الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصلاة |
تكلم ابن القيم -رحمه الله- عن أسرار الصلاة بكلام فريد نقلنا طرفاً منه في خطبة سابقة، وكان حديث مجرب أدرك روح الصلاة والتذ بها، وعب من معينها الذي لا ينضب. سأنقل عنه جل حديثي اليوم من كتابه أسرار الصلاة وأمتع نفسي وإياكم بذاك الحديث، وجميل أن نتذكر تلك الأسرار والمعاني العظام في صلاتنا، ومتى ما استصحبنا...
الخطبة الأولى:
إنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى أله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
قال اللَّهِ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلعمران:102].
أيها الإخوة: سنستكمل اليومَ حديثناً سبق أن ذكرنا طرفاً منه في جمعة مضت، إنه حديثٌ عميق، بقدرِ عمقِ النفسِ الإنسانيةِ وخباياها، نحتاجه احتياجَنا لمقومات الحياة من طعامٍ وشراب وهواء بل أشد؛ فمتى وعيناه وتمثلناه عِشنا عيشةَ السعداء، ونعمْنا نعمةً لا يصل إليها إلا من بلغ تلك المنزلة.
ومفتاحُ حديثنا هذا ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي إِلَى صِهْرٍ لَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَالَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لِبَعْضِ أَهْلِهِ يَا جَارِيَةُ ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ.. قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ! فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ"(رواه أبو داود وصححه الألباني). ومعنى فأستريح أي: أستريحُ بها، ويكونُ لي فيها راحةً عما أهمني.
أيها الأحبة: تكلم ابن القيم -رحمه الله- عن أسرار الصلاة بكلام فريد نقلنا طرفاً منه في خطبة سابقة، وكان حديث مجرب أدرك روح الصلاة والتذ بها، وعب من معينها الذي لا ينضب.
سأنقل عنه جل حديثي اليوم من كتابه أسرار الصلاة وأمتع نفسي وإياكم بذاك الحديث، وجميل أن نتذكر تلك الأسرار والمعاني العظام في صلاتنا، ومتى ما استصحبنا هذه المشاعر والأسرار التي ذكر تذوقنا الصلاة، وصارت لنا راحة وأنساً، وصرنا نفزع إليها ولسان حالنا يقول: "لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ..".
أيها الإخوة: أعظم شعور ينبغي استحضاره عند القيام بين يدي الله -تعالى- عبودية التكبير؛ فقد أُمرَ المصلي عند بداية الصلاة أن يقولَ "الله أكبر" بعد أن يستقبل القبلة -بيت الله الحرام- بوجهه، ويستقبل الله -عز وجل- بقلبه؛ لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض.
ويقوم بين يدي الله مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه، وألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه طرفة عين؛ لا يمنة ولا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه، وأقبل بكليته عليه.
ثم كبَّره بالتعظيم والإجلال، وواطأ قلبُه لسانَه في التكبير؛ فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء، وصدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله -تعالى- يشغله عنه؛ فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله؛ فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير أخرجه من لُبس رداء التكبّر المنافي للعبودية، ومنعه من التفات قلبه إلى غير الله.
أيها الإخوة: وللاستفتاح في الصلاة عبودية خاصة؛ فإذا قال: "سبحانك اللهم وبحمدك" وأثنى على الله -تعالى- بما هو أهله فقد خرج بذلك عن الغفلةِ وأهلِها؛ فإن الغفلة حجاب بينه وبين الله، وأتى بالتحيةِ والثناءِ الذي يُخاطبُ به الملكُ عند الدخول عليه تعظيما له وتمهيداً، وكان ذلك تمجيداً ومقدمةً بين يدي حاجته؛ فكان في الثناء وتعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه، ورضاه عنه، وإسعافه بفضله حوائجه.
فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنه أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرفُ مقامات العبد وأنفعُها له في دنياه وآخرتِه، فهو أحرص شيء على صرفه عنه، وانتفاعه دونه بالبدن والقلب؛ فإن عَجِزَ عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطَّله، وألقى فيه الوساوس؛ ليشغلَه بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب -تبارك وتعالى-.
فأُمر العبدُ بالاستعاذة بالله منه؛ ليسلم له مقامه بين يدي ربه وليحيي قلبه، ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه، ونعيمه وفلاحه؛ فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.
ولما علم الله -سبحانه وتعالى- حَسَدَ العدوِّ للعبد، وتفرَّغه له، وعلم عجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به -سبحانه-، ويلتجئ إليه في صرفه عنه، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته ومقاومته، وكأنه قيل له: لا طاقة لك بهذا العدو؛ فاستعذ بي أعيذك منه، واستجر بي أجيرك منه، وأكفيكه وأَمْنَعك منه.
قال ابن القيِّم قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهما الله-: "إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته، ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب، ويكفيكه".
فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده الله عنه. المهم أن يتواطأ اللسان والقلب فيما نقول ليتحقق المأمول.
فإذا أفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المونقة وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر، وكان الحائل بينه وبين ذلك النفس والشيطان فإن النفس منفعلة للشيطان، سامعة منه، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها، وطُرد ألَّم بها الملَك، وثبَّتها وذكّرها بما فيه سعادتها ونجاتها.
فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه ومناجاته؛ فليحذر كل الحذر من التعرّض لمقته وسخطه؛ بأن يناجيه ويخاطبه وقلبه معرِض عنه ملتفت إلى غيره؛ فإنه يستدعي بذلك مقته، ويكون بمنزلة رجل قرَّبه ملك من ملوك الدنيا، وأقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك، وقد ولاَّه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة ويسرة، فهو لا يفهم ما يقول الملك؛ فما الظن بمقت الملك لهذا؟! فما الظن بمقت الملكِ الحقِ المبينِ ربِ العالمين وقيومِ السماوات والأرضين؟!
نعوذ بالله من الخذلان.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله الا الله تعظيماً لشانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المؤيد ببرهانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: يقول الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة:281].
أيها الإخوة: فإذا شرع المصلي بالفاتحة بدأت المناجاة بينه وبين ملك الملوك، تعالوا بنا نسمع الوصف النبوي الكريم لهذه المناجاة، وما يتفضل به المنعم على العبد من الوصال، وما يفيضه عليه من الأفضال.. وما يمنحه من منح جزال؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "قَالَ اللهُ -تعالى-: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وزاد أبو داود في روايته: "فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ،: فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، قَالَ اللهُ -تعالى-: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قَالَ اللهُ -تعالى-: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي- فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ"(رواه مسلم).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة، ينتظر جواب ربِّه له، وكأنه يسمعه وهو يقول: "حمدني عبدي" " أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي" "مَجَّدَنِي عَبْدِي" "هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ".
وشرع للمصلي التأمين في آخر هذا الدعاء؛ تفاؤلاً بإجابته وحصوله وطابعاً عليه وتحقيقاً له؛ ولهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين عليه حين سمعُوهم يجهرون به في صلاتهم؛ فعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ، مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ"(رواه ابن ماجه وغيره وصححه الألباني).
وبعد أحبتي: عند التأملِ في الصلاةِ وأثرِها على النفس بعدما يطلع المسلم على أسرارها يقف متألما على ما مضى من أيام صلى فيها؛ فقد صلى وهو شارد الذهن شارد القلب. وللحديث عن أسرار الصلاة بقية إن شاء الله.