التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله الهذلول |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الصلاة |
من أجل ذلكم -معاشر المؤمنين- جعلت عمارة المساجد من علامات الإيمان بالله والخشية، قال الله-تبارك وتعالى-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [التوبة:18]، والعمارة في الآية هنا المراد بها إقامة البناء، وتشييده، يؤكد ذلك ويحث عليه ويبين ثواب فاعله ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: عباد الله، سمي المسجد مسجداً لكونه مكان السجود، واشتق اسمه من السجود لكون السجود أشرف أفعال الصلاة؛ فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
والمساجد أحب البقاع إلى الله -تعالى- كما ورد في صحيح مسلم، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها".
والمساجد قلاع الإيمان، وحصون الفضيلة، ومعاهد الثقافة؛ هي المدرسة والمصلى، بل كانت في عصور صدر الإسلام -إضافة إلى ما سبق- مقرَّ الحكم، ودار القضاء، ومجلسَ الشورى، وساحة التدريب، وبيت الضيافة واستقبالِ الوفود؛ وفيها تعقد ألوية الحرب، ومنها تنطلق قوافل الفاتحين.
ولا أدل على تلك الأهمية من فعله -صلى الله عليه وسلم- حين وصل إلى دار الهجرة المدينة المنورة، فلم تطأ قدمه بيت أحد من أصحابه -رضي الله عنهم- حتى اطمأنّ إلى تحديد مكان المسجد النبوي، حيث أنيخت ناقته بأمر ربها، فكان أول عمل باشره في المدينة بناء ذلك المسجد الذي أصبح فيما بعد ملتقى المسلمين، ومنطلق دعوتهم، ومركز توجيه الجيوش.
وكذلك كانت المساجد في عهودها الزاهرة جامعات علمٍ، ومنابر هدى، ومراكز إشعاع.
والشيء الذي لا يداخله شك أنه كلما كانت المساجد مؤديةً دورها في حياة المسلمين، كانت عزة الأمة وسيادتها وهيبتها، وكلما جردت المساجد من مهامها، وأسندت إلى جهات أخرى في المجتمع، كلما تخلف المسلمون وضعفوا، وطمع بهم العدو. والتاريخ خير شاهد.
من أجل ذلكم -معاشر المؤمنين- جعلت عمارة المساجد من علامات الإيمان بالله والخشية، قال الله-تبارك وتعالى-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [التوبة:18]، والعمارة في الآية هنا المراد بها إقامة البناء، وتشييده، يؤكد ذلك ويحث عليه ويبين ثواب فاعله ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة"، يعني بيتاً في الجنة، فالمثلية الواردة في الحديث جاءت لإيضاح أن الجزاء من جنس العمل، فهي تعني المثلية في الكم لا في الكيف؛ لأن موضع شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما صرح بذلك الخبر عن الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا شامل لكل مسجد، صغيراً كان أو كبيراً، أو كان بعض مسجد، فالحديث هنا جاء من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، فالمسهم مع غيره في بناء مسجد، والمجدد له، ومن أدخل توسعة عليه، يكون داخلاً في مضمون الحديث السابق.
ويؤيد هذا المعنى ما ورد من أحاديث صحيحة؛ فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من بنى لله مسجداً قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة"، وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بنى لله مسجداً يذكر فيه، بنى الله له بيتاً في الجنة"، وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفر ماءً لم يشرب منه كَبِدٌ حرّى - أي عطشى - من جن، ولا إنسٍ، ولا طائر، إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجداً كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتاً في الجنة".
وهذا -بالطبع- لا يحصل إلا بمشاركة جماعة في بناء مسجد، تكون حصة الواحد منهم قدراً معيناً. والمراد بالباني في قوله: "من بنى لله مسجداً"، المراد به المتبرع بالبناء، سواء باشره في نفسه، أو استأجر أجيراً لبنائه، أما الصانع والأجير فهو -وإن كان لا يعدم أجراً إذا اصطحب النية واحتسب الأجر- لا يدخل فيما نص عليه الحديث وهو بيت في الجنة.
معشر المصلين: ثمة أمرٌ مهم يتعين التنبيه عليه في هذا الشأن في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولو كمفحص قطاة"، فالقطاة طائر من الطيور، ومفحص القطاة محل فحصها، أي مجثمها لتبيض، ومعلوم أن ذلك المكان صغير جداً، بل إن الحديث صرح بما هو أصغر من مفحص القطاة كما سمعنا آنفاً، ومفحص القطاة لا يمكن بحال أن يتسع لمصلٍّ، فدل على أن أي تبرع يُسهم في بناء مسجد، موعودٌ صاحبه ببيت في الجنة، فلله الحمد والشكر والمنة.
نفعنا الله بهدي كتابه، وسنة نبيه، وفعل الصحابة. أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضي لنا الإسلام ديناً، وهدانا له، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله، وإنما دفعني للتوقف عند المعاني السابقة توضيحاً وبياناً، حالُ كثير من المتبرعين لبناء المساجد؛ إذا أراد إخراج مبلغ تبرعاً لمسجد نصَّ وأكّد على أن يصرف تبرعه في البلك أو الأسمنت أو الحديد، بل يذهب بعضهم إلى ما هو أبعد من ذلك؛ ليقول: لا تضع تبرعي في فرشة المسجد ولا المكيفات ولا الإنارة ولا دورات المياه، بحجة أن تلك عرضة للزوال قريباً!.
ولو استعرضت التاريخ الإسلامي كله ما وجدت مسجداً شُيدِّ وبُني وظل بناؤه دهراً طويلاً، حتى الحرمين الشريفين، بل حتى الكعبة المشرفة، فكم مرة جُدِّد بناؤها أو رُمِّم!.
ثم، هل في الأحاديث السابقة المرغبة في بناء المساجد نصٌ وشرطٌ قيّدَ حصول أجِر البناء على أن يدوم دهراً طويلاً؟ لا يوجد.
ومن المعلوم لدى كل أحد في هذا العصر، أنه لو شُيِّد مسجدٌ وخلا من الفرش والتكييف والإنارة فلن يدخله أحد مهما كان بناؤه متيناً ومتقناً؛ وعليه، فتوجيه مبالغ من التبرعات لأي غرض يخدم بناء المسجد من إنارة وفرش وتكييف وسائر خدماته التي تعين على إقامة الصلوات فيه داخله -إن شاء الله تعالى- في البناء والتشييد الموعود صاحبه ببيت في الجنة، فلا يوجد وجه شرعي لتلك التضييقات التي يظنها بعض المتبرعين.
بقي التأكيد على أهمية الإخلاص، وأنه روحُ كلِّ عملٍ خيري وتطوعي، وإن كان في بناء المساجد آكد من غيره، فقد جاء التصريح به في الأحاديث السابقة من وجهين: الأول: في نص الحديث من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يبتغي به وجه الله". الثاني: من تخصيص القطاة بالذكر دون غيرها، لأن العرب يضربون بها المثل في الصدق.
اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات، اللهم...