الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
والمقصود بالخشوع في الصلاة: هو حضور قلب المصلي بين يدي الله تعالى، مستحضرًا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدبًا بين يدي ربه، مستحضرًا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الرديئة، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب، وإن كانت مجزأة مثابًا عليها.
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: يقول الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1، 2]. هذا تنويه من الله، بذكر عباده المؤمنين، وذكر فلاحهم وسعادتهم، وبأي شيء وصلوا إلى ذلك، ومن ضمن ذلك، الحث على الاتصاف بصفة الخشوع في الصلاة، والترغيب فيها.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحةً له وقرةَ عينٍ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَلاةِ).
أيها الأحبة: بما أن الصلاة هي عمود الإسلام وركنه الركين، وليست حركات مجردة من الروح والتدبر، بل هي مناجاة لله خالق السماوات والأرض، ووقوف بين يديه، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي اَلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ". متفق عليه.
يستريح فيها المؤمن ويسعد بمخاطبة ربه -تبارك وتعالى-، ويجد تمام حلاوتها إذا سعى لتحقيق الخشوع فيها فأدركه، نعم الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها، فإذا فقد منها صارت جسدًا بلا روح، الخشوع في الصلاة الذي يطرد الغفلة، فيجد المتحلي به نفسه في روضة رضية من راحة النفس وطمأنينة القلب تكسر حدة النزعة المادية التي يعاني منها البشر.
والمقصود بالخشوع في الصلاة: هو حضور قلب المصلي بين يدي الله تعالى، مستحضرًا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدبًا بين يدي ربه، مستحضرًا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الرديئة، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب، وإن كانت مجزأة مثابًا عليها.
وقال ابن رجب: "أصل الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له".
أيها الأحبة: وحتى يدرك المصلي الخشوع عليه أن يجلب في صلاته ما يوجد الخشوع ويقويه، ويدفع ما يزيل الخشوع ويضعفه.
فلابد أن يكون يقظاً نشيطاً، ولذلك ورد النهي عن الصلاة والمرء ناعس لأنه لا يدرك ما يقول؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ". متفق عليه.
وقد علم الشيطان فضل الصلاة ونفعها للعبد؛ لذلك تجده يُلبسُ على المؤمن صلاته إذا عجز عن صرفه عنها، وقد شكا هذا الحال عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ -رضي الله عنه-، فأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا". قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي. رواه مسلم.
والعبد منهيٌ عن كل ما يسبب انصراف القلب عن الصلاة، كالالتفات؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: "إِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ". رواه البخاري. "الاختلاس" الخطف بسرعة. "يختلسه الشيطان" يظفر به عند الالتفات.
كما ورد النهي عن رفع البصر إلى السماء؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ". رواه مسلم. وفي سنن ابن ماجه بسند صحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ"، حَتَّى اشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ: "لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَيَخْطَفَنَّ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ". قال ابن رجب: والمعنى فِي كراهة ذَلِكَ: خشوع المصلي وخفض بصره، ونظره إلى محل سجوده؛ فإنه واقف بَيْن يدي الله يناجيه، فينبغي أن يكون خاشعاً منكّساً رأسه، مطرقاً إلى الأرض.
والمشروع له أن ينظر إلى موضع سجوده إلا إذا جلس بين السجدتين أو جلس للتشهد، فإنه ينظر إلى موضع الإشارة إلى يده وهو يشير بها، قال مجاهد -رحمه الله-: "كان إذا قام أحدهم -يعني السلف الصالح- يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيًا ما دام في صلاته".
أين هذا -أيها الإخوة- من بعض المسلمين الذين يدخلون في الصلاة بلا مبالاة، لا يستشعرون عظمة من وقفوا بين يديه!! تجده يدخل في صلاته بلا مبالاة ولا تحفز، لا يؤدي الحركات بتمامها، وينتقل بين الأركان متثاقلاً متمايلاً، يتحرك في صلاته حركة لا داعي لها، فمنهم من تمضي صلاته وهو يداعب عقاله وشماغه، وربما نظر في جواله أو رفع رأسه وبصره إلى السماء، وربما تجشأ بقوة وكأنه على سفرته، أو تثاءب بصوت نشاز وكأنه في فراشه، ومنهم من يتمخط في الصف ببشاعة وكأنه في حمام، ومنهم من يأتي بملابس نومه أو صنعته، ومنهم من يجهر بقراءته ودعائه وكأنه لوحده، وغير ذلك كثير من الأفعال التي لا ينبغي أن تكون في المسجد، فما بالك أنها تكون في الصلاة، ولو كان من فعل ذلك سيقابل مسؤولاً من المسؤولين لاهتم بمظهره وسلوكه أعظم اهتمام، لكنه لا يرعي بالاً لملك الملوك وينسى أن الله يراه ويسمعه.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يمن علينا بالهداية والتوفيق، وأن ييسر لنا أسباب الخشوع في صلاتنا، إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: أسباب الخشوع كثيرة لا نستطيع الإتيان عليها بخطبة واحده، ولكني أدعوكم ونفسي للتأمل بهذا الحديث، فإن فيه عوناً لنا على الخشوع؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ"، وفي رواية: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي".
تصور نفسك ورب السموات والأرض الملك العزيز الجبار الخالق المالك المتصرف تحدثه ويرد عليك: قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَالَ الله: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ". رواه مسلم.
أيها الإخوة: هذا الحديث الجميل يملأ نفس المسلم أملاً ورجاءً بأن يستجيب الله دعاءه بعد أن حمده وأثنى عليه ومجّده؛ فيهديه الصراط المستقيم صراط من أنعم الله عليهم من الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين، ويجنّبه صراط اليهود المغضوب عليهم وصراط النصارى الضالّين.
ثم تأمّل الركوع لله عندما تحني جبهتك وظهرك خضوعاً لله تعالى، ولذلك كان من الدعاء المشروع فيه كما في صحيح مسلم عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ قَالَ: "اللهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي".
وبعد:
أيها الإخوة: إن الخاشع في صلاته إذا انصرف منها وجد خفّة من نفسه، وأحسّ بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطًا وراحة وروحًا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرّة عينه ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم -صلى الله عليه وسلم-: "يا بلال: أرحنا بالصلاة"، ولم يقل: أرحنا منها.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "جعلت قرة عيني بالصلاة"، فمن جُعلت قرّة عينه في الصلاة، كيف تقرّ عينه بدونها؟! وكيف يطيق الصبر عنها؟! اللهم اجعل قرة عيوننا في الصلاة.