله - مع أن قطع الموت بغير اختياره - فكيف بمن قَطَعت عليه نيتَه الفاضلة طاعةٌ قد عزم على فعلها؟! وربما أدار اللهُ في ضمير عبده عِدَّة طاعات، كل طاعة لو انفردت لفعلها العبد؛ لكمال رغبته، ولا يمكن فعلُ شيءٍ منها إلا بتفويت الأخرى، فيوَفِّقه للموازنة بينها، وإيثار أفضلها فعلاً مع رجاء حصولها جميعها عزماً ونية. وألطف من هذا: أن يُقدِّر تعالى لعبده ويبتليه بوجود أسباب المعصية، ويُوفِّر له دواعيها، وهو تعالى يعلم أنه لا يفعلها؛ ليكون تركه لتلك المعصية التي توفَّرت أسبابُ فعلها مِن أكبر الطاعات، كما لطف بيوسف عليه السلام في مراودة المرأة، وأحدُ السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ.ومن لطف الله بعبده: أن يُقدِّر خيراً وإحساناً مِن عبده، ويُجرِيَه على يد عبده الآخر، ويجعله طريقاً إلى وصوله للمستحق، فيثيب اللهُ الأولَ والآخِرَ.ومن لطف الله بعبده: أن يُجرِي بشيءٍ مِن مالِه شيئاً من المنافع وخيراً لغيره؛ فيثيبه من حيث لا يحتسب، فمن غرس غرساًَ، أو زرع زرعاً فأصابت منه روحٌ من الأرواحِ المحترمة شيئاً آجرَ اللهُ صاحبَه وهو لا يدري! خصوصاً إذا كانت عنده نيةٌ حسنة، وعَقَدَ مع ربه عقْداً في أنه مهما تَرتّب على ماله شيءٌ من النفع، فأسألك يا رب أن تأجرني، وتجعله قربةً لي عندك، وكذلك لو كان له بهائم انْتُفع بدَرِّها ورُكُوبها والحَمْل عليها، أو مساكن انْتُفع بسكناها ولو شيئاً قليلاً، أو ماعونٍ ونحوه انْتُفع به، أو عينٍ شُربَ منها، وغير ذلك - ككتابٍ انْتُفع به في تعلم شيء منه، أو مصحفٍ قُرئ فيه - والله ذو الفضل العظيم.ومن لطف الله بعبده: أن يفتح له باباً من أبواب الخير لم يكن له على بال، وليس ذلك لقلة رغبته فيه، وإنما هو غفلة منه، وذهول عن ذلك الطريق، فلم يشعر إلا وقد وجد في قلبه الداعي إليه، واللافت إليه؛ ففرح بذلك، وعرف أنها من ألطاف سيِّدِه وطُرُقه التي قيّض وصولهَا إليه؛ فصرف لها ضميرَه، ووجّه إليها فِكره، وأدرك منها ما شاء الله وفتح. 86. قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[المائدة: 93] تأملتُ في فائدة تكرار التقوى في هذه الآية ثلاثَ مراتٍ؛ فوقع لي أحدُ وجهين: أحدهما: أن الأول للماضي، والثاني للحال، والثالث في المستقبل، وبيان ذلك: أن قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ أن (جناح) نكرة في سياق النفي؛ فتعم الماضي والمستقبل والحال، لأنه نفى الجناحَ عن المؤمنين مطلقاً، وهذا النفي العام لا ينطبق إلا على الأحوال الثلاثة، ويكون هذا التكرار من محترزات القرآن، التي يحترز الباري فيها عن كل حالٍ تُقَدّر وتُمْكِن؛ لأنهم لو اتقوا في الماضي أو في الحال أو فيهما دون المستقبل لم يَصدُق عليهم نفي الجناح، ولا بد في كل حالة من الأحوال التي تُقام فيها التقوى مِن الإيمان والعمل الصالح، ومن الإيمان والإحسان؛ يُؤيِّدُ هذا الاحتمال قولُه: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾[البقرة: 203]، فإن قوله: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ نظيرُ قولِه (جناح) ولما كانت هذه الآية لا يُتَصور فيها الماضي كما هو بيّن - لأنه شرط وجزاء للمستقبل، ويصلح للحال - قال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعني في الحال، لمن اتقى اللهَ فيها، ثم ذكر ما يصلح للمستقبل فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فإذا قُرِنت هذه بتلك بانت لك فائدةُ التكرار، وأن ذلك لأجل عموم الأزمنة. الوجه الثاني: أن الأول في مقام الإسلام، والثاني في مقام الإيمان، والثالث في مقام الإحسان: والمؤمن لا تكمل تقواه حتى يترك ما حرم اللهُ، ولا يتمَّ دينُه إلا بهذه المقامات الثلاثة؛ لأن مقام الإسلام يقتضي وجود الأعمال الظاهرة مع الإيمان والتقوى، فقال فيها: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ومقام الإيمان لا بد فيه من القيام بأركان الإيمان مع التقوى، فقال فيه: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا﴾ ومقام الإحسان لا بد فيه من القيام بالإحسان مع التقوى، فقال فيه: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ فنفي الجناح العام لا يكون إلا لمن قام بمقاماتِ الدِّين كلِّها؛ وعلى هذين الوجهين ففي الآية الكريمة من بيان جلالة القرآن وعظمته - وإحكام معانيه ورصانتها، وعدم اختلالها واختلافها - ما يشهد به العبدُ أنه كلامُ الله حقاً وصدقاً وعدلاً، وأنه مُحتوٍ على أعلى رُتَبِ البلاغة التي لا يقاربه فيها أيُّ كلام كان، وقد يُقال: إن كلا الوجهين مراد؛ لأن اللفظ لا يأباه، والمعنى مفتقر إليه، وطريقة القرآن أن يُحمَل على أعمّ الوجوه المناسبة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، عليم بكل شيء، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه، اللهم ذكّرنا منه ما نُسِّينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، واجعلنا ممن يتلونه حق تلاوته.87. أقول: ولما ختم المؤلف رحمه الله كلامه على معنى اللطيف قال: وأرجو من الله أن يكون ما نحن فيه من هذا النوع؛ فإن جنس هذه الفوائد المذكورة في هذه الرسالة قد كانت تعرض لي كثيراً أثناء القراءة لكتاب الله، فأتهاون بها ولم أقيدها، فيضيع شيء كثير، فلما كان أول يوم من هذا الشهر المبارك أوقع في قلبي أن أقيد ما يمر عليّ من الفوائد والمعاني المتضحة، التي لا أعلم أنها وقعت لي قبل ذلك، فعملتُ على هذا النمط، حتى كان الانتهاء إلى لطف الله، كما كان الابتداء بلطف الله بهذه الرسالة اللطيفة! وكان ذلك موافقاً للثامن والعشرين من هذا الشهر المبارك، الذي حصل به الابتداء في 28 من شهر رمضان سنة 1347 سبع وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله على محمد وسلم، وقد تمت هذه الرسالة على يد جامعها الفقير إلى ربه من كافة الوجوه: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي.([50]) ([1]) مسلم: (817).([2]) كما نص على ذلك في خاتمة كتابه هذا.([3]) فقد جاء في خاتمة تفسيره قوله : : "تم تفسير كتاب الله بعونه وحسن توفيقه، على يد جامعه وكاتبه، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله المعروف بابن سعدي، غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين، وذلك في غرة ربيع الأول من سنة أربعٍ وأربعين وثلثمائة وألف من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم".([4]) لم أجد ما ينطبق عليه معنى التكرار سوى سؤالٍ طرحه في آخر الفائدة رقم 49 ، أما بقية الفوائد فجلها لم تذكر في "التفسير" ولا "مختصره"، بنسبة تبلغ (80%)، وأما البقية فهي لم تذكر بنصها أو قريباً من النص في "التفسير" و "المختصر" بل هي إشارات وإلماحات، وإلا فهي في هذا الكتاب مُفصّلة ومبسوطة أكثر من ذينك الكتابين.([5]) قالها الإمام أحمد : ، ينظر: الآداب الشرعية (2/ 53).([6]) قالها ابن المبارك :، ينظر: جامع بيان العلم وفضله (1/406).([7]) إذ لم تتهيأ لي ـ بعد البحث الشديد والتواصل مع ورثة المؤلف أثابهم الله ـ نسخةٌٌ خطية.([8]) ونشرتها مكتبة رمادي للنشر بالدمام عام : 1417هـ.([9]) وطبعت في مطابع شركة المدينة للطباعة والنشر بجدة.([10]) بواسطة الأخ الفاضل/ ماهر بن عبدالعزيز الشبل.([11]) كذا في الأصل، ولعلها: خلق الله الخلق لأجله.([12]) الغضارَةُ: طيبُ العيش. ينظر: "الصحاح" (2/770)، مادة (غضر).([13]) لعلها: وأن نظر العين المنهي عنه هو المقرون...([14]) البخاري ح(6079)، مسلم ح(2351).([15]) البخاري ح(6262)، مسلم ح(990).([16]) الترمذي ح (2516)، أحمد ح(2803)، وقال الترمذي: حديث صحيح.([17]) "تنَوَّقَ في أموره: تجود وبالغ"، ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: (6/ 571).([18]) "الإرْفَاه: التنعُّم والدَّعَة ومُظاهرَةُ الطَّعام على الطَّعام، واللباس على اللِّباس" ، ينظر: تهذيب اللغة: (6/ 150).([19]) رَهِلَ لَحْمُهُ بالكسر: اضْطَرَبَ واسْتَرْخَى وانْتَفَخَ أو وَرِمَ من غيرِ داءٍ. ينظر: القاموس المحيط، ص (1303).([20]) الترمذي ح(3407) واستغربه، النسائي ح(1304)، وأحمد ح(17114) ، وصححه ابن حبان ح(935)، وقد أفرده ابن رجب ـ رحمه الله ـ بشرح في رسالة مستقلة ، حققها الأخ الشيخ سامي جاد الله.([21]) "الآخِيَّةُ: عُود يُعرَّض في الحائط تُشد إليه الدابة، وقيل: هو حَبل يُدفن في الأرض ويبرز طَرفُه فيُشدّ به، وفي الحديث: مَثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيته، يَجُول ثم يَرجع إلى آخِيَّته" ينظر: المحكم لابن سيده : (5/311).([22]) هو كتاب: "درء تعارض العقل والنقل".([23]) البخاري ح(50)، مسلم ح(8).([24]) مسلم ح(35)، وأصله في البخاري ح(9) ، وينظر: شرح النووي على مسلم: (2/ 5).([25]) أبو داود ح(4682)، الترمذي ح(1162)، وأحمد (7402)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (479).([26]) مسلم ح(223).([27]) هذا لفظ الترمذي ح(2627)، وأصل الحديث في البخاري (10)، ومسلم (41).([28]) لفظ البخاري (6016): «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: ومن يا رسول الله؟! قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه»، ومسلم (46): «لا يدخل الجنة من لا يأمَن جارُه بوائقه».([29]) البخاري ح(13)، مسلم ح(45).([30]) البخاري ح(6019)، مسلم ح(47).([31]) مسلم: (101). ([32]) مسلم: (55) وليس بحروفه.([33]) البخاري ح(16)، مسلم ح(43).([34]) مسلم ح(34).([35]) لم أجده في النسخة التي بين يدي، فلعله سقط منها، أو أن الشيخ ـ رحمه الله ـ كان حديث عهد بحديث هرقل في موضع آخر من أحد كتبه الأخرى، فظن أنه في هذا الكتاب فأحال عليه، والله أعلم.([36]) البخاري ح(7)، مسلم ح(1773).([37]) أبو داود ح(4880)، الترمذي ح(2032) من حديث أبي برزة س، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث حسين بن واقد"، وجوّد إسناده العراقي في "المغني"، ص (661)، وحسن إسناده المنذري في "الترغيب" ح(3529) من حديث البراء س.([38]) أخرجه ابن أبي شيبة (7/76، 77) ، وسعيد بن منصور (5/88)، من طريق عبدالله بن مسور، قال: تلا رسول الله ج ... الحديث، وهو حديث موضوع من أجل عبدالله هذا، فقد رمي بوضع الحديث، ينظر: التاريخ الكبير للبخاري (5/195)، الكامل في الضعفاء (5/274)، تاريخ بغداد (11/ 413)، وفي تحقيق د.سعيد الحميد لسنن سعيد بن منصور فوائد إسنادية دقيقة، تحسن مراجعتها.([39]) أخرجه البزار في مسنده ح (6948) من طريق يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، عن النبي ج ... فذكره.وهو حديث منكر، فإنه من وراية يوسف بن عطية، وهو ضعيف، وقد تفرد به عن ثابت البناني، واضطرب فيه كما قال البيهقي ـ فيما نقله عنه ابن حجر في " الإصابة" (1/690)؛ ولهذا قال العقيلي في "الضعفاء" (4/455): "ليس لهذا الحديث إسناد يثبت"، وقال ابن رجب ـ كما في استنشاق نسيم الأنس (99) ـ : "وهذا الحديثُ مروي مرسلاً، ورُويَ مسندًا متَّصِلاً لكن من وجوهٍ ضعيفةٍ". ([40]) شعب الإيمان (1/161).([41]) البخاري ح(3256)، مسلم ح(2831).([42]) مسلم ح(2721).([43]) البخاري ح(4974).([44]) البخاري ح(2736)، مسلم ح(2677).([45]) هذا من ألفاظ البخاري ح(741) ولفظ مسلم ح(813): «أخبروه أن الله يحبه».([46]) البخاري ح(4569)، مسلم ح(2846).([47]) البخاري ح(6986).([48]) أخرجه ابن أبي شيبة ح(6787) وصالح ابن الإمام أحمد (2/178)، من حديث ابن المسيب موقوفاً عليه من قوله، وفي إسناد ابن أبي شيبة رجل لم يُسمّ.وأما الوجه المرفوع، فقد رواه الحكيم الترمذي في "النوادر" من طريق سليمان بن عمرو النخعي، وهو كذاب، لذا فهو موضوع، وفي وصفه بأنه ضعيف فقط - كما في "المغني" للعراقي: (ص 178) - تساهل.([49]) سبق تخريجه قريباً.([50]) المتوفى سنة 1376 هـ في ليلة الخميس الموافق 23 من شهر جمادى الآخرة، غفر الله له وتغمده برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته إنه سميع مجيب.