التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
يعود طلابنا كل يوم إلى مدارسهم وإلى جامعاتهم ليقضوا مرحلة جديدة في طلب العلم، وليمضي من أعمارهم ومن أعمارنا كذلك حقبة جديدة يقطعها القدر ويطويها التاريخ، وهي تمرّ رغم مرّ السحاب، ولكن هل ارتقى خلالها أولادنا؟! أم انتكس فيها طلابنا؟!
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
(وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)..
يعود طلابُنا إلى مدارسهم وإلى جامعاتهم، يعودون بداية كل عام دراسي، ويعودون منتصف كل عام دراسي، ويعودون كل يوم دراسي إلى مدارسهم وجامعاتهم، يعود طلابنا إلى مدارسهم وجامعاتهم ويتكرر منهم هذا السلوك أكثر أيام السنة، وإذا قلنا: طلابنا فإنما نقصد: أخي وأخاك، وأختي وأختك، وابني وابنك، وهؤلاء هم قرّة أعيننا في هذه الحياة الدنيا، وهم فرحتنا، وسعادتنا، ولأجلهم نكدح ونسعى، فأمرهم يعنينا جميعًا، فأيّ معنى لتلك الأبوّة وتلك الأمومة إذا لم تهتمّ بأمر أبنائها؟! وأيّ قيمة لتلك الأخوة إذا لم يعنها أمر إخوانها؟! قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) [الفرقان:74].
يعود طلابنا كل يوم إلى مدارسهم وإلى جامعاتهم ليقضوا مرحلة جديدة في طلب العلم، وليمضي من أعمارهم ومن أعمارنا كذلك حقبة جديدة يقطعها القدر ويطويها التاريخ، وهي تمرّ رغم مرّ السحاب، ولكن هل ارتقى خلالها أولادنا؟! أم انتكس فيها طلابنا؟!
يعود طلابنا اليوم إلى مدارسهم وإلى جامعاتهم، وهم يواجهون تحديات كبيرة، ومشكلات قاسية، وواقعية، ومستقبلية، وهي كثيرة كثيرة، ولكن، يا أيها الإخوة: لا بد أن ندرك جيدًا أن كل المشكلات والصعوبات التي يواجهها أبناؤنا الطلبة قد تهون، وقد تكون خسائرها أقل من مشكلة حقيقية وأساسية هي انفصال واقع التعليم عن التزكية.
نعم، إنه انفصال التعليم عن البناء الروحي لطلابنا، انفصال التعليم عن البناء الأخلاقي لطلابنا، انفصال التعليم عن البناء الإيماني لطلابنا، وهذا الواقع موافق للمنهج التعليمي العلماني الغربي المستورد لأبنائنا المسلمين، ولكنه مخالف للمنهج التربوي النبوي، منهج نبينا وقدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله فيه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة،2]، فقوله: (وَيُزَكّيهِمْ). "أي: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان، ويحثهم على الأخلاق الفاضلة، ويزجرهم عن الأخلاق الرذيلة، ويطهرهم مِن مساوئ الْأَعْمَالِ وَالطِّبَاعِ". ثم قال: (وَيُعَلِّمُهُمُ). وانفصل اليوم التعليم عن التزكية حينما قَصّرَ الجميع بدوره: الدولة والمؤسسات التعليمية والأسرة وأهل الصلاح والدعوة. والخاسر من؟! الخاسر نحن جميعًا.
أيها الإخوة: وحتى نتدارك شيئًا من الأمر، وحتى نقوم بشيء من دورنا، وحتى لا نقف متفرجين وأبناؤنا الطلاب يغرقون في وحل التعليم العلماني وأجوائه المسمومة، وحتى لا نستسلم للواقع ونرضى بالضياع لأبنائنا، وحتى لا نكتفي بإلقاء اللوم على الآخرين، وحتى لا يحاسبنا الله يوم القيامة حسابًا عسيرًا لتقصيرنا وتفريطنا بحق أبنائنا وطلبتنا، لا بد لنا من أن نقوم بدورنا مهما كان محدودًا أو بسيطًا، وهذا مقصدي من هذه الخطبة، فإنّ له الأثر، وفيه المعذرة إلى ربنا -سبحانه وتعالى-: (قالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، فالمؤمن لا يعرف اليأس ولا الإحباط، بل يتبع دعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "يعجبني الفأل"، نعم لا إحباط ولا يأس، فالرزق بيد الله، وواجبك الأخذ بالأسباب، وتحمّل المسؤولية التي على عاتقك أنت، فلا تبحث عن عذر لتقصيرك، فالله كلّفك بالمسؤولية عن نفسك وعن أهل بيتك، وعن طلابك، فقم بها حتى تعذر لأولادك وطلابك وتعذر إلى ربك، وإلا فهل يكون الحلّ بالركود والإهمال؟!
أيها المؤمنون: النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل طريق أبنائنا إلى المدارس والجامعات، إنْ هم زكّوا أنفسهم، جعلها طريقًا إلى الجنة لمّا قال كما في صحيح مسلم: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنّة"، فلا نجعلْها طريقًا إلى النار. (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
أيها الإخوة المؤمنون وأيتها الأخوات المؤمنات: تبدأ حياة طلابنا وأبنائنا من هنا: من البيت، من المنزل الذي يسكنه، من الأسرة التي يعيش معها، ومن هنا تظهر المسؤولية الكبرى، والمسؤولية الأولى، المسؤولية رقم واحد: إنها مسؤولية كل من الأب والأم والإخوة، ففي صحيح البخاري: "وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا"، ولابن عدي بسند صحيح من حديث أنس: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أو ضيعه".
قَالَ الْعُلَمَاء: "الرَّاعِي هُوَ الْحَافِظ الْمُؤْتَمَن الْمُلْتَزِم صَلَاح مَا قَامَ عَلَيْهِ، وَمَا هُوَ تَحْت نَظَره، وكُلّ مَنْ كَانَ تَحْت نَظَره شَيْء فَهُوَ مُطَالَب بالْقِيَام بِمَصَالِحِهِ فِي دِينه وَدُنْيَاهُ".
فيا أيها الآباء، ويا أيتها الأمهات: لقد حمّلكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسؤولية العظمى عن أبنائكم، وذَكَرَكم بوصف محدّد خاص بكم: "وَالرَّجُلُ رَاعٍ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ"، وجعلكم مسؤولين، مسؤول: أي ستسأل عنهم يوم القيامة، مسؤول: أي أن عليك واجبًا كبيرًا تجاههم.
يا أيها الآباء الكرام، ويا أيتها الأمهات الفضليات: أبناؤكم الطلاب، أظهروا لهم الحرص عليهم، والاهتمام بهم، أظهروا لهم أنكم متابعون لهم، وتعرفون برامجهم، ومراحلهم التعليمية، لا نريد أبًا مهملاً لا يعرف في أي صفّ ابنه، ولا ما تخصصه الجامعي، ولا نريد أمًّا غافلة لا تعرف متى دوام ابنتها، ومتى عطلتها، وفي أية سنة دراسية هي، لا نريد والدًا لا يعرف عن أبنائه إلا أنهم في المدرسة أو في الجامعة، فهو منشغل بعمله وبذاته، اجعل قدوتك سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الذي وصفه ربه سبحانه بصفة الحرص على كل المؤمنين: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ)، فكن حريصًا على أبنائك الطلاب صغيرهم وكبيرهم، ومهتمًا بأمرهم الدراسي وحياتهم المدرسية والجامعية.
أيها الآباء وأيتها الأمهات: إنّ لكم دورًا كبيرًا ومؤثرًا في بناء شخصية أبنائكم الطلبة، لكم فاعلية قوية، صدّقْ ذلك أو لا تصدق، لكنها الحقيقة التي قررها نبينا -صلى الله عليه وسلم-، قرّر قوة تأثيركم هذه حينما قال: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"، فانظر إلى قوة دور الوالدين والأسرة!! إنهم قد يقلبون فطرة أبنائهم رأسًا على عقب، وقد يمسخون صفاء دينه وقيمه، وقد يحفظونه سالمًا ويبقونه طاهرًا زكيًا، ولذلك قوموا بدوركم -أيها الآباء والأمهات- بتزكية أبنائكم، بتزكية قلوبهم وعقولهم وأجسادهم.
نعم، عباد الله، أيها الآباء والأمهات: لنجعل من يومهم المدرسي والجامعي يومًا مباركًا، وكيف ذلك؟! أضع بين أيديكم جملة من الإجراءات العملية التي تعيننا جميعًا:
ذلك بأن يفتتح أبناؤنا الطلبة صبيحة أيامهم بتزكية أرواحهم، وطهارة نفوسهم، فنعوّدهم على صلاة الفجر، فهي أهم من التعليم وحده، فلا قيمة ليومهم ذاك ولعلمهم هذا إذا هم غادروا البيت بلا صلاة فجر، لن يجنوا إلا خبث النفس، وقساوة القلب، وغضب الرب، ولعنة السماء.
نعم، ذلك هو التعليم بلا تزكية، فلا نريد أبًا يغضب فقط حينما يتأخر ابنه عن المدرسة، أو أمًّا تغضب فقط حينما تكون علامة ابنتها متدنية، ولكن هل تغضبان -أيها الوالدان- إذا غادر ابنكم أو ابنتكم المنزل وقد غابوا عن رحمة الله وعن بركة السماء وتنكروا لحق الله في صلاة الفجر، فخرجوا من المنزل وقد برئت منهم ذمة الله، ألم يقل ربنا -جل جلاله-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه:132]، ألم يقل رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام-: "علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر". قال ابن قدامة: "يجب على وليّ الصبي أن يعلمه الطهارة والصلاة إذا بلغ سبع سنين ويأمره بها". بذلك نجمع بين التزكية والتعليم وبين طهارة الروح وبناء العقل وصفاء النفس وحصول المعرفة.
تأمل معي قوله في الحديث: "فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"، إنه تأثيرك الكبير، وإنها مسؤوليتك العظمى، فإياك أيها الأب وإياك أيتها الأم أن تغادر ابنتكما المنزل تحمل في يدها الحقيبة والكتب، ولكنها تحمل على ظهرها لعنة الله ولعنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن السبب؟! أنت، ومن المسؤول؟! أنتِ، كيف ذلك؟! حينما تأذن لها أو تأذنين لها أن تخرج بغير لباسها الشرعي، أن تخرج من المنزل بالبنطال متشبهة بلباس الرجال، حينها اعلم أنها قد خسرت خسرانًا مبينًا، خسارة لا تساوي أمامها الشهادة ولا التعليم شيئًا، لماذا؟! يجيبك على ذلك ابن عباس -رضي الله عنه- حينما قال كما في الحديث الصحيح: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتشبهات بالرجال من النساء، وفي رواية: "لَعَنَ اللَّه الْمُتَشَبِّهَات مِنْ النِّسَاء بِالرِّجَالِ"، وفي الحديث الصحيح: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه".
نعم -أيها الآباء والأمهات- إذا أردنا تزكية أبنائنا الطلبة، لنحصنهم بذكر الله، لنحصنهم من شرور الخلق، وما أكثرها اليوم، هذا هو منهج نبينا التربوي لأبناء المسلمين، ففي صحيح البخاري أن النبي كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: "أعيذكما بكلمات الله التامّة، من كلّ شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة". فقبل أنْ يخرج أبناؤك إلى المدرسة أو الجامعة قل لهم أن يرددوا ثلاث مرات: "أعوذ بكلمات الله التامّات من شر ما خلق".
نعم -أيها الأب الشفوق، وأيتها الأم الحنونة- إذا أردنا تزكية أبنائنا الطلبة، فقبل أن يخرجوا إلى مدارسهم وجامعاتهم وبعد أن يخرجوا ادعوا لهم من قلوبكم، ادعوا لهم بالأدعية الطيبة النافعة، فإن لدعوتكم أثرًا عظيمًا في حياتهما الدراسية الدعاء، فقد صحّ من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهن"، وذكر منهن: "دعوة الوالد لولده".
ربّوهم على التعلق بالله تعالى، والاستعانة به في دراستهم وامتحاناتهم، وفي سائر أحوالهم الدراسية، علّقْ قلوبهم بالله فهو وليّهم وحافظهم ومعلمهم ورازقهم، افعل ذلك اقتداءً بمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جمع فيه بين التعليم والإبداع والتزكية الإيمانية والقلبية، وذلك حينما كان يدعو لابن عباس ذلك الغلام الفطن ذلك الصبي الذكي، قائلاً: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ"، ثم يقول له في موضع آخر كما في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد في مسنده: "يَا غُلامُ: إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فاَسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ". وهو قول لكل أبنائنا وطلابنا، وتربية لهم على الارتباط بالله وتحصيل العلم النافع.
نعم -أيها الآباء والأمهات- إذا أردنا تزكية أبنائنا الطلبة، فلنُزَكِّ سلوكهم، سلوك ابني وابنك، وأخي وأخيك، لنُزَكِّ جوارحهم بالأدب الإسلامي الراقي، بالاحترام لمدرسيهم وزملائهم، نعم، قم بواجبك وذكرهم بالتعامل بالأخلاق الحسنة، أرشدهم كل يوم وباستمرار، لا بد أن يترك ذلك أثرًا في نفوسهم، نعم هذا هو منهج السلف الصالح؛ ففي صحيح مسلم أن سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه- قال: "لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غُلاَماً فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ، فَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ أَنَّ هَا هُنَا رِجَالاً هُمْ أَسَنُّ مِنِّي".
وكان الحسن البصري يرشد ابنه قائلاً له: "يا بني: إذا جالست العلماء فكن على السمع أحرص منك على أن تقول، وتعلّم حسن الاستماع كما تتعلّم حسن الكلام".
ولما أراد الحسين أن يأكل تمرة من تمر الصدقة قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كخ كخ، أما علمت أنّا لا تحلّ لنا الصدقة؟!".
أما إذا أهملنا أبناءنا الطلبة وأسلمناهم إلى صحبة فاسدة فسوف تتلوث أخلاقهم وآدابهم، وفي ذلك يحذر الغزالي فيقول: "ممّا يحتاج إليه الطفل أشد الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه، فإنّه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره من حَرَدٍ وغضب، ولِجاجٍ، وعَجلةٍ، وخفّةٍ وهوى، وطيشٍ وحدّة، وجشع، فيصعب عليه في كِبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخةٍ له، ولذلك نجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قِبَل التربية التي نشأ عليها".
(وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
نعم -أيها الآباء والأمهات- إذا أردنا تزكية أبنائنا الطلبة، فلا بد من تعويدهم على فعل الخيرات في مدارسهم، وجامعاتهم، وأن يشاركوا بالأعمال الطيبة الصالحة، وخاصة الأنشطة الدينية والاجتماعية، تابع أبناءك وأعمالهم في مدارسهم وجامعاتهم وشجعهم وادعمهم ماديًا ومعنويًا، فهذا هو هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، تعويد الأطفال والشباب على فعل الخيرات، ففي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْخَيْرُ عَادَةٌ، وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ"، وقال عمرو بن سلمة -رضي الله عنهما-: كنت غلامًا في حجر رسول الله، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله: "يا غلام: سمِّ الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك"، وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعوّدوهم الخير فإنّ الخير عادة"، فعودْهم على صلاة الجماعة، وأشركهم بدور القرآن الكريم، وانصحهم بأن يأخذوا بعض المساقات الشرعية مهما كان تخصصهم، وخاصة في الجامعات التي تتيح لهم ذلك، فإن ذلك يخفف من تلك الجفوة بين التعليم والتزكية، ويرطب تلك القلوب والأرواح التي أصابها الجفاف.
(وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة المؤمنون: ويبقى هناك دور محوري لا يمكن لنا تجاوزه إذا ما أردنا لأبنائنا الطلبة الخير والفلاح والجمع بين التعليم والتزكية، إنه دور ذلك الإنسان الخيّر، الذي يفرض احترامه على الجميع، إنه دور المدرس الذي عمّ فضله على مختلف شرائح المجتمع.
أيها المعلم، أيها المدرس -معلمًا كنت في مدرستك أو أستاذًا في جامعتك-: اعلم أنه مهما ظُلمت في حقك ومكانتك، ومهما جارت عليك الأنظمة والتعليمات، اعلم أنك تبقى الأسمى في نظر أهل الرشاد، واعلم أنك تبقى القدوة في أعماق الطالب، واعلم أنه يبقى لك التأثير الفعّال في نفوس طلابك، فهم لا يصغون لأحد في حياتهم كما يصغون إليك، لذلك لا تترك طلابك يضيعون، ولا تَقْصِرْ مهمتك على إلقاء المعلومات وحشوها في عقول طلابك، بل أضف إليها ما يرضي الله تعالى، أضف إليها ما يرقّق قلوبهم، ويرتقي بأخلاقهم، أضف إليها التزكية الربانية التي شرعها الله تعالى وهداك إليها: (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
يا أيها المدرس الكريم: اربط المعلومات والدروس والمعارف والعلوم دائمًا بالله تعالى، وبصفاته، وبقدرته، وبعلمه، وبسننه في الكون والحياة والإنسان. فالله أراد لتعليمنا وتعلّمنا وتدريسنا أن يكون باسمه، فقال -سبحانه وتعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:1-5]، وقال -جلت عظمته-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53].
يا أيها المدرس الكريم: ذكّرْ طلابك على الدوام بالآخرة، وبحقوق الله، وبحسن الأخلاق، وحذرهم من رفقة السوء، فبتزكيتك هذه لهم، قد تنقذ طالبًا، وترشد آخر، وقد تحفظين -أيتها المدرسة- بكلامك هذا عِرض طالبة، وتصونين شرف أخرى، وتدفعين منكرًا عظيمًا، وترحمين أبناءنا الطلبة من عذاب يوم عظيم.
فيا أيها المدرس: تَصَدّق على طلابك وطالباتك بالكلام الطيب الذي يزكي أرواحهم وقلوبهم: "الكلمة الطيبة صدقة"، ولا تكتفِ بكلمات علمية جافة، لا تكنْ كغيرك من المدرسين المهملين، والمنشغلين بذواتهم، قمْ بواجبك لله تعالى، والله سيؤجرك أجرًا عظيمًا، ففي صحيح مسلم أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دعَا إلى هدًى كان له مِنَ الأجرِ مثل أجورِ من تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا".
(وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا يا رب العالمين.