العالم
كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
الصلاة وما أدراك ما الصلاة!! الحديث عنها ذو شعب ونوافذ ورتب، الكلام عنها لا يمل، وتكراره من أفضل الجمل، حينما تتراكم المشاغل، وتتوالى الهموم القواتل، وتضيق النفوس، وتبقى في قلق وعبوس، حينما تنشغل الأبدان وتندهش الأذهان وتكثر الخطوب وتنمو الكروب، في خضم الحوادث وتغير الكون والكوارث، حروب طواحن، وفتن فواتن، ومحن نوازل، وأعداء تكاتل، يحتاج ما ينفس الطريق ويزيح الهم والضيق...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي فرض الصلاة، أحمده سبحانه أنزل في كتابه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)، وأشهد أن لا إله إلا الله -جل في علاه-، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رفعه مولاه حتى فرض الصلاة عليه في سماه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وخلفائه، وصلى الله وسلم على أتباعه إلى يوم لقائه.
أما بعد:
فاتقوا الله لعلكم تفلحون، واتبعوا رسولكم لعلكم تهتدون، وأقيموا صلاتكم لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: الصلاة وما أدراك ما الصلاة!! الحديث عنها ذو شعب ونوافذ ورتب، الكلام عنها لا يمل، وتكراره من أفضل الجمل، حينما تتراكم المشاغل، وتتوالى الهموم القواتل، وتضيق النفوس، وتبقى في قلق وعبوس، حينما تنشغل الأبدان وتندهش الأذهان وتكثر الخطوب وتنمو الكروب في خضم الحوادث وتغير الكون والكوارث، حروب طواحن، وفتن فواتن، ومحن نوازل، وأعداء تكاتل، يحتاج ما ينفس الطريق ويزيح الهم والضيق، يحتاج المرء ما يزيل عن مشاعره، ويخفف من لأوائه ومصائبه، يطلب الراحة النفسية والحياة القلبية والأجواء الإيمانية بعيدًا عن القلق والاضطراب والتكتلات والاكتئاب.
فأين يوجد ذلك -أيها الخطيب-؟! وأسرع الخطا والحديث الرغيب؟! فالجواب باختصار ما يتكرر في الليل والنهار خمس مرار لعلكم فهمتموه.
إنه الصلاة، عنوان السعادة وبوابة الانشراح والطمأنينة والراحة والواحة الإيمانية، أقصر باب تصل به إلى ربك، وأعظم طريق تقضي به حاجتك، ليس الحديث عن حكمها فحكمها معروف، من جحدها كفر، ومن تركها تكاسلاً وتهاونًا عالمًا متعمدًا كفر.
ليس الحديث عن مكانها، فمكانها بيوت الله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)، ليس الحديث عن عمارة بيوتها، فعمارتها بالصلاة فيها بأوقاتها الخمسة فجرًا وظهرًا وعصرًا وعشاءً ومغربًا: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ).
ليس الحديث عمن تخلف وصلى في البيت أو المسكن أو العمل وتكيف، وليس الحديث عن أركانها وشروطها والطمأنينة فيها وواجباتها، فذاك معروف، وفي موطنه وكتبه مألوف.
الصلاة -يا مسلمون- شعار المسلمين، ودثار المؤمنين، الصلاة عمود الدين وركنها العظيم الركين، بدون الصلاة لا دين ولا إسلام، بدون الصلاة لا راحة ولا إجمام: "لا حظ في الإسلام لمن ضيع الصلاة".
الصلاة تهد السيئات هدًا، وتمحو الخطايا محوًا، فعن الرسول المرتضى: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله". رواه مسلم.
بل في الصحيحين: "أرأيت لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل كل يوم منه خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟!"، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: "فذلك الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا".
الصلاة أتدرون أين فرضت؟! فرضت من فوق سبع سماوات، هي الوحيدة المفروضة في السماء، فرضت خمسون صلاة ثم خففت فضلاً وإحسانًا وتسهيلاً وتيسيرًا إلى خمس صلوات، خمس في العدد وخمسون في الثواب والأجر الأمجد، فأين مضيع الصلاة والمتكاسل عنها!!
الصلاة مفتاح الأرزاق والبركات، ودفع الشرور والمهلكات: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]، لاحظ -أيها المستمع الكريم- قول الحكيم العليم: (وَاصْطَبِرْ)، ولم يقل: واصبر لما تقتضيه من الاصطبار والمجاهدة على أدائها والمحافظة على أوقاتها.
الصلاة مفتاح الجنان: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:9- 11].
الصلاة مفزع لكل إنسان؛ يقول بعض السلف: "إذا أردت أن تناجي الله فافزع إلى الصلاة"، ويقول الآخر: "من مثلك -يا ابن آدم-، إذا أردت حاجة إنما هو الوضوء والصلاة".
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كربه أمر وهم وكدر فزع إلى الصلاة، الصلاة أكبر عون على أمور الدنيا ومتاعبها: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ).
الصلاة غذاء القلوب ومفتاح الدروب وإزاحة الكروب، الصلاة زاد الأرواح وسلاح وكفاح، الصلاة مناجاة ودعاء وخشوع وخضوع وثناء، الصلاة تعلق بالعلي الأعلى، الصلاة افتقار وانكسار وانطراح، وتذلل وعبودية وارتياح، ملجأ المسلم وملاذ المؤمن، الصلاة البلسم الشافي والدواء الكافي والغذاء الوافي، الصلاة أعظم وسيلة للصلاح، ودعوة للإصلاح، عنوانها حي على الصلاة حي على الفلاح.
جنة وكفاح، وثمارها الفوز والنجاح، الصلاة جمعت أمهات العبادة القولية والفعلية، بها توحيد وعقيدة، مفتاحها "الله أكبر" وختامها "السلام عليكم ورحمة الله"، تفتح بالتوحيد وتختم بالتوحيد، الصلاة شرع لها مقدمات كالمحافظة على الأوقات والطهارة والأذان، علامة الإيمان وحب الرحمن ومناجاة المنان، تبهج النفوس وتعطر البيوت وتنير الوجوه، فويل ثم ويل ثم ويل لمن تركها وابتعد عنها، فويل ثم ويل ثم ويل لمن تركها وابتعد عنها وتخلف عن ركبها وتساهل بأدائها، أين فرحه وسروره؟! أين جماله وابتهاجه؟!
الصلاة نور المؤمن، ونجاة من الفتن، وسلامة من المحن، هي الفاصلة بين الكفر والإيمان وحزب الله وحزب الشيطان، منزلتها منزلة الرأس من الجسد، فلا حياة لمن لا رأس له ولا جسد، الصلاة لها طعم ولذة وانتعاش وأنس وجنة.
هنيئًا لمن كان عليها محافظًا، هنيئًا لمن كان لها مقيمًا ملازمًا يوقظ نفسه ويصلي خمسه ويأمر ولده وينبه زوجه: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع".
قل لي بربك: إذا لم تنشئ أولادك وبناتك على الصلاة فعلى أي شيء تربيهم؟! أم على أي طريق تعلمهم؟!
الصلاة أكبر معلمة وأعظم مدرسة وأجل قدوة، فإذا تساهلتِ -أيتها الأم- وتهاونتَ -أيها الأب- فعلام ينشؤون؟! وعلى أي منهج يسلكون، فاحذر ثم احذر التساهل بالصلاة، اجعل شعارك: "قوموا إلى الصلاة"، ودعاءك: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي).
إن من المؤسف المكدر والمحزن المفطر أن نحرص على تربيتهم وإيقاظهم إلى مدارسهم، والويل لمن تأخر واللجاج لمن تغيب والصخب لمن تهاون والوعيد والتهديد، أما الصلاة فيكفيك: "يهديهم الله"، "يصلحهم الله"، نعم جواب سديد لكن هلا قلت هذا في دنياهم! والعجيب والغريب -أيها الأخ الحبيب- أن الفارق بين الصلاة والدراسة ساعة واحدة، في الصلاة نائمون وعن المساجد بعيدون، في الدراسة حاضرون ولها مستعدون قريبون.
فحذارِ صديقي وقريبي وجاري من الصلاة في البيوت بين الأبناء والجواري، أترضى أن تموت وولدك لا يعرف المسجد، أتحب أن تموت وولدك لا يعرف الصلاة!!
فكن قدوة حسنة ولا تكن قدوة سيئة، عوّد بنيك على الآداب في الصغر كيما تقر بهم عيناك في الكبر، فإنما مثل الآداب تجمعهم في عنفوان الصلاة كالنقش في الحجر.
والله ثم والله لو أن في صلاة الفجر مع الجماعة بضع دراهم معدودة لرأيت المسارعة والوصية للحضور والمشاهدة، فتذكر انتقالك وخلفك أولادك وشعارهم الصلاة، وبيوتهم بيوت الله، عندها تفرح وتسعد، وتدعو وتحمد، ويُدعى لك وتُحمد.
قلت ما قلت وأستغفر الله الواحد الأحد..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، الصلاة -عباد الله- مفزع عند الشدائد، ومضائق الأمور والمصائب، انظر إلى حال نبينا كان إذا حزبه أمر صلى، وها هو جريج العابد يتهم بجريمة الزنا وتهدم صومعته ويضيق عليه ويؤتى بالصبي بين يديه، فلجأ إلى الصلاة، واستأذنهم للصلاة ليركع ركعتين، ففرج الله عنه وكشف غمه ونفس كربه، فبان الصحيح واتضح التصحيح.
والناس إذا غارت آبارهم، وانقطعت مياههم، وتأخر غيثهم، فزعوا إلى الصلاة، وإذا تغير في الكون كسوف أو خسوف فزع الناس إلى الصلاة، صلاة لا نظير لها بطولها وعددها، ترفع العقاب وتدفع العذاب، وإذا احتار الإنسان في أمر لم يجزم عليه وعنده برهان فزع إلى صلاة الاستخارة ليطمئن قلبه وينشرح لأمره فؤاده.
الصلاة من حافظ عليها فهو السعيد، ومن ضيّعها فهو الشقي، يا خسارة من ترك الصلاة، يا خسارة من ترك الصلاة، يا خسارة من تهاون بالصلاة، يا خسارة من لم يعرف بيوت الله، يا خسارة من لم يتلذذ بمناجاة الله.
أي حياة هذه؟! وأي عيشة هو فيها وهو بعيد عن أعظم الصلات وأقوى الروابط والاتصالات؟!
وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا | وَخُذْ بِنَصِيْبٍ فِي الدُّجَى مِنْ تَهَجُّدِ |
وَنَادِ إِذَا مَا قُمْتَ فِي اللَّيْلِ سَامِعًا | قَرِيْبـًا مُجِـيْبًا بِـالْفَوَاضِلِ يَبْتَدِيْ |
وَمُـدَّ إِلَيْهِ كَـفَّ فَقْرِكَ ضَارِعًا | بِقَلْبٍ مُنِيْبٍ وَادْعُ تُعْـطَ وَتَسـْعَدِ |
فعين بكت من خشية الله حرمت | على النار بنـص الحديث المسـدد |
الصلاة شعار الأنبياء ووصيتهم للأبناء: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ)، ويأتي الثناء العطر (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ).
بل الصالحون لأولادهم يوصون عند الحياة وعندما يموتون: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ)، وعند اللحظات الحرجة والمواقف الصعبة والآية المحكمة تأتي الكرامة الباهرة، فعيسى في مهده وحجر أمه قال عنه ربه: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم:31].
صاحب الصلاة لا هم معه ولا غم يصحبه: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج:19-23].
في الصلاة تتهاوى الأشغال ويتفرغ البال، ولهذا كان رسولنا يقول لمؤذننا: "يا بلال: أقم الصلاة، أرحنا بها"، كيف لو رأى من أمته من يتركها، وآخر لا يصليها، وثالثًا لا يقيمها، ورابعًا يصليها في منزله، وخامسًا تارة وتارة، والسادس يتضايق من طولها وحضورها، ولسان حاله: أرحنا منها: (وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى).
الصلاة عندها تتضاءل الماديات، وتتلاشى الدنيويات، فعندها الصلاة قرة العين، وسعادة الدارين، يقول سيد الثقلين: "وجعلت قرة عيني في الصلاة".
إن الذين تقر أعينهم في دنياهم عن دينهم فيشتغل بماله أو ولده أو منصبه وجاهه أو تجارته وعقاره أو كبره وبستانه عن صلاته، أين الذين يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات؟! على الأرصفة والاستراحات!! أو في الملاعب والمباريات!! أين هم عن اللذة والأنس والقرة: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59].
فلا تبتغِ بالصلاة بديلاً، واجعلها لغليلك مشربًا هنيئًا، ولعليلك دواءً وشفاءً مريئًا، ولقلبك سرورًا وابتهاجًا، إذا هممت بشيء فافزع إلى الصلاة، إذا تراكمت عليك الديون فافزع إلى الصلاة، إذا أصابك الهم والغم فافزع إلى الصلاة، إذا تكالبت عليك المصائب وضاقت عليك المطالب فافزع إلى الصلاة، إذا جاءك المرض وحل بك النصب فافزع إلى الصلاة، إذا حصلت لك مشاكل أسرية وافتراقات أخوية فافزع إلى الصلاة، إذا أردت الاستقامة وأردت الهداية فافزع إلى الصلاة، إذا رأيت ضالاً وتائهًا منحرفًا فَمُرْهُ بالفزع إلى الصلاة، إذا تعثرت عليك الحياة واستعصى الولد والبنات فافزع إلى الصلاة، إذا أردت طعم الحياة ولذة المناجاة فافزع إلى الصلاة، إذا قلّت بركتك في مالك وولدك فافزع إلى الصلاة.
الصلاة مفتاح السعادة، وأنس الحياة الطيبة، كيف تطيب الحياة والإنسان بعيد عن الصلاة!! كيف تتلذذ بالحياة والإنسان لا يعرف بيوت الله!! كيف يأنس وهو يصلي في البيوت!! فأقم صلاتك قبل مماتك يستنر قلبك وقبرك.
وخلاصة الكلام في هذا المقام ليكن شعارنا: "صلاتي حياتي"، "صلاتي نجاتي"، "صلاتي راحتي".
هذا؛ وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا من المحافظين على الصلوات في المساجد.