العربية
المؤلف | حسام بن عبد العزيز الجبرين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
من مشاهد الكرامة يوم القيامة: الذين يظلهم الله في ظله، فعندما يكون الناس في الموقف العظيم تحت وهج الشمس القاسي، يذوقون من البلاء شيئا عظيما، بينما يكون فريق من المؤمنين في ظل عرش الرحمن، لا يعانون الكربات التي يقاسي منها الآخرون، كما...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
إخوة الإيمان: كرر ربنا كثيرا ذكر يوم القيامة في كتابه، ووصفه بأوصاف متنوعة؛ منها: اليوم الآخر، يوم البعث، يوم الخروج، يوم الفصل، يوم الدين، يوم الحسرة، يوم الخلود، يوم الحساب، يوم الآزفة، يوم الجمع، يوم التلاق، يوم الوعيد، يوم التناد، يوم التغابن، وسماه بالساعة والقارعة والصاخة والواقعة والغاشية.
قال القرطبي: "وكل ما عظم شأنه تعددت صفاته وكثرت أسماؤه... ثم قال: فالقيامة لما عظم أمرها وكثرت أهوالها سماها الله -تعالى- في كتابه بأسماء عديدة ووصفها بأوصاف كثيرة" ا. هـ.
إخوة الإسلام: سنورد ما يحرك القلوب ترغيبا وترهيبا من حال مكرمين من المؤمنين في ذلك اليوم العظيم، وحال معذبين من عصاة المسلمين.
إن صنفا من عباد الله -جعلنا الله وأحبابنا منهم-: لا يفزعون عندما يفزع الناس، ولا يحزنون عندما يحزن الناس، أولئك هم أولياء الرحمن الذين آمنوا بالله، وعملوا بطاعته استعدادا لذلك اليوم، يؤمنهم الله في ذلك اليوم، وعندما يبعثون من القبور تستقبلهم ملائكة الرحمن تطمئن قلوبهم: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[ [الأنبياء: 101-103].
في ذلك اليوم يُنادى أولياء الرحمن طمأنة لهم: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)[الزخرف: 68-69].
والسر -والله أعلم-: في هذا الأمن الذي يشمل الله به عباده الأتقياء أن قلوبهم كانت في الدنيا عامرة بمخافة الله، فقد حكى الله قولهم: (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً)[الإنسان: 10-11].
وفي حديث قدسي: "قال اللهُ -عز وجل-، وعزَّتي لا أَجْمَعُ لعبدي أَمْنَيْنِ ولا خَوْفَيْنِ، إنْ هو أَمِنَنِي في الدنيا أَخَفْتُهُ يومَ أَجْمَعُ فيهِ عبادِي، وإنْ هو خَافَنِي في الدنيا أَمَّنْتُهُ يومَ أَجْمَعُ فيهِ عِبادِي"[صححه الألباني].
وكلما كان العبد أكثر إخلاصا وتوحيدا كان أكثر أمنا يوم القيامة؛ أخرج الشيخان عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لمَّا نَزلَت: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شقَّ ذلِكَ على أَصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: أيُّنا لا يَظلمُ نفسَهُ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ليسَ هوَ كَما تظنُّونَ، إنَّما هوَ كما قالَ لُقمانُ لابنِهِ: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].
ومن مشاهد الكرامة يوم القيامة الذين يظلهم الله في ظله، فعندما يكون الناس في الموقف العظيم تحت وهج الشمس القاسي يذوقون من البلاء شيئا عظيما بينما يكون فريق من المؤمنين في ظل عرش الرحمن لا يعانون الكربات التي يقاسي منها الآخرون، كما أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ -تعالى- في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: إمامٌ عدلٌ، وشابٌّ نشأَ في عبادةِ اللهِ، ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ في المساجدِ، ورجلانِ تحابَّا في اللهِ، اجتمعا عليهِ وتفرَّقا عليهِ، ورجلٌ دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنْفِقْ يمينُهُ، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناهُ"[أخرجه الشيخان].
والإظلال ليس مقصورا على السبعة المذكورين، ولابن حجر كتاب اسمه: "معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال".
ومن هذه الخصال: إنظار المعسر أو الوضع عنه، قال عليه الصلاة والسلام: "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله"[رواه مسلم].
اللهم اجعلنا يوم القيامة من الآمنين، اللهم أظلنا في ظل عرشك يوم الدين، واستغفروا الله إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وصلى الله على نبيه وعبده وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فليس حال العباد يوم القيامة على حال واحدة، فبعض المسلمين يكون قد قارف ذنوبا توقعه في أهوال ومشقات وعقاب، فممن أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنهم يعذب في الموقف العظيم: الذين لا يؤدون الزكاة، وجاء في الأحاديث أن عذابهم متنوع، قال عليه الصلاة والسلام: "من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع -وهو الحية الذكر المتمعط شعر رأسه لكثرة سمه- له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -يعني بشدقيه- يقول: أنا مالك أنا كنزك".
ثم تلا هذه الآية: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [آل عمران الْقِيَامَةِ: 180]"[أخرجه الشيخان].
وعند مسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم. فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار".
عباد الله: وممن يعذب في الموقف العظيم: المتكبرون، فالكبر جريمة كبرى في شرع الله، والله يبغض أصحابها أشد البغض وعندما يبعث الله العباد يحشر المتكبرون في صورة مهينة ذليلة؛ ففي الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي: "يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يومَ القيامةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ من كلِّ مَكَانٍ، يُساقُونَ إلى سِجْنٍ في جهنمَ يُسَمَّى: بُولَسَ تَعْلوهُمْ نارُ الأنْيارِ، يُسْقَوْنَ من عُصارَةِ أهلِ النارِ طِينَةَ الخَبالِ"[حسنه الألباني].
والذر: صغار النمل، وصغار النمل لا يعبأ بها الناس، فيطؤونهم بأرجلهم، وهم لا يشعرون.
وفي صحيح مسلم مرفوعا: "ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهمْ اللهُ يومَ القِيامةِ ولا يُزَكِّيهِمْ وذكر منهم: وعائِلٌ مُستَكْبِرٌ".
كما يبغض الله أسماء المتكبرين التي يطلقونها على أنفسهم استكبارا واستعلاءً؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أخنَعُ الأسماءِ عِندَ اللهِ رجلٌ تَسمَّى بملِكِ الأملاكِ".
زاد مسلم في رواية: "لا مالك إلا الله -عز وجل-".
قال القاضي عياض: "أخنع معناه أشد الأسماء صغارا".
وقال ابن بطال: "وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا".
معشر الكرام: سمعنا شيئا من حال الأتقياء في الموقف العظيم، وشيئا من حال العصاة.
نسأل الله موجبات رحمته، وعزائم مغفرته، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
ثم صلوا وسلموا...