المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | يوسف بن جمعة سلامة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
اليتم كلمة لها أثر في النفس؛ فاليتم بؤس وروعة، هو بؤس؛ لأنه يحرم الطفل وهو في مبتكر حياته أكبر القلوب عطفاً عليه، وحنيناً له. وهو رائع؛ لأن الله -عز وجل- اختاره لخير خلقه، وخاتم رسله، فقد جعل الله اليتم له مهداً، وحين كان أترابه يلوذون بآباء لهم، ويمرحون بين أيديهم كان عليه الصلاة والسلام يقلب وجهه، لم يقل قط: يا أبي؛ لأنه لم يكن له وقتئذ أب يدعوه، فقد توفى أبوه وهو ما زال جنيناً في بطن أمه، وتوفيت أمه وهو فتي صغير، وتوفى جده وهو في الثامنة من عمره، وكفله عمه أبو طالب، وما...
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: يقول الله -تعالى- في كتابه الكريم: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضحى: 9-11].
وافق يوم أمس الخميس الأول من شهر أبريل "نيسان" ذكرى يوم اليتيم، ونحن في كل مناسبة نبين رأي الإسلام كي يكون المسلم على بينه من أمره، وليتعرف على مدى عناية الإسلام بهذه الشريحة الهامة من أبناء الأمة.
إن ديننا الإسلامي الحنيف يحث على رعاية اليتيم، وإكرامه طيلة العام، إلا أن هذه الفكرة بتخصيص يوم تشارك فيه جميع وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية في إبراز مكانة الأيتام، ووجوب رعايتهم، وحث الأمة على كفالتهم، ومساعدتهم، وإبراز الأجر العظيم والثواب الكبير لأولئك المحسنين لهو أمر يستحق الثناء.
فنحن أمة ذات رسالة، حملنا الإسلام منذ قرون طويلة، فنمونا به وتشابك تاريخنا وتاريخه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جزاه الله عنا خير الجزاء، ما رأى أمراً يقربنا من الله إلا وأمرنا به، وما رأى أمراً يبعدنا عن الله إلا وحذرنا منه، فقد أمرنا عليه الصلاة والسلام بوجوب التمسك بالأخلاق الحميدة، والصفات الطيبة، ومعاملة الآخرين معاملة حسنة، ومن الأمور التي حثنا عليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجوب العناية بالأيتام.
أيها المسلمون: لقد حث الإسلام على رعاية الأيتام وعلى ضرورة الوقوف معهم ومناصرتهم، ومدِّ يد العون لهم، ورتب على ذلك أجرًا عظيمًا، كما نال اليتيم مكانة متميزة في الشريعة الإسلامية حيث اعتنى الإسلام بالأيتام عناية كبيرة، وفي القرآن الكريم آيات عديدة أنزلها الله -تعالى- في كتابه الكريم تحث على ذلك، منها قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) [البقرة: 220].
وقوله أيضاً: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا)[الإنسان: 8-9].
وجعل الله الإحسان إلى اليتيم سبيلاً للنجاة من عذاب يوم القيامة: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَة * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد: 11- 16].
ونهى عن قهر اليتيم وإهانته: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)[الضحى: 9].
وقال: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) الماعون: 1-3].
وأمر سبحانه وتعالى بالإنفاق على اليتيم، وجعل ذلك من وجوه الإنفاق، فقال: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة: 215].
واليتم كلمة لها أثر في النفس؛ فاليتم بؤس وروعة، هو بؤس؛ لأنه يحرم الطفل وهو في مبتكر حياته أكبر القلوب عطفاً عليه، وحنيناً له.
وهو رائع؛ لأن الله -عز وجل- اختاره لخير خلقه، وخاتم رسله، فقد جعل الله اليتم له مهداً، وحين كان أترابه يلوذون بآباء لهم، ويمرحون بين أيديهم كان عليه الصلاة والسلام يقلب وجهه، لم يقل قط: يا أبي؛ لأنه لم يكن له وقتئذ أب يدعوه، فقد توفى أبوه وهو ما زال جنيناً في بطن أمه، وتوفيت أمه وهو فتي صغير، وتوفى جده وهو في الثامنة من عمره، وكفله عمه أبو طالب، وما زال صلى الله عليه وسلم ينشأ ويترعرع، حتى إذا بلغ أشده أوحى الله إليه، وشرفه بحمل خاتم الرسالات، هذه الرسالة التي أخرجت البشرية من الظلمات إلى النور، فصلوات الله وسلامه عليه.
أيها المسلمون: لقد اهتم ديننا الإسلامي الحنيف باليتيم اهتماماً كبيراً، وأجزل الثواب العظيم لمن يتولى كفالة الأيتام، ويحسن معاملتهم، وتربيتهم، فنحن أمة ذات رسالة، حملنا الإسلام منذ قرون طويلة، وطبقنا أحكامه، فانتشر الحب والأمان والتكاتف بين أبناء المجتمع الإسلامي.
من أجل ذلك رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يملأ وصاياه وأحاديثه بوجوب احترام حق اليتيم في العطف والحياة.
يقف صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ويشير بأصبعيه السبابة والوسطى، ثم يقول: "أنا وكافل اليتيم في الجنة" هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرَّج بينهما.
أي أن كافل اليتيم لا يفصل مكانه في الجنة عن مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا مثل ما يفصل بين الأصبعين من مسافة!.
وفي ذلك تكريم لكافل اليتيم لا يساويه تكريم.
ويقول عليه الصلاة والسلام : "من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله، وصام نهاره، وغدا وراح شاهراً سيفه في سبيل الله، وكنت أنا وهو في الجنة أخوين كما أن هاتين أختان، وألصق أصبعيه السبابة والوسطى".
تأمل -أخي المسلم-: يوم يرى أولادنا شيئاً يعجبهم في السوق، فإنهم يطالبوننا بشرائه لهم، سواء أكان ذلك فاكهة أو ملابس... الخ، فمن للأطفال الأيتام؟
وكذلك في الأعياد والمناسبات نشتري لأبنائنا الملابس وما يدخل السرور والبهجة على قلوبهم، فقل لي بربك -يا أخي المسلم-: من سيشتري لليتيم ملابسه، ويكون له صمام أمان ضد الحرمان؟!
أيها المسلمون: نحن نشكو من شدة الغلاء وارتفاع الأسعار مع أن لكل منا دخلاً يعيش من ورائه، فكيف بمن لا معيل لهم، ولا دخل لديهم؟!
ومن عجب أن الأمة التي هذا رسولها، والتي هذه مكانة اليتيم فيها، هي أفقر بلاد الله في المؤسسات التي ترعى الأيتام.
أفهذه هي الأمة التي رسولها محمد -عليه الصلاة والسلام-؟!
أفهذه هي الأمة التي مجَّد رسولها اليتيم؟!
يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
ويقول أيضاً: "إن أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم".
ويقول أيضا: "والذي بعثني بالحق، لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم، ولان له في الكلام، ورحم يتمه وضعفه...".
ويقول أيضاً: "من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله، كان له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين" وفرق بين أصبعيه: السبابة والوسطى.
ويقول أيضا: "خيرُ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشرُّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه".
فأين نحن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لم نكفل الأيتام؟!
وإلى من ندع ذلك الطفل الذي فقد أباه أو أمه أو والديه كليهما؟!
خاصة في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها بلادنا فلسطين نتيجة للهجمة الشرسة التي يقوم بها المحتلون على الأرواح والمقدسات والأراضي والمزروعات والبيـوت، حيث طالت البشر والشجر والحجر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن مجتمعنا الفلسطيني زاخر بالشهداء وبأبناء الشهداء، وبالأيتام.
لذلك يجب علينا: أن نقيم المؤسسات التي ترعى الأيتام.
ويجب علينا: دعم المؤسسات التي تربي الأيتام.
وكذلك وجوب مساندة المؤسسات التي تهتم بالأيتام، وتقدم لهم الخدمات في شتى المجالات، وأملنا في شعبنا وأمتنا كبير -إن شاء الله-.
ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخفف من القراءة في الصلاة إذا سمع بكاء طفل، حتى يعطي الفرصة لوالديه بالإشفاق عليه، فكيف به إذا سمع بكاء طفل فقد والديه أو أحدهما؟!
وعندما زار صلى الله عليه وسلم بيت الشهيد زيد بن حارثة -رضي الله عنه- ولاذت به ابنة زيد، بكى حتى انتحب.
فماذا يفعل الموسرون منا للأيتام وقد استشهد آباؤهم؟!
وماذا يفعل الأغنياء من المسلمين عندما يشاهدون الأطفال يودعون الشهداء من آبائهم وأولياء أمورهم ومعيليهم على شاشات الإذاعات المرئية؟!
ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؟!
فمن سيحيط بالعطف والحنان والشفقة والإحسان أولئك الأيتام الذين فقدوا معيليهم؟! إذا لم تتكاتف الأيدي الرحيمة كلها للإحاطة بأولئك القاصرين، فيعوضوهم عن تلك الأيدي الأبوية الرحيمة التي استشهدت في سبيل الدفاع عن عقيدة الأمة، فنحن مهما قدمنا لهم فلن نعوضهم إلا الشيء اليسير؟!.
أيها المسلمون: إن قضية اليتيم في بلادنا فلسطين قضية مطروحة، بل هي قضية تفرض نفسها على المجتمع، ولا بد من بحثها ودراستها، وإيجاد الحلول الناجعة لها، فقد ذكرت بعض التقارير: أن عدد الأيتام في فلسطين يصل إلى عدة آلاف.
وللحقيقة فإن هناك مؤسسات عديدة في القدس والضفة والقطاع تقوم برعاية الأيتام، لكنّ هذه المؤسسات لا تتحمل العدد الكبير الموجود من الأيتام.
نحن نريد أن تعم هذه الفكرة جميع مدننا وقرانا ومخيماتنا.
لماذا لا تخصص أماكن لرعاية هؤلاء الأيتام؟!
لماذا لا تقوم جامعاتنا، وكلياتنا بإعفائهم من الرسوم؟
بل ويتعدى ذلك إلى تقديم مساعدات مالية وعينية لهم خصوصاً للمجتهدين منهم؟!
لماذا لا نستغل الأعياد والمناسبات لتقديم الهدايا المناسبة لهم حتى نرسم الابتسامة على شفاهم؟
هؤلاء نساعدهم اليوم، وسيساعدون غيرهم غداً -إن شاء الله-، ونحن نرى اليوم -والحمد لله- أن من بين هؤلاء الأيتام من أصبح يتولى مراكز هامة بفضل جدهم واجتهادهم.
أيها الأخ الكريم: أينما كنت حياك الله، وإنني لأهمس في أذنيك بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الراحمون يرحمهم الرحمن".
وإن التعاون على الخير سبيل هذه الأمة منذ أشرقت شمس الإسلام؛ كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
فعندما تتعاون الأمة تحقق ما تصبو إليه من خير.
فهذا نداء أوجهه إلى الأيدي الخيرة، والقلوب الرحيمة، والأنفس المعطاءة، والجمعيات والمؤسسات الخيرية، ليساعدوا أخوة لهم من أبناء شعبهم، فقدوا آباءهم وأمهاتهم، كي يعيشوا حياة كريمة: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
تعالوا -أيها الإخوة الكرام- لنعلنها صريحة مدوية.
تعالوا لنرسم البسمة على الشفاه المحرومة!.
تعالوا لندخل السرور على القلوب الحزينة!.
تعالوا لنمسح رأس يتيم!.
تعالوا لندخل السرور على قلب طفل فقير!.
تعالوا لنرتل سوياً قول الله -تعالى-: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) [الضحى: 9].
أملي أن نستجيب! فما زال حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكرر على مسامعنا: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين".
نسأل الله أن يحفظ شعبنا ومقدساتنا من كل سوء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.